المقالات

حريـــة المرأة

حريـــة المرأة

طه دخل الله عبد الرحمن

ما تزال قضية حرية المرأة وتحررها، ومساواتها بالرجل في مجمل مناحي الحياة، تشغل حيزاً كبيراً في أجندة قطاعات واسعة من حملة الفكر التنويري، وتلقى الاهتمام من جانب العديد من المنظمات السياسية والاجتماعية والحقوقية، وكذلك بعض الأنظمة التي تحاول عبور الصيغ الديمقراطية، وإن كان بنسب متفاوتة من حيث النظرة إلى المرأة ككيان، وسبل معالجة هذه القضية، وكل يستند في ذلك إلى المنابع الفكرية والفلسفية التي تحكم الذهنية الثقافية السائدة في مجتمعاتها، بين منحها بعض الحقوق، أو معالجة وضعها – في سياقها الإنساني – بشكل جذري، حتى بات يتحدد الموقف من أي مجتمع أو نظام سياسي، بين متقدم أو متخلف، ديمقراطي أو مستبد، من خلال نظرته إلى المرأة ودورها ومشاركتها في الحياة الاجتماعية، مع أن مجمل الثقافات والإيديولوجيات التي سادت وحكمت، وبغض النظر عن الاختلاف فيما بينها، لم تستطع أن تترجم الصياغة القانونية لاستحقاقات المرأة إلى حيزها العملي، ولم تؤسس في سياقها التاريخي لثقافة التعاطي مع وضع المرأة من حيث كونها كيان بشري له استقلاليته، وذلك يعود بأسبابها الرئيسية – كما أعتقد – إلى ضعف المرأة نفسها من حيث نظرتها إلى قضية تحررها، كونها ما تزال تتعاطى مع هذه القضية وتجسيداتها من خلال الرجل . بمعنى أنها تنظر إليه على أنه مفتاح الحل، وتطالبه بمنحها حريتها، أو بالدفاع عن حقوقها، مع أن عليها أن تدرك أن هذه الحالة – تبعية المرأة للرجل – قد تحول بحكم الممارسة وتراكمات القهر التاريخي، في الحقل السياسي والثقافي والاقتصادي، إلى ما يمكن أن نسميه بمكتسبات الذكورة، وبالتالي فهي ليست قابلة للمنح، أو أن هناك استعداد من جانب الرجل أن يخطو باتجاه ذلك طواعيةً، بقدر ما يكون الدخول إلى تفكيك بنيتها ونواظمها من خلال الانتزاع، بغض النظر عن المستوى المعرفي الذي يعيشه الذكر، ومستوى تعامله مع الأنثى، حيث – ولا شك – تختلف صورة التعامل من مجتمع لآخر ومن فرد لآخر بحسب اختلاف المفاهيم والتقاليد الاجتماعية، إلا أنها لا يمكن أن يصل إلى درجة طموحات المرأة . ناهيك عن موقع الرجل نفسه في المجتمعات التي تحكمها ثقافة الاستبداد، والاضطهاد الذي يمارس بحقه، وأن الذي يعيش حياة الذل والهوان، لا يمتلك أدوات حرية الآخر، أو أن يكون لديه القدرة على أن يحرر الآخر، سواء أكان هذا الآخر ذكراً أم أنثى ..

وإذا كانت مبادرة المرأة عام 1910، حين دعت إلى مؤتمر عالمي في كوبنهاغن، تخليداً لذكرى ضحايا المظاهرة التي نفذتها النساء العاملات في شركة النسيج بمدينة شيكاغو عام 1908، واعتبار يوم الثامن من آذار عيداً للمرأة، قد شكلت الخطوة الأولى باتجاه تأطير نضالاتها ضد شتى صنوف الظلم والاضطهاد، وكذلك القهر الاجتماعي، والعلاقات التي تحد من كيانها، والممارسات التي تستهدف إنسانيتها، وأن تلك البادرة – بل الشمعة – الأولى جاءت رداً على نمط علاقات الإنتاج والسياسات التي كانت تحد من إنسانيتها، وعدم مساواتها بالرجل، إلا أن هذا لا يعني أنها قد أصابت في كل ما تريد أو هدفت إليه أو أنها نالت حريتها . وإنما فقط استطاعت، ومن خلال تلك البادرة، أن تؤكد على هويتها وحقها الاعتباري في الوجود ، وبالتالي العيش بكرامة كإنسانة وككيان . لكنها بقيت ترزح تحت نير السطوة والتسلط، وضحيةً للقيم والتقاليد والعلاقات، للأفكار والتعاليم التي تم ترسيخها في الذهنية الاجتماعية على أنها أقل مرتبةً وأقل قدرةً من شريكها في الحياة . وحتى يومنا هذا فإن تلك العقلية – وبتطورها النسبي – لم تزل تسيطر على نموذج العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإن اختلفت حدتها من مجتمع لآخر، وذلك حسب التطور السائد فيه كما أسلفنا، وتكبل إلى حد ما طاقات المرأة وقدراتها في المساهمة في عملية الإنتاج الاقتصادي والفكري والتطوير الاجتماعي .. إلخ . فهي ما زالت تدفع الثمن وضريبة هذه السياسات، وضريبة الغبن والظلم الواقعين على المجتمع ككل .

