المقالات

فلسطين على أبواب البيت الأبيض.. القادة العرب يطلبون لأنفسهم.. على حسابها!

يواصل العدو “الإسرائيلي” نهش أراضي السلطة التي لا سلطة لها على ما تبقى من فلسطين، مستغلا انشغال أهل النظام العربي عنها، بل واستعدادهم للتضحية بها من أجل سلام يحفظ لهم عروشهم والرئاسات في الجمهوريات والممالك والمشيخات على حد سواء.

.. ويواصل الشعب الفلسطيني الأعزل إلا من حقه التاريخي فى أرضه مقاومته بما تيسر له من أسباب المقاومة: الإضراب والتظاهر وهجمات الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم هدى بالسكاكين والحجارة.

بالمقابل، يستعد رئيس “السلطة الفلسطينية” لزيارة واشنطن ولقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وهو يكاد يطير فرحا فالصورة فى البيت الأبيض إنجاز تاريخي يعوِّض تضاؤل الأمل بالتحرير والسيادة وقيام الدولة الوطنية على كامل الأرض الفلسطينية..

ها هو رئيس السلطة يلقى مثل تكريم من سبقه من الملوك والرؤساء وأولياء العهود العرب: يجلس فى مواجهة رئيس الكون فى المكتب البيضاوي وتلتقط له الصور وهو يصافح نظيره الأمريكي والابتسامات العريضة ترفرف بالزهو من حولهما.

طلال سلمان
طلال سلمان

أما المواقف فمعلنة سلفا: لم يحدث أن أشار أي رئيس أو مسؤول أمريكي إلى الدولة الفلسطينية فى أي يوم مضى، وبالتأكيد فإن ترامب الصديق الصدوق للوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة الأمريكية كما لرئيس حكومة العدو “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو لن يشذ عن القاعدة، وإن كان قد تجاوز أسلافه من الرؤساء فتجرأ على دعوة رئيس السلطة الفلسطينية والتقاه فى البيت الأبيض، من دون أن تكون هناك معاهدة جديدة مع الحكومة “الإسرائيلية” معدة للتوقيع، كما حصل مع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات… اللهم إلا إذا كانت سوف تأتى لاحقا لهذا اللقاء التاريخي، وثمرة له ودائما بشروط “إسرائيل”.

لا مجال للمصادفات والمجاملات فى هكذا لقاء، فلا هذا الرئيس الأمريكي، على وجه التحديد، متعاطف مع نضال الشعب الفلسطيني وحقه فى أرضه الوطنية، ولا هو متمرد على النفوذ الصهيوني ويريد أن يسجل موقفا بطوليا بنصرة الشعب المظلوم..

ثم إن زيارة رئيس السلطة التى لا سلطة لها تأتى فى سياق محدد: فهي، من جهة، تأتي فى أعقاب قمة التنازلات العربية عن حق الفلسطينيين (والعرب) فى أرضهم، وهى التى عقدت فى عمَّان لتكمل ما كان بدأ فى القمة العربية فى بيروت قبل خمس عشرة سنة، وقد تجاوزتها فى تأكيد حق “إسرائيل” فى الوجود إلى التسليم بأن يكتفي الفلسطينيون ببعض البعض فى أرضهم التاريخية فى فلسطين… بموافقة عربية إجماعية كادت تتصرف مع “إسرائيل” وكأنها “دولة شقيقة”.

ثم إنها تأتي، من جهة ثانية، فى سياق تحرك مستجد للبيت الأبيض فى ما يتصل بالقضية الفلسطينية.. وهو سياق دلالاته الكاملة فى غياب صوت الاعتراض العربي على ما يدبر فى واشنطن (وتل أبيب، طبعا) متصلا بهذه القضية التي كانت مقدسة والتى تطرح الآن فى سوق النخاسة تتلاعب بها المناقصات بعدما شغل عنها قادة العرب الذين يتنافسون فى التنازل عن الحق التاريخي فى الأرض الفلسطينية.

كذلك فهي تأتي فى سياق المواكب الملكية والرئاسية العربية التى حجت من قبل أو ستحج إلى البيت الأبيض فى المستقبل القريب والتى شملت إلى جانب ولي ولي العهد السعودي، الملك الأردني، ورئيس الوزراء العراقي، والرئيس المصري، ثم الملك الأردني مجددا، وبعد القمة العربية لطمأنة ترامب إلى الالتزام العربي بالوعود والعهود التى قطعت له.

***

.. وبالتأكيد فإن تحرير فلسطين ليس بين هذه العهود!

ولن يستطيع محمود عباس أن يأخذ من ترامب أكثر مما أعطاه أقرانه العرب، وأكثر مما أعطى هو نفسه لتحرير فلسطين.

