فى هذا اليوم

مجزرة تل الزعتر… الحكاية التي لم تروى

مجزرة تل الزعتر… الحكاية التي لم تروى || 12 .08. 1976

بعد 54 يوم من الحصار المطبق، وفي 12/8/1976 أُسقِط تل الزعتر، سيبقى التاريخ وخريطة التوزيع الجغرافي والديموغرافي للاجئين الفلسطينيين في لبنان، شاهدان على وجود مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان الذي دُمِّر في العام 1976 إبان الحرب الأهلية التي اجتاحت لبنان لمدة 17 سنة، ومن سينسى القصص المرعبة لقناص بئر الماء، ومدرسة الدكوانة، وحوالي 500 شخص ماتوا قتلاً واختناقاً في ملجأ المخيم، منهم أكثر من خمسين لاجئ من عائلة حمزة.

42 سنة مرت على اغتيال المخيم، لتنضم مجزرة تل الزعتر لبقية المجازر التي ارتكبت بحق مخيمات لبنان، والسمة المشتركة بينها “الإفلات من العقاب”، فلا يزال المجرمون طلقاء يجولون بيننا. تأسس المخيم عام 1949 بعد مرور عام على نكبة فلسطين ويقع في شرق مدينة بيروت بالقرب من حرش ثابت ومساحته56646 متر مربع.

بداية المعركة

بدأت معركة تل الزعتر، أطول معارك الحرب الأهلية وأكثرها خسائر وضحايا، فقد فرضت “الكتائب” الحصار على مخيم اللاجئين منذ شهر كانون الثاني –يناير 1976 ثم شن في 22 حزيران هجوما واسع النطاق على تل الزعتر وعلى التجمعين المجاورين له، جسر الباشا والتبعة وبدأت القذائف والصواريخ تمطر هناك بلا انقطاع من الفجر إلى المغيب وعلى مدى 55 يوما متتالية تقدر عدد القذائف التي سقطت على تل الزعتر والذي التجأ إليه 20 ألف فلسطيني و 15 ألف لبناني بحوالي 55000 قذيفة.

ويروي صلاح خلف “ابو اياد” في كتابه “فلسطيني بلا هوية” ان البداية كانت من عند بضع مئات من أفراد ميليشيا “كميل شمعون” التي عاد الكتائبيون بعد خمسة أيام فانضموا إليها بعد تردد – بمحاصرة المخيم بعد دخول الجيش السوري إلى لبنان بعشرة أيام وببديهة الحال، فإنهم انتظروا مبادرة دمشق ليقوموا بهذه المذبحة.

مجزرة تل الزعتر… الحكاية التي لم تروى

وويقول أبو إياد “دليلي على ذلك هو رد فعل اليمين المسيحي على عرض التسوية الذي قدمته المقاومة مع كمال جنبلاط أليهم في 25 أيار أي قبل تدخل الجيش السوري بأسبوع، وكان هدف الصيغة المقترحة هو بالضبط منع تدخل دمشق العسكري فقد عرضنا الانسحاب من كافة المناطق التي فتح في الجبل على أن نتركها تحت إشراف قوات تكفي لشن هجوم مضاد ولتحطيم الحصار، لكن الجيش السوري كان مع الكتائبيين وسلم هذا الاقتراح الذي حررت صيغته بيدي في رسالة إلى بيير الجميل بواسطة معاوني أبو حسن سلامة، إلا أن رئيس الكتائب لم يرد على رسالتي غذ كان ينتظر خشبة الخلاص الدمشقية وفرصة تحقيق انتصارات عسكرية”.

وتابع في كتابه “الحقيقة هي أن تل الزعتر كان مشروع إبادة بالأسلوب الفاشي الصرف، وقد كان “بيير الجميل وكميل شمعون” يعرفان أننا لا نملك أية وسيلة فعالة لتحرير مخيم اللاجئين المطوق مع التجمعين المجاورين له والمطوقين تطويقا كاملا بواسطة حزام مسيحي يسيطر عليه الانفصاليون، وكان لدينا في المطلق قوات تكفي لشن هجوم مضاد ولتحطيم الحصار لكن الجيش السوري كان لا يزال رغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي عقدناه معه قبل ذلك ببضعة أيام يشل حركتنا في شمال لبنان وفي جنوبه معا بحيث أن سحب المقاومة لقواتها من المراكز التي تحتلها في مواجهة القوات السورية كان سيشكل كارثة،”غير أننا أسهمنا في الدفاع عن المخيم بقصف محاصريه وبمحاولة تدمير مدافعهم المبعثرة في المدينة، وعلى التلال المجاورة حيث كنا نتمكن من تحديد مواقعها بفضل المعلومات اللوجستيكية التي كان المسئولون العسكريون في تل الزعتر يزودونا بها بواسطة الراديو وبفضل هذا الحزام الناري الذي أنشأتاه لم يتمكن المحاصرون من اقتحام المخيم”.

