اخبار الوطن العربي

طرابلسيون أصابتهم عدوى اللجوء إلى أوروبا

أصابت عدوى اللجوء السوري الى أوروبا اللبنانيين في الأشهر الأخيرة. تحقيقات تلفزيونية مصورة كثيرة أظهرت لبنانيين على مراكب اللجوء وفي بعض الجزر اليونانية ومحطات اوروبية اخرى. يتصدر الطرابلسيون موجة اللجوء اللبنانية هذه. القبس زارت مدينتي طرابلس والميناء لاستطلاع هذه الظاهرة.

قبل نحو سنة ونصف السنة حزمت الحكومة اللبنانية أمرها ووضعت حدا للصراعات المسلحة في أحياء طرابلس بين منطقتي باب التبانة وجبل محسن. في غضون ساعات استعادت المدينة هدوءها واختفى المسلحون وقادة المحاور الذين روعوا المدينة على مدى عشرين من الجولات القتالية. تطبيق الخطة الامنية في عاصمة الشمال تزامن مع وعود بالحاقها بخطة اقتصادية تريح المدينة وتوفّر فرص عمل لأبنائها.

تسلّط الاضواء على طرابلس في كل مرة من بوابة المعضلات الكبرى: الارهاب، التطرف، حروب المحاور. اليوم تعود الى الاضواء من باب اللجوء والهجرة غير الشرعية في موسمها السوري، عبر مرفأ طرابلس. هذه المشكلات ليست مستجدة وانما هي أعراض تظهر بين حين وآخر لعلاقة المدينة الملتبسة بالكيان اللبناني منذ نشأته، على ما يرى عامر أرناؤوط، وهو أحد مسؤولي منظمات المجتمع المدني في طرابلس.

وطوال الحرب الاهلية رزحت طرابلس للتسلط السوري بالحديد والنار. في زمن اعادة الاعمار والانماء ظل الامر محصورا بالعاصمة بيروت. وممارسات السياسيين غير الناضجة استعملت طرابلس ولم تستعمل نفوذها من أجل طرابلس.

بؤرة الفقر والحرمان

في عاصمة الشمال مرفأ يعمل بالدفع الذاتي وهو أكبر وأهم من مرفأ بيروت، الا انه يستعمل من قبل دول محددة ولبضائع محددة كالمواشي وما شابه، وفي الشمال مطار ممنوع تشغيله، علما بان مدرجه كبير وطريقه آمن. وهناك معرض رشيد كرامي الدولي بمساحة مليون متر مربع ويطالب الطرابلسيون بعودة الحياة إليه وإقامة كل المعارض فيه. بؤرة فقر في محيط أشد حرمانا، هذه صورة طرابلس اليوم. حروب التبانة والمحاور دفعت بالاهالي للخروج من بيوتهم في التبانة وابي سمرا الى مناطق اخرى. وحل مكان اهل طرابلس ريفيون فتزايدت في المدينة أحزمة البؤس وتصاعدت أجواء التطرف وتفاقم الحرمان والجهل والبطالة و«التدين الوهمي» كما يسميه احد ابناء المدينة. أكثر من 90 في المئة من سكان باب التبانة (أشد الاحياء بؤسا وفقرا واكتظاظا في لبنان) اليوم هم من السوريين والعكاريين. غالبية قادة المحاور والمقاتلين كانوا من العاطلين عن العمل وحظيوا بتمويل الزعامات التقليدية وتيار المستقبل من ضمن المناكفات بين سياسيي المدينة.

مدينة المآذن والاعتراض

طرابلس اليوم تضم 62 مسجدا وهي الثانية بعدد المآذن بعد القاهرة. يتوزع سكان طرابلسي على ثلاث فئات: عائلات اساسية وهم اقلية يشكلون 40 في المئة من اهل المدينة، والريفيون النازحون ونحو 200 الف سوري. بفائض من القهر يتحدث أبناء المدينة عن الظلم واللاعدالة في تعامل الدولة معهم مقارنة بسواهم من ابناء الوطن، مصوبين تحديدا على حزب الله. بحوزتهم حجج تبث ادعاءاتهم: ملف الموقوفين الإسلاميين من دون محاكمات منذ سنوات، اعتقال الاجهزة الامنية لعدد من ابناء طرابلس من الذين قاتلوا في سوريا ضد نظام بشار الاسد (فيما حزب الله يرسل جيشه علنا الى هناك للقتال مع نظام الاسد)، ووصولاً الى عدم توفير مؤسسات انتاجية للعمل في المدينة.

