المقالات

تركيا و”إسرائيل” ـ ما وراء الاعتذار

تركيا و”إسرائيل” ـ ما وراء الاعتذار

ماجد عزّام

الاعتذار الذي قدّمته اسرائيل لتركيا عن مقتل النشطاء الأتراك على متن السفينة مرمرة قبل ثلاثة أعوام لا تقتصر أبعاده على العلاقات الثنائية بين البلدين وإنما يحمل في طياته دلالات سياسية وإستراتيجية تتعلّق بالأوزان والأحجام في المنطقة كما بصورة أو شكل هذه الأخيرة في السنوات المقبلة.

بداية لا حاجة لعظيم جهد لتبيان الرابح والخاسر في حزمة أو صفقة الاعتذار حيث انثنت تل ابيب بوضوح امام عناد وتصميم انقرة على شروطها ومطالبها الثلاثة إن لجهة الاعتذار عن مقتل مواطنيها وتقديم التعويضات لذويهم أاما الشرط الثالث الأخير والمتعلق برفع الحصار عن قطاع غزة فلا بد من الاشارة الى أنه خفف الى النصف تقريباً كما قال السيد علاء الرفاتي وزير الاقتصاد في حكومة حماس – على خلفية التداعيات والآثار التي نتجت عن مقتل النشطاء الأتراك بينما بات الملف برمته بعد حرب غزة الأخيرة ضمن تفاهم التهدئة بين اسرائيل وحماس الذى جرى برعاية القيادة المصرية وإشرافها وهو ما اقتنعت به أنقرة مع الاحتفاظ بحق المراقبة والمتابعة فى سياق دور تركي لا يقتصر على ملف الحصار وإنما يتعداه الى ملف المصالحة الفلسطينية كما بعملية او مفاوضات التسوية بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية.

أسباب عدة تقف خلف الانثناء الاسرائيلي أمام المطالب التركية يأتى على رأسها العزلة الخانقة التى تعيشها تل أبيب وافتقادها الى حليف تخوض معه حوارات ذات طابع استراتيجي تتعلق بأزمات حاضر ومستقبل المنطقة كما كان الحال مع طهران قبل الثورة وأنقرة نفسها قبل حرب غزة – 2009 – اسطول الحرية والقاهرة قبل ثورة يناير 2011.

الثورة السورية والانهيار البطيء التدريجي ولكن المتواصل للنظام وإجماع الأجهزة الاستخبارية الاسرائيلية على أن سقوط نظام آل الأاسد بات مسألة وقت فقط دفعت مجتمعة الحكومة الاسرائيلية الى السعي لاستعادة العلاقات مع انقرة بأي ثمن في ظل الاقتناع التام أن تركيا ستكون اللاعب الرئيس على الساحة السورية في مرحلة ما بعد الاسد وأن ثمة أخطاراً عديدة قد تواجهها تل أبيب أن في ما يتعلق باحتمال تدفق آلاف اللاجئين السوريين أو بتحول هضبة الجولان الى جبهة عسكرية وأمنية ساخنة كما هو الحال مع غزة وسيناء أو حتى تحول سورية نفسها الى دولة فاشلة ما يترك آثاراً سلبية على مجمل المنطقة وبما أن تل أبيب عجزت عن إقامة قنوات مفتوحة مع المعارضة السورية القيادة المستقبلية لسورية – فإنها بحاجة إلى طرف ما على تواصل قوي مع تلك المعارضة وقادر على التأثير على مجريات الأحداث في سورية فى مرحلة ما بعد الأسد.

في سياق عربي واقليمي عام وبعد ميدان التحرير المتنقل من دولة إلى أخرى رأت تل أبيب بأم عينها ليس فقط التطورات العاصفة فى تلك البلدان وإنما تحوّل تركيا الى لاعب إقليمي رئيس علماً أن تلك السيرورة بدأت حتى قبل اندلاع الثورات العربية وبات التأثير التركى جلياً ولا يمكن انكاره بينما عجزت اسرائيل أيضاً عن عقد صلات راسخة مع الأنظمة العربية الجديدة ناهيك عن اليأس من إمكانية إقامة علاقات سياسية اقتصادية أو امنية معها بعدما ماتت فكرة التطبيع وباتت من الماضي ودفنت عملياً مع الأنظمة الساقطة في ميدان بل ميادين التحرير التي امتدت على طول الوطن العربي وعرضه وتأمل تل أبيب الآن أن تعوضها العلاقات مع أنقرة عن ذلك وتساعدها على فهم ما يجري في العالم العربي الجديد.