استناداً إلى هذه البديهيات ، أعتقد أن مسألة تحرر المرأة هي في جوهرها قضية تحرر سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي . حيث يؤكد التاريخ وفي أغلب مفاصله بأن تحرر المرأة مرهون إلى حد بعيد بمدى مشاركتها في الحياة ومن مختلف جوانبه . وإذا تجاوزنا عصر الأمومة، وتتبعنا تطور المجتمعات البشرية، نرى أن تطور أشكال الإنتاج في المجتمعات الغربية في بدايات القرن الثامن عشر، وبدء الثورة الصناعية في أوربا وظهور الحاجة الملحة إلى كميات كبيرة من الإنتاج تتناسب مع حجم التجارة العالمي الذي أخذ يتوسع في أوربا نتيجة للكشوفات العلمية والجغرافية، ترافقاً مع تعقد وسائل الإنتاج وعلاقاته وظهور مفاهيم اقتصادية اجتماعية تتناسب مع ذلك العصر، مترافقةً مع بدء الثورة الفكرية في فلسفة الأنوار التي سادت أوربا، أدى إلى حدوث انقلاب على مستويين هامين، أولهما اقتصادي، وتمثل في مشاركة المرأة المباشرة في العمل الإنتاجي داخل المصانع الكبيرة، ولكن بأجور زهيدة لا تتناسب وطبيعة مجهوداتها، وكذلك تعرضها للاضطهاد والابتزاز المباشرين من أرباب العمل . والثاني فكري، تمثل في إدراك العديد من مفكري وفلاسفة ذلك العصر إلى أهمية المرأة، واعتبار تحررها مقياساً للتطور الاجتماعي . هذه العوامل والظروف التي تراكمت تاريخياً هيأت المناخ المناسب لأن تدفع بالمرأة نحو النضال في سبيل انتزاع حقوقها والعمل من أجل تحقيق المساواة داخل المجتمع .

وإذا كان ذلك صحيحاً في سياقه التاريخي، إلا أنه يتم استغلاله من جانب الأنظمة الاستبدادية التي تستمد ديمومتها ومسوغات سلوكها من القوى المتخلفة والرجعية داخل المجتمع، والتي تحاول أن تبرر ما هو دنيوي وتاريخي بالاستناد إلى ما هو مترسخ في الذهنية الاجتماعية من طقوس وعقائد تكتسب صفة القداسة وتلبسها إياها، بغية الحد من تطور شعوبها للإبقاء على استمراريتها والحفاظ على وضعها .

وعطفاً على كل ما سبق، يمكننا القول أن دور المرأة بقدر ما هو مهم وحاسم في دفع عجلة تطورها لأن تأخذ مسارها الطبيعي والسليم، وبالتالي تعزيز دورها ومكانتها الطبيعية، فهو أكثر من ذلك في تفهم معادلة الصراع بين المكونات القيمية والفكرية بوجهها الصحيح، وعلى ضوء ذلك تتحدد المهام والمسؤوليات، حيث تقع على عاتقها بدل مطالبتها الرجل بحقوقها، أن تكسب رأيه إلى جانبها في نضالها التحرري، لتنخرط في عملية المواجهة للمرتكزات الثقافية التي تسلبها حريتها، لأن بعض من تلك المرتكزات هي ذاتها التي تسلب الرجل، بل المجتمع ككل، حريته، وهنا ينبغي الوصول إلى صيغة العمل المشترك بين الرجل والمرأة على القاسم المشترك، وهو رفع الغبن والقهر وذلك بالوقوف جنباً إلى جنب لمقاومة ومحاربة هذا الواقع الذي يجر بكل تراكماته على المجتمع ككل .

ختاماً نتقدم إلى المرأة بأجمل تحياتنا في يوم عيدها، ونحو غد أفضل ومستقبل مشرق .

طه دخل الله عبد الرحمن

البعنه == الجليل

مقالات ذات صلة