المقالات

باسل المثقف المقاوم.. والاحتقان العالمي والحرب

عندما يتجسد القلم رصاصة، يعني أن تكتب كلمات وصيتك بالرصاص، الذي يتزنر بمداد ما كنت خططته قبلا من كلمات، إذا كنت مثقفا كاتبا، خاصة عندما تطلقه مقاومًا لعدوك.

إنها معادلة الرصاصة والكلمة، هذه التي تصحح مسار السلاح، ليكون رصاصات وخناجر وسكاكين يواجه بها شعبنا عدوه الصهيوني. زاوج شهيدنا البطل باسل بين مهمة المثقف الثوري، الذي عبّأ جيلا من الشباب، ليحدّدوا معالم اللغة الوحيدة التي يفهمها العدو، ويمارسونها فعلًا، لا قولًا فقط.. وبين المقاومة بالرصاص. هو مارسها بدمه، إنه المقاتل الثوري الذي يصنع التاريخ والأمل بانتصار شعبنا وأمتنا. أعادنا الشهيد إلى من سبقوه من الشهداء، عبدالرحيم محمود وغسان كنفاني، مرورًا بكمال ناصر ووائل زعيتر وناجي العلي، وصولا إلى اسمه البهي المتوائم مع البسالة حدّ الشهادة.

فايز رشيد
فايز رشيد

نقلنا من الحاضر المؤلم إلى حقل التعابيرالأصيلة: الفكر المقاوم والأدب المقاوم والفن المقاوم. بدءا من كازانتزاكيس، ديستويفسكي ومكسيم غوركي ولوركا وناظم حكمت مرورا بغسان كنفاني، ومحمود درويش وسميح القاسم وراشد حسين وتوفيق زياد ولويس أراغون وبابلو نيرودا وغيرهم إلى الحاضر المؤلم.

نعم، في البدء كانت الكلمة، وهي المرتبطة في كل حروفها بما يكتبه المثقف الثوري، وما يخطّه الآخرون من فكر تنويري تحرري مقاوِم، إنهما يشكلان معا حبل التواصل مع الحياة، هما جسر التفاهم مع الحضارة والتاريخ والمعرفة والعلم. هما قبل كل شيء، حياة. أمتنا العربية ازدهرت حياتها الأدبية حتى في العصر الجاهلي، ولهذا اشتهرت أسواق الشعر: عكاظ، مجنة وسوق ذي المجاز. جاء الإسلام وكانت الآية الكريمة التي ابتدأت بكلمة: «اقرأ». النبي الكريم عليه السلام حضّ على طلب العلم ولو في الصين. الحضّ على المعرفة دعت إليه كل الأديان، وكذلك الشرائع غير السماوية، من شريعة أورنامو مرورا بشريعة آشنونا ووصولا إلى شريعة حمورابي، وكذلك البوذية، حتى اللحظة، فإن تعريفا محددًا للمثقف لم تجرِ صياغته، انطلاقا من الزوايا العديدة التي يتم النظر إليه من خلالها، وانطلاقا من رؤية دوره، إن بالمشاركة في عملية التغيير السياسي أو في سياسة التغيير المجتمعي، فلطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون عن تعريفات وأدوار شتى للمثقف، ومن بينهم ابن خلدون، الذي أفرد فصلا كاملا من مقدمته لهم، كما تطرق إلى مراحل نمو الدولة ومراحلها، وكتب عن سمات العقلية العربية، وعن المثقفين. باسل جمع كل هذا في عقل شابً فلسطيني عربي. كان مؤلما رؤية أجهزة الأمن الفلسطينية وهي تفضّ تجمعا سلميا للاحتجاج على محكمته المقررة سلفا له ولزملائه الأربعة. استبق باسل محكمته بالاستشهاد في سبيل الوطن الفلسطيني، هذا الذي استقطب مناضلين عربا استشهدوا على ثراه.

المثقفون الثوريون مرتبطون في نتاجاتهم بمدى معايشتهم للواقع من حيث إدراكه ومدى التأثير فيه، على طريق تغييره. من أجمل من كتب في ثقافة المقاومة، كل الأسماء التي ذكرناها قبلا في سياق هذه المقالة. ظلّ كل هؤلاء خالدين أكثر من أي سياسيين، سواء في بلدانهم أو على صعيد العالم، وذهب الذين أعدموا البعض منهم واغتالوهم وأسيادهم، إلى مزابل التاريخ، ومن لم يذهب منهم بعد، سينصرف حتما، كالعدو الصهيوني الذاهب حتما إلى المصير نفسه. لوركا كان يلقي شعره لحظة إعدامه. بابلو نيرودا وعندما جاء قطعان بينوشيه (بعد انقلابهم الأسود على الرئيس المنتخب سلفادور الليندي) جاؤوا ليفتشوا بيته بحثا عن السلاح؟ طردهم وقال جملته الشهيرة: سلاحي هو شعري. كازانتزاكيس يقول عن المقاومة، وعلى لسان الراهب «ياناروس» في رائعته «الإخوة الأعداء» ، ذلك بعد أن فشلت كل دعواته إلى الإخاء والمحبة والسلام من إخراج المحتلين لأرضه ووطنه اليوناني، وصل إلى نتيجة مفادها: « أتها الفضيلة تسلّحي.. أيها المسيح تسلّح.. إني سأعلن الإنجيل الجديد في كل مكان إنجيل السلاح».

