المقالات

خيار حل السلطة الوطنية الفلسطينية || حساب المكاسب والخسائر

خيار حل السلطة الوطنية الفلسطينية: حساب المكاسب والخسائر

إبراهيم عبد الكريم

بعد سنة من اتفاق أوسلو وتوقيع إعلان المبادئ (1993)، شكّلت منظمة التحرير الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة سلطتها (الوطنية – وهذه لفظة توصيف رفضتها إسرائيل)، انسجاماً مع “اتفاق غزة-أريحا” (عام 1994)، وتم تحديد جغرافيتها بموجب الاتفاق المؤقت (1995)، الذي تم تنفيذه جزئياً.

وكان الفلسطينيون يرون في هذه السلطة ممراً لقيام دولة مستقلة في نهاية الفترة الانتقالية المحددة بخمس سنوات. لكن على مدى الأعوام التي تلت قيامها، وجدت السلطة الفلسطينية نفسها، ضمن السياق التفاوضي وخارجه، أمام نهج إسرائيلي يقوم على المماطلة والتسويف والتلاعب بالمصير الفلسطيني، لخفض سقف تطلعات الفلسطينيين، وفرض الأمر الواقع عليهم.

وراحت السلطة الفلسطينية تتآكل تدريجياً جرّاء المحاولات الإسرائيلية الرامية إلى اجتثاث عوامل التطور الفلسطيني المستقل، عبر الضربات والإجراءات المتلاحقة، وأبرزها؛ إعادة احتلال مناطق من الضفة الغربية انسحبت منها، وتكثيف النشاطات الاستيطانية، خاصة في القدس المحتلة ومحيطها، ومواصلة الاقتحامات والاعتقالات في الضفة، وتعزيز الحواجز، وحجز أموال الضرائب، وتشديد الحصار على غزة. وبدأ الاحتلال الإسرائيلي يمارس سطوته خارج القانون الدولي، من دون أي مسؤوليات أو حساب، ومن دون أن يتيح للفلسطينيين فرصة لممارسة سلطتهم الحقيقية.

أمام هذا الواقع، ظهرت فكرة حل السلطة الفلسطينية، وإعادة المفاتيح إلى إسرائيل، وتكررت غالباً على شكل تهديدات وتحذيرات، ولاسيما على لسان رئيسها محمود عباس، في ظل الجمود السياسي الذي حدث منذ تشكيل حكومة نتنياهو الأولى (2009)، وصولاً إلى أيامنا هذه التي أعاد فيها عباس طرح الفكرة، بالتزامن مع تكثيف الاستيطان، خاصة في منطقة (E-1) شرق القدس، مبيّناً أنه لن يبقى رئيساً لسلطة غير موجودة سيادياً، في ظل يقينه بتنامي فرص نتنياهو في تشكيل حكومته الثانية، بعد انتخابات الكنيست المقبلة.

من الواضح أن خيار حل السلطة ينطلق من اعتبارات فلسطينية لحل المشكلة القائمة حالياً، بما يؤدي إلى الخروج من النفق المغلق، والتغلب على البيئة الخانقة التي تحكمت إسرائيل وحلفاؤها في معظم مكوّناتها. وفي الواقع، فإن السؤال الذي يطرحه البعض، والقائل: هل حل السلطة الفلسطينية هو الحل؟، يُفترض معرفة الظروف والتداعيات المتعلقة بالخيار المطروح، لإدراك مدى واقعيته وبدائله وانعكاساته.

فلسطينياً؛ من المعروف أن السلطة شكّلت حالة متمايزة عن الاحتلال، وفتحت الباب أمام إمكانية تحسين الظروف العامة للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. كما أنعشت الآمال لدى الكثيرين بمواصلة مسيرة النضال الفلسطيني لإنجاز هدف إقامة الدولة المستقلة. وحاولت الفصائل لهذا الغرض تهميش خلافاتها حول أخطاء أوسلو، توقاً إلى تغيير ميزان القوى بما يخدم النضال الفلسطيني.

يشار هنا إلى أن حركة “حماس” وصلت إلى مشاركتها في الحكم عن طريق السلطة، بانتخابات ديمقراطية. وشكّل قطاع غزة حالة خاصة في الإدارة الحكومية التي انتهجتها “حماس” منذ سيطرتها عليه (منتصف عام 2007)، والتي أثبتت فيها قدرتها على الصمود والمواجهة الفاعلة.

وبصرف النظر عن تفصيلات الواقع الفلسطيني الانقسامي الراهن، وعن تعطّل انتخابات الرئاسة والمجلس التشريعي منذ انقضاء ولايتهما، فإن حل السلطة الفلسطينية يبدو أنه سيضع قطاع غزة وحكومة “حماس” على مسار مواز للمسار الحالي، حيث من المرجح أن تختلف المعادلات الناظمة لحركة المعابر القائمة بين القطاع والمجال الإسرائيلي، مقابل توطّد علاقات التعاون مع مصر وبعض الأطراف العربية الأخرى.