إن الرئيس الأمريكي الجديد الذى وصل عبر موجة عالية من الشعارات المتطرفة إلى حد الاستحالة، والذي تعهد بأن يكون نقيض سلفه باراك أوباما، والذي زاد عدد قواته العسكرية (ولو باسم الخبراء) فى العراق، والذى قصف مطارا عسكريا من على بعد فى سوريا، والذى يتحايل للتملص من موجبات الاتفاق النووي مع ايران، ويتعهد بحماية التدخل العسكري السعودي بل الخليجي على اليمن.

إن مثل هذا الرئيس الآتي من عالم المضاربات فى البورصة، وهو عالم اخترعه اليهود وما زال الصهاينة يتحكمون، لن تشغل وجدانه قضية الحق المضيع فى فلسطين لأهلها، خصوصا أن القادة العرب باتوا يضيقون بأثقالها ويتمنون الخلاص منها بأي ثمن.

من غير المنطقي أن نطالب الرئيس الأمريكي بأن يكون إلى جانب فلسطين أكثر من القادة العرب، وأن يخاصم “إسرائيل” ونتنياهو ويذهب إلى الحرب معها وعليها بينما الملوك والرؤساء والأمراء والشيوخ يتسابقون إلى طلب الصلح معها وبشروطها.. لا سيما بعدما تخلصوا من مزايدات القيادة الفلسطينية التى كانت تقول بالثورة والتحرير ثم تحررت من عبء الشعارات الثقيلة لتقول بـ”التسوية” وتقبل بما هو دون ما نصت عليه قرارات الأمم المتحدة.

عندما يتزاحم الملوك والرؤساء والشيوخ العرب على واشنطن ويسعون إلى نيل رضا البيت الأبيض، فمن الظلم تحميلهم عبء التحرير واستعادة فلسطين أو حتى بعضها.. خصوصا أن معظمهم إن لم يكن جميعهم ذاهب بطلب المعونات الاقتصادية والمساعدة العسكرية، بل وربما الحماية المباشرة من الخطر الإيرانى الداهم!

لقد اندثر العرب!. ضربهم الانقسام وشرذمتهم الحروب ضد الذات، ومزقت احتمالات تلاقيهم لمواجهة عدوهم “الإسرائيلي”، فأخذوا يتسابقون أو يتسللون، لا فرق، إلى طلب الصلح معه، بشروطه، وتحت تسمية التسوية التى تكاد تماثل الاستسلام، وأفدح الأثمان هي تلك التى سيدفعها شعب فلسطين والتى ستنال من كرامة الأمة جميعا.

لقد بات لقاء المسؤولين العرب مع الرئيس الأمريكي، وتحديدا هذا الرئيس الصريح فى إعلان مواقفه، مكلفا.. فهو يعني، بالضرورة، قدرا من التنازل، سواء بطلب المساعدة بشروطه، وغالبا ضد الأشقاء أو الجيران وإيران تحديدا، أو بطلب الإغاثة لإنقاذ أوضاعهم الاقتصادية من كارثة تتهددها.

بكلام آخر: إن الذاهب ليطلب لنفسه لن يتذكر فلسطين ولن يطلب لها، بل إنه فى الغالب الأعم سيأخذ على حساب التنازل عن جوهر قضيتها.

***

مع أن رصيد فلسطين، كقضية تحرر وطنى، عظيم لدى شعوب العالم والعديد من حكوماته، إلا أن الأنظمة العربية (فضلا عن السلطة الفلسطينية) تكاد تستهلكه جميعا خارج أهدافه الأصلية.

إن الأنظمة العربية تحاول تغطية تقصيرها الفاضح تجاه القضية المقدسة بادعاء بذل الجهود لدى واشنطن من أجلها.. فى حين أنها تسحب من رصيد فلسطين لحساب أنظمتها المأزومة، ثم تحاول إيهامنا بأنها إنما تحاول التخفيف من الانحياز الأمريكي إلى العدو الإسرائيلي… بينما مواقفها المستجدية تأخذ من رصيد فلسطين وتضيف إلى رصيد العدو، مقابل ثلاثين من الفضة لن تسهم فى حماية نضالات الشعب الفلسطيني أو فى تمكينه من استعادة الحد الأدنى من حقوقه فى وطنه الذي سيظل وطنه.

كل زيارة ناجحة لملك أو رئيس أو أمير عربي للبيت الأبيض فى واشنطن إنما تحسم من رصيد قضية فلسطين بدلا من أن تعطيها.. فالذاهب ليطلب العون العسكري أو الاقتصادي أو الحماية السياسية لا يستطيع الادعاء مطلقا أنه بهذا الموقف إنما يعطي فلسطين، بل إنه فى الغالب الأعم يأخذ منها أو يحسم من رصيدها لدى الأمريكيين أو سائر دول العالم، والغربي على وجه الخصوص.

والمسألة لا تتصل بمن هو الرئيس فى البيت الأبيض، بل بماذا فعلنا ونفعل نحن من أجل فلسطين أو لحمايتها من الضياع.

مقالات ذات صلة