مثّل الشهيد باسل في حياته معايشته للواقع الفلسطيني تاريخا وحاضرا، واختار الطريقة المثلى للخروج من المأزق وصولا إلى الحقوق الوطنية.

على صعيدٍ آخر، فإن المراقب للأحداث العالمية يلاحظ بلا أدنى شك، احتقانا اجتماعيا، اقتصاديا وسياسيا على مستوى الدولة الواحدة، وفي العلاقات البينية بين الدول. هذا الأمر يمتد من الولايات المتحدة إلى الدول الأوروبية، مرورا بمناطق كثيرة من العالم في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية: أزمات اقتصادية، عجز في الميزانيات كاليونان وايطاليا، إسبانيا والبرتغال وغيرها، إذ أن نسبة الدين العام في اليونان إلى الناتج المحلي تبلغ 177%، إيطاليا 132% ، إسبانيا 97%، البرتغال 130%. هذا على سبيل المثال لا الحصر. الوضع الاقتصادي المتردي سيقود بالضرورة إلى توترات اجتماعية وسياسية برزت في مظاهر عديدة، منها مثلا: بروز الاتجهات اليمينية والفاشية، الشعبوية وغيرها. في الولايات المتحدة فإن 4 ولايات (أبرزها كاليفورنيا) تطالب بالانفصال. في بريطانيا سكوتلندا وإيرلندا الشمالية وويلز تطالب أيضا بالانفصال عن المملكة المتحدة. علاقات متوترة بين تركيا ومجموعة دول الاتحاد الأوروبية، وغيرها من الأحداث المشابهة، وعلى ذلك قس، هذا في الدول الأوروبية. أما في منطقتنا فالكل يدرك ما يجري في سوريا والعراق ومصر والجزائر واليمن وليبيا، هذا إلى جانب وجود المنظمات الإرهابية المتطرفة. ولعل وجود الدولة الصهيونية هو أكبر عامل ومصدر للتوتر في وطننا العربي والمنطقة، لاستحالة نزع سمة العدوان عن طبيعتها . من جانب ثان، فإننا نشهد بداية بروز قطب عالمي آخر، وما سيحمله من حتمية توترات عسكرية مع القطب العالمي الرأسمالي الآخر، توتر في منطقة بحر الصين الجنوبي، اتهامات أمريكية لإيران، والمنادة الصهيونية بضرب المشروع النووي الإيراني، أسلحة كوريا الشمالية وغيرهذه الأحداث. يضاف إلى ذلك تزايد التنافس الاقتصادي والتجاري بين الدول المتطورة صناعيا لاقتسام النفوذ عبر العالم، والسيطرة على الأسواق لتصريف فائض الإنتاج الصناعي والمالي، والتزود بالمواد الأولية، فضلا عن دخول الدول الغربية في تحالفات سياسية وعسكرية، أدت في ما مضى إلى سباق تسلح بين الدول المتنافسة التي رفعت من نفقاتها وميزانياتها العسكرية في السنوات الأخيرة.

وإذا كان السبب المباشر لنشوب الحرب العالمية الأولى، هو حادثة اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند مع زوجته، من قبل طالب صربي يدعى غافريلو برينسيب في 28 يونيو عام 1914 أثناء زيارتهما لسراييفو. لكن كانت هناك جملة من الأسباب غير المباشرة، من أبرزها توتر العلاقات الدولية في مطلع القرن العشرين، بسبب توالي الأزمات، كأزمة البلقان، والصراع الفرنسي الألماني حول الحدود، بالإضافة إلى نمو النزعة القومية داخل أوروبا، وتطلع بعض الأقليات إلى الاستقلال. تماما كما هو بدء الحرب العالمية الثانية بسبب اعتبار أن السلام الناتج عن مقررات مؤتمر باريس سنة 1919 إهانة كبرى بالنسبة لألمانيا، كون معاهدة فرساي مزقت وحدتها الإقليمية والبشرية والاقتصادية، وسلبت منها جميع مستعمراتها، كذلك أدى المؤتمر إلى خيبة أمل كبرى بالنسبة لإيطاليا، كونه تجاهل طموحاتها وتوسعها، فإن هناك وفي هذه المرحلة تحديدا أسبابا تفوق أضعاف أضعاف أسباب الحربين العالميتين الأولى والثانية، فهل ستوصل أزمات الحاضر إلى حرب حتمية يتوقعها خبراء استراتيجيون كثيرون؟

ندرك تماما أن الرادع لقيام حرب عالمية ثالثة هو توازن القوى التسليحية النووية بين الدول العالمية الكبرى، بحيث لن يكون هناك منتصر ومهزوم في أي حرب مقبلة، لكن صعود الشوفينية الشعبوية في أكثر من دولة، سوف يُلهب رؤوس أصحابه الحامية أصلا، لاقتراف مآسٍ وويلات جديدة على الصعيد العالمي.

فايز رشيد

كاتب فلسطيني

مقالات ذات صلة