أما بشأن الضفة الغربية، فالمسألة في غاية التعقيد، مجسَّدة ببعض المعطيات، ومرهونة باحتمالات إشكالية. فبرغم كل القيود الإسرائيلية، فقد لوحظ أن السلطة الفلسطينية انتقلت إلى العمل المؤسساتي، وشكّلت حكومة ذات برامج اقتصادية واجتماعية وقضائية، واجتذبت بفضل الاستقرار النسبي في الضفة بعض المستثمرين العرب والغربيين، ما عزز قطاع الأعمال والتنمية، إلى جانب تجنيد الدعم العربي والدولي للسلطة مادياً وسياسياً. كما أعادت حكومة السلطة في الضفة بناء وزاراتها وقواتها الأمنية، وأخذت تنفّذ القانون والنظام بصورة تمزج بين الحزم والمرونة.

وإزاء الأسباب التي حالت دون تحقيق الأهداف الفلسطينية المنشودة، تزايدت التساؤلات عن جدوى استمرار السلطة. لكن هناك حقيقة ساطعة تتلخص في أن خيار حل السلطة مُطالب بأن يوفّر البديل الأفضل للواقع الفلسطيني الحالي. فهل ثمة علامات في هذا المنحى؟

تدرك منظمة التحرير وحركة “فتح” أن حل السلطة سيفضي إلى فراغ وطني وفوضى، ولن يوقف عمليات الاستيطان. ومن الناحية الإجرائية والوظيفية، تشكل السلطة عنواناً لمختلف الشؤون التنظيمية والخدمية والدبلوماسية، وإلغاء هذا العنوان سيكون قفزة في المجهول. وقبل اتخاذ قرار بحل السلطة يتعين تأمين عمل ووظائف لعشرات الآلاف من العاملين في أجهزتها الأمنية والحكومية وسواها. ناهيك عن أنه لا توجد مصلحة لكبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية بحلها، بسبب شبكة العلاقات الواسعة التي نسجوها في الساحات العربية والدولية.

ومن ناحية الارتباطات، هناك من يؤكد أن منظمة التحرير وحركة “فتح” غير قادرتين عملياً على التفرد بقرار حل السلطة، التي جاءت نتاج اتفاق سياسي برعاية دولية، والتي بلورت بنية داخلية شاركت فيها هيئات متعددة وأفرزت كياناً جديداً. وكان من الاعتراضات التي ظهرت، تأكيد القيادي في حركة “حماس” د. محمود الزهار، أن “الشعب الفلسطيني شارك في السلطة، وأن حلها قرار فلسطيني لا يملكه عباس بمفرده، مشدداً على أنه في القضايا المتعلقة بالوطن، لا بد من استشارة الأطراف الفلسطينية الفاعلة”. وتصريح د. حسن خريشة، نائب رئيس المجلس التشريعي، الذي رأى أن “الرئيس عباس إذا أراد أن يرحل أو يستقيل فهذا شأنه، ولكن عليه عندئذ أن يسلم المفاتيح لمن انتخبه وسلّمه مقاليد الحكم، وهو الشعب الفلسطيني”.

وفي نطاق أوسع، يتطلب قرار حل السلطة وجود تفهم له من الأطراف العربية والدولية النافذة، وهذا ما لا يمكن الحصول عليه، وبالتالي ينشأ هنا رادع أو كابح آخر لا يُستهان به، لأن هذه الأطراف معنيّة بتذليل العقبات أمام استمرار “عملية السلام”. وتشكل زيارة الأمين العام للجامعة العربية، نبيل العربي، إلى رام الله، مؤخراً، وبعدها زيارة ديفيد هيل، مبعوث الرئيس أوباما، رسالة في هذا المنحى.

إسرائيلياً؛ تتعدد المواقف بشأن حل السلطة الفلسطينية، ومن أبرز التقديرات المتداولة أن لا مصلحة لإسرائيل في انهيار السلطة، وأنه لم تنته بعد أسباب وجودها، لكونها تؤدي دوراً لا يزال تحت السيطرة. ويسود اعتقاد لدى العديد من الأجهزة الإسرائيلية أن بقاء السلطة هو أهون الشرور بالنسبة إلى إسرائيل، وأن حلها سيزيد صعوبة كبح صعود “حماس” إلى قمرة القيادة، وستضطرب بتأثيره علاقات إسرائيل مع الأردن ومصر وسواهما، حيث ستبرز إسرائيل كدولة محتلة لمناطق وسكان بلا قيادة.