لا يفاجئك ان تسمع من طرابلسيين، شبانا وكهولا، ان المال السياسي يتدفق على طرابلس في الحروب ويختفي حين تسكت أصوات الرصاص. التباين السياسي بين العائلات السياسية افقد طرابلس وزنها. كل جهة تطرح مشروع للمدينة تواجه بعرقلة من الجهة الاخرى. البديل المتوافر هو الاسلاميين. باختصار مدينة متروكة لقدرها. هذا ما يقوله أحد المخاتير.

الهروب عبر البحر

لم يبق امام ابناء طرابلس سوى ركوب البحر والبحث عن مستقبل مفقود في بلدهم، تشبها بالسوريين المقيمين في لبنان، والذين افتتحوا خط الهجرة نحو الحلم الاوروبي من مرفأ طرابلس. لكن فكرة الهجرة كما يبدو من خلال أحاديث ومشاهدات مع أهل المدينة أخذت مداها قبل أشهر وبدأت تتراجع في الايام الاخيرة، لا سيما بعد حادثة غرق عائلة صفوان اللبنانية بأكملها قبالة السواحل اليونانية. لا يخفي أحد مشايخ المدينة (فضل عدم الكشف عن اسمه) ان اعداد الطرابلسيين الذين «هاجروا» الى سوريا للالتحاق بــ«داعش» او «النصرة» تفوق عدد المهاجرين الى اوروبا، مشيرا ان اغلبهم من القيادات، وهذا مؤشر خطير.

من مدينة الميناء، مرفأ طرابلس وواجهتها البحرية، يغادر لبنانيون وسوريون نحو تركيا ومن هناك تبدأ رحلة اللجوء او الهجرة غير الشرعية. الخط البحري افتتح منذ نحو ثلاث سنوات وهو يسيّر رحلات شبه يومية، وفق الاجواء المناخية. بينما نتجول في شوارع الميناء نصادف احدى العائلات التي هاجر ابناؤها، او عائلة جهزت أوراقها للهجرة ثم عدلت عنها، او أحد الاشخاص الذين وصلوا الى المانيا وعادوا ادراجهم الى لبنان بعد ايام معدودة.

ميناء التنافر والهجرة

تتفوق «الميناء» على مدينة طرابلس في عدد المهاجرين. الى مكتب مختار الميناء نسيم السنوسي، حضرت سيدة لتطلب جواز سفر. نسألها اذا كانت ترغب في الهجرة فتقول بحدة: «لا أخرج من هنا ولا أهان»، ولكنها تخبرنا بقصة ابنها وعائلته الذين ارادوا ركوب البحر، لكنهم عدلوا بعد حادثة غرق عائلة صفوان.

لا يتعدى النازحون السوريون في المينا ثمانية آلاف، وفق المختار السنوسي. لكن النفور يصل احيانا الى افتعال المشاكل بينهم وبين الاهالي.

بين 1200 و1500 شخص هاجروا من الميناء وحدها وفق مخاتيرها. علما بأن هذا العدد يشمل فقط اهل الميناء لان من يسافر عن طريق مطار بيروت الى تركيا او من مناطق اخرى عبر البحر لا يمكن احصاؤه. الإعلام سلط الضوء على هذه الظاهرة وضخمها ضمن سياق انتهجه أخيرا للاثارة. لكن العدد قلّ في الشهرين الاخيرين بعدما توضحت المخاطر وما يتعرّض له المهاجرون. يشير المختار السنوسي الى أن السوريين كانوا اول المهاجرين ثم تبعهم لبنانيون من اصل سوري، مقيمون في «الميناء»، بعدما استعادوا جنسيتهم السورية لاستعمالها للجوء. علما بان الطريق من اليونان الى الدول الاوروبية لا تحتاج اي مستندات، اذ يمزقها اللاجئون. ويلفت السنوسي الى ان موضوع الهجرة لا يقتصر على فقراء المدينة، بل ان اشخاصاً لهم مكانتهم وموقعهم باعوا بيوتهم وتركوا وظائفهم وهاجروا.

ذلك ان اللبنانيين غالبا ما تأخذهم موجات العدوى والموضة السائدة. واليوم الموضة والعدوى هما: اللجوء إلى ألمانيا.

عودة اللاجئ الخائب..!