الى ذلك وفي السياق الاسرائيلي الداخلي لا بد من الاشارة الى أمر أساسي لا يمكن إغفاله عند قراءة الاعتذار الاسرائيلي لتركيا ويمتثل بتأييد وزارة الدفاع رئاسة الأركان كما الأجهزة الأمنية الرئيسية الثلاثة – امان الموساد والشاباك – لتقديم الاعتذار حتى قبل اندلاع الثورات العربية من أجل استعادة العلاقات الامنية العسكرية مع دولة راسخة ومهمة التي لا غنى لدولة صغيرة في محيط معادٍ مثل اسرائيل عنها وفقاً لعقيدة بن غوريون الشهيرة غير أن هذا الموقف اصطدم بثقل سياسي صغير لوزير الحرب المنصرف إيهود باراك مقابل ثقل سياسي كبير لوزير الخارجية المنصرف أفيغدور ليبرمان, بينما تغير الأمر جذرياً في الحكومة الجديدة حيث يؤيد الصقر الأمني الليكودي موشي يعلون استعادة العلاقات مع انقرة حتى بثمن الاعتذار والتعويض بينما تضاءل الثقل السياسي لليبرمان وحزبه مقابل تأييد حزب المستقبل للاعتذار واقتناع زعيمه يئير ليبيد بضرورة التهدئة مع أنقرة ضمن مراعاة أو التساوق مع السياسة الأميركية العامة في المنطقة..

وفي السياق الأميركي لا بد من الاشارة الى مبالغة ما في تقدير دور واشنطن في الاعتذار الاسرائيلي لواشنطن ومن دون اغفال اهمية ذلك يمكن الاشارة الى ان المسعى الاميركي صادف أساساً هوى عند رئيس الوزراء واركان حكومته السياسيين الامنيين والأهم انه جاء في سياق الضعف السياسي لنتنياهو بعد الانتخابات وتبلور ما يشبه الاجماع السياسي والحزبي على صعوبة وحتى استحالة مواجهة التحديات العاصفة التي تواجهها تل أبيب في ظل جفاء مع واشنطن وقطيعة مع احدى الدول المهمة والمركزية في المنطقة مثل تركيا.

في السياق الاميركي ايضاً جاء العمل على ترطيب الاجواء بين انقرة وتل ابيب في سياق تصور أميركي عام لم تكتمل تفاصيله بعد يلحظ تهدئة واسعة لمواجهة التطورات العاصفة التي شهدتها المنطقة بعد الثورات العربية تسهل من جهة أخرى جهود استئناف عملية التسوية بين السلطة الفلسطينية واسرائيل كما ضمان سريان تفاهم التهدئة بين حماس واسرائيل – بعد حرب غزة الأخيرة والعمل على حل الخلاف النووي مع إيران ضمن أجواء هادئة علماً أن خيار التفاهم والتوافق مع طهران كان وما زال الخيار الأمثل لاوباما وأركان ادارته الجديدة السياسية والامنية تحديداً الوزيرين جون كيري وتشاك هاغل.

اما تركيا فقد وافقت على حزمة أو تفاهم الاعتذار كونها تساوقت او لامست معظم شروطها ومطالبها ان في ما يتعلق بالاعتذار والتعويض والعمل من اجل رفع الحصار عن قطاع غزة والاهم ان الاعتذار اظهر علو قامة تركيا ووزنها الاقليمي، ما اجبر تل ابيب على الانثناء امامها وعوضاً عن ذلك تسعى انقرة بجد الى مضاعفة حضورها وتأثيرها خصوصاً في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وهي تبدو مقتنعة ان من الصعوبة بمكان التأثير الايجابي في ما يخص التخفيف من معاناة الفلسطينيين في غزة والضفة او العمل من اجل تحقيق المصالحة الفلسطينية وحتى دفع عملية التسوية وفق الشرعية الدولية والحد الادنى المتفق عليه فلسطينياً وعربياً في ظل القطيعة مع اسرائيل علماً انها ميزت دائماً بين موقفها من أفعال وتصرفات الحكومات الاسرائلية وموقفها من الدولة العبرية نفسه وهي لا تتنكر لها ولكن ضمن المواثيق والمعاهدات والشرعية الدولية وهو ما تجلى بوضوح من خلال سعيها للوساطة بين دمشق وتل أبيب قبل أن تشعر بالغدر مع شن عدوان الرصاص المصبوب – 2008 – وارتكاب المجازر والجرائم عبر استخدام غير متناسب للقوة بحق الشعب الفلسطيني الاعزل في قطاع غزة.

عموماً أظهر تفاهم الاعتذار بأبعاده الثنائية والاقليمية عزلة الدولة العبرية وعجزها عن التأثير فى مجريات الأحداث رغم القوة العسكرية الهائلة التي تمتلكها وتزايد ثقل ونفوذ انقرة الاقليمي برغم من اعتمادها على القوة الناعمة اضافة الى صلاتها التاريخية الثقافية الفكرية والاقتصادية بدول المنطقة وشعوبها وفي كل الأحوال بات واضحاً أن تركيا ستتتحول إلى القوة الاقليمية الرئيسية في السنوات القادمة الى أن تستفيق أو بالاحرى تستعيد دول الربيع العربي عافيتها وقوتها مع الانتباه الى أن ما حطمته أنظمة العسكر الاستبدادية خلال عقود لا يعاد بناؤه خلال شهور ولا حتى سنوات قليلة.

المستقبل، بيروت، 23/4/2013

مقالات ذات صلة