الجوع والعطش

ويضيف “غير أن المخيم كان مهددا من الداخل بأكثر مما كان مهددا من الخارج ذلك أن الحصار الذي دام أكثر من خمسة أشهر أفضى بالأهالي إلى عتبة المجاعة بل أن ما كان أكثر قسوة وفظاعة هو نقص الماء وشحه، فبعد أن نجحت الميليشيات في تفجير شبكات المياه لم يبق أمام أهالي تل الزعتر سوى بئر ملوثة شحيحة المياه وكان البئر معرضا لسيل من القذائف المنهمرة على المخيم فكان لا بد من إرسال حملات بالمعنى الحقيقي للكلمة، للبحث عن الماء وكانت كل محاولة من هذه المحاولات تذهب بحياة شخصين أو ثلاثة بحيث أن الناس في تل الزعتر اعتادوا على أن يقولوا أن كأس ماء تساوي فعلا كأسا من الدم.

مجزرة تل الزعتر… الحكاية التي لم تروى

وقد نال ذلك كثيرا من صغار الأطفال وبطبيعة الحال فإنه لم يكن في الوارد تزويد الرضع بالحليب كما أن كمية الخبز والماء الموزعة على العائلات كانت أقل من أن تكفي صغار السن، حتى أننا كنا نسمع عندما نتحدث إلى مسئولي المخيم بالراديو أنين وعويل الأطفال وعويل الصارخين ” أنا عطشان يا أمي ” وعلى هذا فقد مات بخلاف البالغين حوالي ثلاثمائة طفل ورضيع جوعا وعطشا أبان فترة الحصار.

ولم نكن ندرك خطورة الوضع في بداية المعركة إلى أن اتصل بنا ذات يوم طبيبان من أطباء المخيم لطلب النجدة وكان يصران على الحديث مع مسئولين سياسيين من المقاومة وليس مع مسئولين عسكريين وأحسست بغيظهما وتيجانهما عندما قالا بلهجة جافة ” فإذا كنتم لا تستطيعون التوصل لوضع حد لهذه المجزرة فجدوا على الأقل وسيلة لتمويننا بالماء والغذاء”.

فتوى أكل جثث الشهداء

وبسبب المجاعة التي جرت على أهالي المخيم بسبب الحصار الذي استمر عدة أشهر طلب الفلسطينيون في تل الزعتر من علماء المسلمين فتوى تبيحُ أكلَ جثثِ الشهداء كي لا يموتوا جوعاً!

وفي ذلك كتب احد الشعراء:

“.. والآن تكفِّنُهُ عيني .. فدعوني آكلُ من إبني .. كي أنقذَ عمري .. ماذا آكل من أبني ؟!! من أين سأبدأ ؟!

لن أقربَ أبداً من عينيه .. عيناهُ الحدُ الفاصل .. بين زمانٍ يعرفني .. وزمانٍ آخر ينكرني..

لن أقرُبَ أبداً من قدميه .. قدماهُ نهايةُ ترحالي .. في وطنٍ عشتُ أطاردُهُ .. وزمانٍ عاشَ يطاردني..

ماذا آكلُ من أبني ؟! يا زمنَ العار .. تبيعُ الأرض، تبيعُ العرض .. وتسجدُ جهراً للدولار..

لن آكل شيئاً من أبني يا زمنَ العار .. سأظلُّ أقاومُ هذا العفن .. لآخرَ نبضٍ في عمري ..

سأموتُ الآن .. لينبُتَ مليون وليد.. وسطَ الأكفان على قبري ..