لفادي كربجلي رواية غريبة. فالشاب الثلاثيني وصل الى ألمانيا بعد معاناة وذل، لكنه قرر العودة الى طرابلس. يروي لنا تفاصيل رحلته: بدأت موجة الهجرة من طرابلس في شهر أغسطس الفائت. قررت السفر من دون عائلتي لأجنبهم مخاطر البحر. سافرت بمركب سياحي شرعي ونظامي من الميناء الى تركيا بــ150 دولارا. ومنها مع اللاجئين انتقلت بزورق الى جزيرة ميتيلينه اليونانية ومن ثم الى اثينا، فمقدونيا، صربيا، هنغاريا، سيرا على الاقدام. في هنغاريا كانت الحدود مقفلة، الا ان حادثة غرق الطفل السوري ايلان دفعت بالحكومة الالمانية لإرسال باصات كي تقلنا من هنغاريا وتوزّعنا في المانيا، وكنا نحو الفي شخص.. في ملاعب كرة قدم، في مخيمات، في مأوى للعجزة.. استغرق وصوله الى المانيا 4 ايام، مشى خلالها بين المقابر وفي الغابات. في مدينة شتوتغارت حل فادي في مأوى عجزة مع مهاجرين من جنسيات مختلفة، عراقيين وافارقة وسوريين. وبما انه كان يعمل «شيفاً» فقد تسلم مهمة توزيع الاكل على اللاجئين: «ادور بصينية الطعام ثلاث مرات يوميا على اللاجئين. ثم نخرج قليلا في محيط المأوى. كأننا في سجن». تعرف فادي على أحد العراقيين الالمان من اصل عراقي فنصحه بالعودة طالما ان لديه عملاً في لبنان. مكث في شتوتغارت 21 يوما ثم قرر العودة ويقول: عدت ولست نادما لأعيش بكرامتي في مدينتي بين اهلي.

عدوى تصيب لبنانيين

تتردد في «الميناء» حكايات مشابهة لقصة فادي. وحين نسأل الاهالي عن أناس هاجروا يبادرونك على الفور «هاجروا وعادوا!». يخبرنا فادي أن أصدقاءه الذين هاجر وإياهم من الميناء، يريدون العودة لكنهم سوريون لا يستطيعون الدخول الى لبنان من دون كفيل. الناس في الميناء يتداولون اسماء عائلات غادرت وترغب في العودة.ربما لهذا السبب ترددت عائلات اخرى وقررت البقاء. كحال عياش التي منعت ابنها من السفر. تقول لنا ان هجرة ابناء عمه، وغالبية شباب الميناء شجعته على الهجرة. لكن بعد ما سمعه عن العذاب والجوع وما تعرضوا له قرر البقاء، وتقول عياش: «غادر 93 شخصا من عائلة «سمنة» في الميناء. وبعضهم سيرجع الاسبوع المقبل».

رئيس بلدية الميناء على مدى ثلاثين عاما عبدالقادر علم الدين يرسم لــ القبس بانوراما لمدينة الميناء: لؤلؤة الشمال وطرابلس. يقول ان عدد سكان المينا قبل 1975 كان 15 ألفاً. بعد الحرب اللبنانية هاجر شبان الميناء، لا سيما اصحاب المهن والحرفيين، الى الدول العربية واستراليا.

الاوضاع الاقتصادية بعد الحرب زادت سوءا بسبب إعمار مناطق على حساب أخرى. العيش المشترك في الميناء ليس شعارا رنانا، وانما هو واقع ملموس. لعل هذا الاختلاط سهّل على أهل المدينة فكرة العيش في مجتمع غربي وشجعهم على الهجرة اكثر من اهل طرابلس. كما ان هجرة السوريين المقيمين في المدينة منذ زمن شجّعت اهل المدينة على الهجرة، طمعاً في تأمين مستقبل لأولادهم.

مشاريع إنقاذ

يعوّل أبناء الشمال عموماً على تنفيذ الوعود التي بدأ بعضها يسلك طريقه الى التطبيق، ومنها: إفراج الحكومة عن 100 مليون دولار المقررة سابقا لمدينة طرابلس، تعيين مجلس ادارة للمنطقة الاقتصادية التي تجذب 3 آلاف فرصة عمل، وتحويل إدارة معرض طرابلس الى هيئة مستقلة، إضافة إلى تنفيذ مشروع سكة الحديد بكلفة 35 مليون دولار.

القبس

2015 – تشرين الثاني – 27

مقالات ذات صلة