المقالات

نمر عاروري ـ عين لا تغفل عن وطن

هادئ كمعظم الريفيين القادمين إلى المدينة حاملا معه وداعة أهل الريف و طيبة جانبهم و أصالة معدنهم ، العيش في الشتات منذ أربعة و عشرين سنة لم ينسه منبته الأول فلسطين ، وظل مرتبطا بذكريات قريته الصغيرة عارورة رغم نجاحه المهني و استقراره في دورتموند ـ ألمانيا ـ وسط عدد كبير من المغتربين الفلسطينيين الذين شكلوا عائلة ثانية له .

لكن عيونه دوما ترنو إلى ” عارورة ” القرية التي رأى فيها النور يوم 22 نوفمبر ـ تشرين الثاني ـ 1965 م ، و الواقعة في الجهة الشمالية الغربية من رام الله و لا تبعد عنها إلا بحوالي عشرين كلم ، و على صغر مساحتها إلا أنها هامة الموقع إذ تتوسط فلسطين تقريبا و مشهورة بمزارع الزيتون و كذا زراعة اللّوز و التين و الكروم ،و في حقول القرية البديعة و مزارعها المخضرة ترعرع نمر الصغير و حفظت ذاكرته طرق البلدة و منعرجاتها و مقاماتها و كل مزاراتها و تعلق قلبه ببيوتها.

و عندما وصل لسن الدراسة التحق كبقية أترابه بمدرسة مزارع النوياني و عارورة بداية من سنة 1973 م حيث أتمّ فيها مراحل التعليم الابتدائي و تعليمه الاعدادي عام 1982 م ، و إثر ذلك انتقل إلى مدرسة سِنْجل الثانوية و تخرج منها بتفوق عام 1984 م فتابع دراسته في جامعة ” بيت لحم ” ثم التحق بجامعة النجاح الوطنية رغبة منه في استكمال مساره الجامعي ، و لكن باندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 م بادر الاحتلال الصهيوني إلى إغلاق الجامعات الفلسطينية ما أجّل حلمه في انهاء دراساته العليا…

ليجد نمر عاروري نفسه في مفترق طرق فلا هو قادر على استكمال دراسته بسبب سياسة التضييق و إغلاق كل منافذ المعرفة في وجه الشباب الفلسطيني و هو واحد منهم ، ولا هو قادر على الاستسلام للظروف و نسيان طموحه العلمي فحسم أمره و هاجر إلى ألمانيا ملتحقا بوالده الذي كان مغتربا فيها قبله .

و هناك تمكن من تعلم اللغة الألمانية بطلاقة و التحق بجامعة دورتموند و تمكن من الحصول على شهادة الماجستير في الهندسة الكيميائية ، و لم يكتف بذلك فحسب بل ثابر و اجتهد و حصل على مؤهل إضافي في مجال اقتصاد التسويق التقني ، و على شهادة أخرى في الترجمة أيضا…محققا بذلك مسيرة دراسية متميزة لفلسطيني صبور لم تقهره ظروف الغربة أو ضيق ذات اليد أو صعوبة تعلم لغة جديدة و مواصلة دراسته الجامعية بها بل كانت الظروف الصعبة دافعا لتحقيق التفوق و الوصول للتميز.

و ليتمكن من توفير مصاريف الدراسة و ليعتمد على نفسه عمل خلال دراسته في مجالات متعددة منها مثلا عمله مع النائب الألماني السابق من أصل عربي ـ سوري ـ ” جمال قارصلي ” ، و الذي سيترجم له لاحقا كتابه الموسوم ب: ألمانيا بين عقدة الذنب و الخوف ” عام 2004 و صدر في العام نفسه عن المجلس الأعلى للثقافة ـ المشروع القومي للترجمة في جمهورية مصر العربية ـ ، وبعد تخرجه امتهن العمل في تخصصه ـ الهندسة ـ لفترة من الزمن قبل أن يتفرغ للعمل في الترجمة و يصبح مترجما قانونيا محلفا و ما زال يمارس مهنة الترجمة لحد الآن .

و على الرغم من استقراره في ألمانيا منذ أكثر من عقدين من الزمن لم تغب فلسطين عن باله و ما زال الحنين يجرفه لذكريات طفولته بين حقول زيتونها و يرنو بنظره ـ رغم البعد ـ إلى مقاماتها و خرائبها فجسده مستقر في دورتموند و قلبه و روحه ظلت ترفرف فوق سماء بلده ، لذا سرعان ما انخرط في العمل ضمن الناشطين الفلسطينيين في إطار الجالية الفلسطينية في دورتموند فهو يشغل منصب نائب رئيس الجالية الفلسطينية في مدينته و مسؤول العلاقات الخارجية لاتحاد المهندسين الفلسطيني ـ الألماني ، و رغم خدماته الكثيرة لبني جلدته و مساهماته الدائمة في تنظيم فعاليات كثيرة على مدار العام حيث يقيم و أهمها ” فعاليات يوم الأرض ” التي تقام سنويا في مدينته إلا أنه يميل إلى التواضع و لا يحب الأضواء فتراه يعمل بصمت و تفان و يقدم غيره و يتأخر هو خطوة أو أكثر ، فما يهمه أكثر هو ابقاء جسر التواصل بالوطن قائما و متصلا و العمل على حفظ الذاكرة الجماعية للفلسطينيين سواء في الشتات أو في الداخل ، كما يشارك في كل الوقفات الاحتجاجية التضامنية لصالح أبناء وطنه كمنظم لها أو كعضو ناشط فيها …