وسأرسم في كل صباح .. وطناً مذبوحاً في صدري.. ”

مجزرة تل الزعتر… الحكاية التي لم تروى

وعندما سقط المخيم في 12 آب وتمكنت الميليشيات اليمينية من دخوله كان عدد القتلى من جراء القصف اليومي على مدى 52 يومًا قد تجاوز الألف، إلا أن دخول القوات اليمينية للمخيم كان بداية لحمام دم جديد أشد قسوة من كل ما سبق، فقد راحت الميليشيات تنظم كمائن جبانة للسكان العزل حيث تدعوهم بالميكروفونات للخروج من المخابئ بدعوى إجلائهم ثم تطلق النار عليهم. وراحت المليشيات المختلفة تتنافس على ذبح أكبر عدد من الفلسطينيين بطرق لا تخطر ببال. تعرضت عائلات بأكملها للذبح، ورفضت الميليشيات بإصرار السماح بإجلاء أي رجل إلى بيروت الغربية، وكان تعريفهم للرجل هو “الذكر الذي يتراوح عمره بين عشرة أعوام وخمسين عامًا! وتعرضت أعداد غفيرة من النساء للاغتصاب قبل ذبحهن، بينهن فتيات كثيرات يقل عمرهن عن عشرة سنوات. بل إن الخسة بلغت بالقوات التي اقتحمت المخيم، تحت إشراف الضباط السوريين، أنهم قاموا بصف 60 من ممرضي المخيم في صفين وأطلقوا عليهم الرصاص في واحدة من أسوأ المذابح.

لقد تعرض أهالي تل الزعتر لمذبحة جماعية بشعة، وتحول مخيمهم إلى جراج كبير للسيارات. كما أنهزم تحالف الحركة الوطنية اللبنانية – المقاومة الفلسطينية أمام ميليشيات اليمين الفاشي المدعومة من كافة دول المنطقة.

مجاز بشعة

وقد قدر عدد شهداء المخيم بحوالي 3000 غالبيتهم من المدنيين من الأطفال والنساء وكبار السن من أبناء اللاجئين، عدا عن عدد كبير من المفقودين الذين لم يعرف مصيرهم حتى الآن. قُدِّر عدد المقيمين في المخيم في ذلك الوقت بحوالي 17 ألف لاجئ، يعيش معهم حوالي 13 ألف من اللبنانيين الفقراء الباحثين عن لقمة العيش، بالإضافة الى أعداد قليلة من السوريين والمصريين والأكراد، فحوالي 22% من مصانع لبنان كانت في المنطقة المحيطة بالمخيم.

مجزرة تل الزعتر… الحكاية التي لم تروى

نكبة جديدة عاشها اللاجئون من سكان المخيم، تشتت العائلات، منها من سارع لمغادرة لبنان، ومنها من انتقل للعيش في المخيمات الأخرى والمناطق والتجمعات، لا سيما في ثلاثة عشر تجمعاً استوعبت العدد الأكبر، لتضم مهجري تل الزعتر ومخيم النبطية (في منطقة صيدا: البركسات، الطوارئ، التعمير، الفوار، الهمشري، المدينة الصناعية، أوزو، العودة، درب السيم، في بيروت: تجمعي شاتيلا وغزة، في طرابلس شمال لبنان: مبنى أبو نعيم في البداوي وحي المهجرين في مخيم نهر البارد الذي دمر في العام 2007 ويعاد بناؤه في الوقت الحالي)، وانضم للتجمعات لاحقاً مهجرين إبان الاجتياح الإسرائيلي الى لبنان في العام 1982، وبعد ذلك مهجرين جدد انضموا من مخيمات وتجمعات منطقة صور بعد حصار المخيمات في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي.

سُوِّي المخيم بالأرض، ليس فقط بسبب 55 ألف قذيفة استهدفت المخيم لا بل أكملت المهمة جرافات خاصة استُحضرت للغاية، ولم توافق الدولة اللبنانية على إعادة إعمار المخيم، والغريب بأن لا موقف تم رصده من قبل وكالة الاونروا تجاه ما جرى للمخيم ولاجئيه.

على الرغم من مرور 42 سنة، مخيم تل الزعتر، لا يزال موجوداً بركامه وذكرياته الأليمة، ولاجئين لن يسامحوا أو ينسوا من قتل ذويهم وذاكرتهم، حتى لو لم يعودوا موجودين في المخيم.

مقالات ذات صلة