المقالات

مات وديع حداد ولم تمت ثوريته

في غياهب الظلم والاستبداد حينما أصبحت قيمة الإنسان لا تساوي طلقة مزيفة يجريها المحتل على صدور المُعذبين في أرضهم ، كان وديع حدّاد شعلةً تُبلج الحقّ ساطعاً في وجه كل هذا القهر و الاحتلال ، كان عصا موسى للثورة الفلسطينية و حكمة يُوسف للبارودة الثورية يصدّ هذا القاتل الهمجي وسطوته البربرية التي مارسها على الشعب الفلسطيني الآمن في أرضه .

وديع حدّاد و رفاقه كانوا ذلك الأمل المرجو لجموع المُهجرين والثكالى وعائلاتهم ، كانوا ذات الروح التي بثت الحياة و اليقين المطلق للشعب بتحرر أرضه و رجوعه لوطنه .

مراثي الهجرة من صفد ودموع الأسى على هذه الأرض الطيبة لم تغير من شخصية هذا الجليلي شيئاً .. فكما كانت صفد تربض على جبل الجرمق بعزة وكبرياء كان أبو هاني يربض على زناد البارودة والعنف الثوري بكل ثقة وثبات على موقفه الكفاحي .. شكّلت ظروف هجرة عائلته المؤلمة باروداً يحرك قلبه وما يلوج به من مشاعر بغض و بأس اتجاه هذا المغتصب .

ولد وديع حدّاد في عروس الجليل مدينة صفد عام 1927 و بعد عام 1948 اضطر للهجرة مع عائلته من بيروت التي لم تغير من مبلغ حلمه بالرجوع لوطنه وحنينه لأرضه، وبعد وصوله للدراسة الجامعية في الجامعة الأميركية التقى مع رفيق دربه و توأمه في النضال الحكيم جورج حبش فقد كانا روحاً واحداً في النضال والفكر السياسي… كانا روحاً واحدة في جسدين .. غير أن جورج حبش كان حكيم الثورة ووديع حداد شُعلة الثورة الذي تميز بعملياته النوعية ..

هذا الرجل الذي كان زاهداً في الدنيا ولم تغره أياً من مظاهر الترف ولا الراحة ولا الاستكانة لظروف الواقع المقيتة ، لم يكن في باله يوماً غير تحرر وطنه من براثن المحتل و حياة هانئة وكريمة لشعبه بأي شكلٍ من أشكال النضال والتحرر ، فقدّم لشعبه حقبة متألقة وعاصفة في حياة الثورة الفلسطينية أكسبته الرمزية والتبجيل لدى أبناء شعبه و كل متحرر حاني للتخلص من الاستعمار و الإمبريالية .

وديع حداد الذي كان يتقن التفريق بين الارهاب والعنف الثوري كان الأب الملهم لكثير من حركات التحرر العالمية التي استمدت الروح الثورية من نضاله، حيث أن علاقاته الثورية امتدت لحركات التحرر في اليمن والجزائر وليبيا وللجيش الأحمر الياباني في آسيا حتى ” الساندينيستا ” في نيكارغوا في القارة اللاتينية فقد كان أبو هاني يحرص على توفير الدعم والتسليح والتدريب لهذه الحركات الثورية وخلق أماكن الحماية لقادة حركات التحرر .

كان وديع حداد مولعاً بقراءة الكتب والتثقيف الذاتي إلا أنه لم يكن يمتلك الوقت الوافر فقد كان يوزع وقته بين التخطيط لعملياته العسكرية وتدريب الثوار وتوفير السلاح لهم وتخزينه فلم يكن يجد الوقت الكافي للقراءة ، كان يؤمن بالعمل العسكري المُباشر والعنيف الذي يؤلم المحتل ويجعله يدفع فاتورة جُرمه وبربريته .

فالعنوان في نضال وديع حداد كان “وراء العدو في كل مكان ” لم يكن الاحتلال في ذلك الحين في مأمنٍ من ضربات وديع حداد القاسية داخل فلسطين ولا حتى خارج حدودها التاريخية . فنقله للعمل العسكري إلى حدود السماء وخطف الطائرات جعل العالم كله يزيح بنظره عن أن هذا الشعب قضيته انسانية إلى أن يعلم أن القضية الفلسطينية هي قضية أرضٍ محتلة وشعبٍ يناضل من أجل حريته .

قام وديع حداد بتأسيس ” الجهاز الخاص ” في اقليم فلسطين بعد الوحدة المصرية السورية وكان أول تمثيل عسكري بدأ من خلاله عملياته الخاصة، وبعد تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1967 بسنوات قليلة قام وديع حداد بأول عملية نوعية حينما نفذ عملية اختطاف طائرة ” العال ” المتجهة من روما “لإسرائيل” وإنزالها قسراً في الجزائر وتوالت عملياته الذكية والنوعية الموجهة لقلب الكيان الصهيوني والذي كان يخرج من كل ضربة واهناً يراوح بين الموت والمهانة.

التقى وديع حداد رفيق دربه جورج حبش في بغداد عام1976 وكم كان لقائهما مؤثراً اختلطت فيه الدموع مع الكلام لشدة المحبة التي يكنّها كلا منهما للآخر ولم يعلما أنّ وديع حداد قد اقترب من يوم استشهاده حينما اُكتشف أنه يعاني من مرض عضال أواخر عام 1977 ، شُخص هذا المرض آنذاك على أنه سرطان في الدم وعند نقله إلى ألمانيا الشرقية للعلاج استشهد هناك عام 28/3/1978 وبعدها نقل ليدفن جثمانه في بغداد، و بعد سنوات عديدة يعترف أحد عملاء الموساد الصهيوني أن الموساد قرر اغتيال وديع حداد بعد عملية خطف طائرة اير فرانس الإسرائيلية المتجهة إلى عنتيبي في أوغندا عام 1976 حينها أرسل له الموساد من خلال عملائه في العراق عند تواجده في بغداد حلوى بلجيكية كان يفضلها وديع حداد تحتوى على مواد بيولوجية سامة ..

كان الاحتلال يرى بأنه بات من الضروري تنفيذ عملية اغتيال حداد، تتمثل بتصفية قنبلة موقوتة تجسد “عقلاً خلّاق يخطط لعمليات مقبلة” أكثر شراسة وقسوة .

اغتال هذا المحتل جسد وديع حداد لكن لم يكن ليستطيع اغتياله من ذاكرة الأحرار والثوار الذين أَضحى في مخيلاتهم رمزاً جيفارياً يستقون منه الكبرياء والتحدي .. وديع حداد “أبو هاني ” لم يمت فرجاله الثوار ومن هم على دربه التحرري سيكملون الدفاع عن تراب هذه الأرض وعن حرية الإنسان و كرامته وسيرفرف علم الحرية على ثراها ..

فوديع حداد مهّد لنا الطريق وأناره لجموع المقهورين ليكملوا طريق كرامتهم و حريتهم . فإلى روحه الخلود و المجد .

اسم الكاتب : محمود الترامسي
2013-03-28

مقالات ذات صلة