و إضافة لذلك فهو حريص على تأريخ الأحداث و الكتابة عنها في وقتها في عدة مواقع صحفية على الانترنيت أو في بعض الصحف المطبوعة في ألمانيا ، فهو يقوم بدور الصحفي المحقق حينا و دور شاهد عيان حينا أخر و يسجل بأمانة ما يحدث و يوثق للأجيال القادمة انجازات جيل اليوم ، و يسرق ساعات طويلة لكتابة نصوص تمتاز ببساطة اللغة و ثراء المضمون و دقة المعلومة لتصل لأكبر عدد من القراء من خلال نشرها في الصحف الفلسطينية الإلكترونية بانيا روابط تواصل و مكسرا بذلك جدار العزلة بين المقيمين في الشتات و الباقين في الداخل …

و في إطار جهوده الدؤوبة للحفاظ على الذاكرة الجماعية و التراث الفلسطيني الزاخر و مساهمة منه في توثيق و تدوين التاريخ المحلي للقرية التي نشأ فيها ،و كذا لمحاربة التزوير الذي طال تاريخ فلسطين ـ و عارورة جزء منها ـ و مقاومة لسرقة الآثار الفلسطينية و نسب العدو لأهم المعالم لنفسه ، بادر نمر عاروري لإصدار كتاب بعنوان ” سرية قرية :عن صراع الوجود و فن البقاء ، تاريخ و تراث قرية فلسطيني ” نموذج قرية عارورة ” ،و المَؤَلَف يتكون من 400 صفحة من القطع المتوسط ،و جمع فيه الكاتب عشرات الصور و تحدث عن الكثير من معالم قرية عارورة و عن أهم شخصياتها و الأسر التي أقامت فيها ، و استنطق ذاكرة المعالم التي بقيت و الآثار التي أبت أن تزول و بحث في الكتب و سأل الأحياء ليتمكن من إعادة رسم تاريخ القرية و المناطق التي تجاورها ، ليروي بذلك قصة صمود أهلها في وجه الاستدمارات التي مرّت بفلسطين و ثبات الأجداد و مقاومتهم لكل محتل و تمسكهم بأرضهم و ممتلكاتهم .

و لأن الكاتب اعتمد على مئات الوثائق و الشهادات و استشهد بما ورد في المراجع و عاد إلى المصادر التاريخية الأجنبية و العربية ،و تعاون مع أبناء منطقته سواء الذين لم يغادرها أو الذين فعلوا ، يعتبر الكتاب وثيقة تاريخية هامة يمكن أن يعود لها الدارس ليستعين بها في دراسات تاريخية مستقبلا و سيجد ضالته ،و قد يكون الكتاب مرجعا هاما لدراسات و كتب مشابهة تؤرخ للريف الفلسطيني و حواضر هذا البلد الصامد.

و كامتداد لعمله في حفظ ذاكرة بلده و رغبة منه في الحفاظ على ما تبقى من أثار منطقة بني زيد الشرقية ـ قرية عارورة و محيطها ـ نسق نمر عاروري “الوطني الغيور على تاريخ بلده ” حملة لإنقاذ مزارات و مقامات أثرية مهددة بالزوال بمساعدة مجموعة من المغتربين الفلسطينيين في عدة دول من العالم و تمكن بمساهمة بعض المختصين من ترميم بعض المقامات و المزارات على أمل تجديد الحملة مستقبلا فتلك المعالم دليل على أن القرية عربية فلسطينية مسلمة و أي ادعاء مغاير لذلك تزوير للتاريخ.

و يظل نمر عاروري من حفظة ذاكرة الشعب الفلسطيني في الشتات وقوة مهيبة تعمل بصمت ، تربط في الخفاء الخيوط المنقطعة ليحيك لوطنه صفحة ناصعة البياض من خيوط حرير ناعم يدون فيها بخط من ذهب تاريخ وطن لا يركع و لا يستسلم ، وهو صاحب فكرة تأليفي لكتابي ” زهرة زعتر : سيرة امرأة و وطن ” الذي يروي حياة المناضلة الفذة ” وداد عاروري ” و كان الأخ المتميز الذي دقّق تاريخيا في الكتاب بما أن العمل يلخص أيضا تاريخ فلسطين من خلال مسيرة حياة السيدة وداد ،و كان خير عون لي على مدار أشهر طويلة ليربط بذلك الجزائر بفلسطين و يكون صاحب فضل علي في اصدار أول أعمالي المطبوعة .

و أسريا نمر عاروري متزوج من السيدة الفاضلة ” آمنة جميل عبد الحمد العمري ” و والد مهتم و محب لأربعة أبناء، ثلاثة أولاد و هم محمد و باسل و يامن و ابنة واحدة و اسمها سارة ،أطفال اختار لهم أسماء عربية ذات دلالة و يزرع فيهم حب الوطن البعيد الذي يتمنى يوما أن يعود إليه رفقة أسرته و أحبّته ،و في انتظار تحقق ذلك فهو يواصل كتابة تاريخ معاصر و جمع نتف الأحداث ليرسم لجيل المستقبل صورة واضحة على ما حدث يوما و ليكون حجر زاوية في تكوينهم الوطني و وفائهم لقيم شعبهم الصامد.

*ملاحظة: كل الشكر و الامتنان للمهندس “محمد جابر” رئيس اتحاد المهندسين الفلسطينيين في دورتومند وكذا الصديقة “كلوديا ماير” على المعلومات القيمة التي ساعدتني لكتابة مقالي.

بقلم ناردين دمون
المصدر موقع الصفصاف

مقالات ذات صلة