وتتحسب إسرائيل لأعباء عودة سيطرتها الأمنية الكاملة على الضفة الغربية ومسؤوليتها عن التعليم والصحة وشتى مجالات الحياة الأخرى. وقد كشف بحث أجري لمصلحة المستوى الرسمي الإسرائيلي عن أنه إذا انتقلت الضفة إلى مسؤولية إسرائيل، فإن هذا سيكلفها نحو 3.5 مليار دولار سنوياً، وذلك من دون الحديث عن تبعات أخرى.

غير أنه مقابل التقدير بأن حل السلطة سيكون عقاباً شديداً لإسرائيل، تكرر التحريض الإسرائيلي ضد السلطة ورئيسها محمود عباس، خصوصاً من قبل رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزير خارجيته المستقيل، أفيجدور ليبرمان، بحثاً عن شخصية أخرى من السلطة تكون “شريكاً في المفاوضات”، بمعنى أنها توافق على الحل الإسرائيلي، خلافاً لعباس الذي وصفه نتنياهو وليبرمان بأنه يمثل جيلاً قديماً متمسكاً بأوهام تتعلق بقضايا أساسية، لا يمكن لإسرائيل أن تتنازل فيها، كقضايا الأمن واللاجئين والقدس.

واتّساقاً مع هذه الحالة، رأى تيار إسرائيلي بارز أنه في حال تم تفكيك السلطة، فإن ذلك قد يخفّف الضغط على إسرائيل، وستتهمش إمكانية إنجاز حل بذريعة عدم وجود سلطة فلسطينية، وأن ذلك لا يعني نهاية العالم، ولن يحدث انهيار أجهزة، خاصة أن هناك حالياً إدارة مدنية قائمة، ولها علاقات على المستوى البلدي في مناطق السلطة، وسيكون من الممكن بناء سلطة تكنوقراط، على غرار سنوات الثمانينيات من القرن الماضي وفي فترة الانتفاضة الأولى، وستبحث إسرائيل عن “قيادة بديلة”، سواء باستنساخ تجربة “روابط القرى” في الضفة، خلال أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، أو عبر تتويج شخصيات ذات نفوذ.

وعلى أية حال، ستبقى إسرائيل معنية بإبقاء الفلسطينيين تحت القمع والاضطهاد، ولن تبادر طوعاً إلى تحمل مسؤولياتها كقوة احتلال لدى حل السلطة، وستحاول استباقه بجعله مكلفاً للفلسطينيين، وستواصل تغذية الانقسام الفلسطيني، وتقويض مفاعيل قرار الدولة المراقبة غير العضو في الأمم المتحدة، واستمرار التعامل مع قطاع غزة بالوسائل العسكرية، والتطلع إلى دفعه ليصبح تحت مسؤولية مصرية.

هذه حقائق لا تغيب عن الجانب الفلسطيني، الذي يجد نفسه في “مأزق استراتيجي” محكم، تتساوى فيه تبعات الإقدام والإحجام بشأن خيار حل السلطة أو الحفاظ عليها. وبفعل غياب البديل المناسب، يبدو حل السلطة كإمكانية نظرية، وتظهر التهديدات الحالية بتنفيذه كفقاعات صوتية، تهدف في الأساس إلى استقطاب الاهتمام، للضغط على المجتمع الدولي وإسرائيل، من أجل العودة إلى المفاوضات بعد الانتخابات الإسرائيلية. والمطروح من قبل زعامة السلطة حالياً وقف الاستيطان واستئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها في عهد حكومة أولمرت (تشرين الثاني/نوفمبر 2008)، بهدف التوصل إلى اتفاق إطار حول قضايا الوضع النهائي.

واستكمالاً للمناقشة، بقي أن نبيّن أنه، برغم عدم واقعية خيار حل السلطة، وعدم جدية الدعوات لاعتماده، فربما يجدر فحصه في حال توافُر شروط ملائمة، أبرزها؛ إنجاز المصالحة التامة بين “فتح” و”حماس”، واستعادة وحدة منطقتي السلطة اللتين ستشكّلان رقعة إقليمية واحدة للدولة الفلسطينية المنتظرة، على قاعدة برنامج وطني، يتضمن استراتيجية واضحة صلبة، ضمن حاضنة عربية، تتيح التمسك بالثوابت الوطنية، وتعزيز الصمود الفلسطيني على الأرض، ومواصلة العمل لانتزاع الحقوق، ومقاومة الاحتلال بكل الوسائل، وتحرير المعتقلين، والتخلي عن نهج أوسلو، مروراً بإعادة بناء منظمة التحرير وتوسيع المشاركة فيها كأداة كفاحية فاعلة.. لكن كل هذا هو مجرد “افتراض نظري”، أمام واقع ضاغط شديد الوطأة على الفلسطينيين، ولا قدرة لهم وحدهم على تغييره جذرياً.

مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبوظبي، 6/1/2013

مقالات ذات صلة