المقالات

خطيئة أخرى للجنة المبادرة العربية

خطيئة أخرى للجنة المبادرة العربية

منير شفيق

بدلاً من أن تحلّ لجنة المبادرة العربية الخاصة بمتابعة المبادرة العربية للسلام المقررة في القمة العربية في بيروت 2002، نفسها، وتعلن عن فشلها الذريع، وتقترح على مجلس الجامعة سحبها، والاعتذار على تبنّيها وما تضمّنه ذلك من تنازل عربي مجاني يشكّل سُبّةً في تاريخ قرارات القمم العربية، نعم بدلاً من حلّ نفسها والاعتذار والاعتراف بالفشل أقدمت على تنازل عربي مجاني جديد مفاده القبول بمبدأ تبادل الأراضي المتبقية من أرض فلسطين، والتي تقلّ عن 22 بالمئة منها، فضلاً عن تأكيد التمسّك بالمبادرة الكارثية التي تضمّنت تعهُّداً عربياً رسمياً بالاعتراف بالكيان الصهيوني إذا ما انسحب من الأراضي المحتلة في حرب حزيران 1967.

وبهذا تكون المبادرة العربية قد تنازلت عن حقوق ثابتة فلسطينية وعربية في 78 بالمئة من أرض فلسطين، واعترفت بكيان صهيوني اغتصب الأرض وشرّد أهلها بمخالفة صريحة للقانون الدولي. ممّا جعل وجوده والاعتراف به من وجهة نظر ذلك القانون غير شرعي وباطل، فضلاً عن رؤيتنا الأساسية للقضية الفلسطينية.

والآن تأتي لجنة المبادرة العربية لتؤكد ذلك حين أضافت عليه تنازلاً جديداً، يقبل بمبدأ تبادل أراضٍ من الضفة الغربية والقدس، ربما القدس كلها ما دام الباب في تبادل الأراضي قد فتح.

لو سُئِلت لجنة المبادرة، وبحضور أمين عام الجامعة العربية نبيل العربي، بأيّ حقٍ قررتم القبول بمبدأ تبادل الأراضي قبل مجلس الجامعة العربية، وبمقابل ماذا؟ تُقدِمون على هذه الخطوة، أم هي خطوة تنازل مجاني كالعادة تقدَّم بناءً على طلب أميركي؟ أو على أمل، كسراب خُلّب دائماً، بأن يتحقق “تنازل” صهيوني عن بعض حقوقنا.

والأنكى تأتي هذه الخطوة خارجة عن السياق العام الذي يسود الوضع كله كأنها تريد أن تقول للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية لماذا تهمّون بإطلاق انتفاضة تطلق كل الأسرى وتدحر الاحتلال وتفكك المستوطنات وتستنقذ القدس فيما الطريق الوحيد “المضمون” هو الطريق الذي سارت عليه سلطة رام الله ومن سار على هذا النهج من الحكومات العربية منذ اتفاق أوسلو 1993/1994 حتى الآن. ولهذا جئنا لنؤكده بسبب ما أثبتته التجربة من بعده، ومن بعد المبادرة العربية للسلام، كما من بعد مسلسل التفاوض والوساطات الأميركية.

أمّا الدليل على “صحة هذا النهج” فهو ما ترونه من استيطان انتشر في جسد الضفة الغربية كالسرطان فلم يبق منها إلاّ الفتات الذي قد يبقى للدولة-الدويلة العتيدة بعد التسوية، وهو أيضاً، ما ترونه من زيادة عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس من مئة ألف قبل اتفاق أوسلو إلى ستمئة ألف الآن، وهو، أيضاً، ما ترونه من تهويد للقدس.

حقاً كيف أمكنكم، يا نبيل العربي يا أمين عام الجامعة العربية، ويا رئيس لجنة المبادرة ورئيس الحكومة القطرية ووزير خارجيتها حمد بن جاسم آل ثاني، ويا أعضاء اللجنة وفي مقدمكم محمد كامل وزير خارجية مصر ورياض المالكي وزير خارجية سلطة رام الله على التبرّع بهذا التنازل وبكرم حاتمي في وقت ثبت بالتجربة، وباعتراف محمود عباس، وباعترافات سابقة من أغلبكم، بأنّ المفاوضات كانت عبثية، بل أنّ أوباما نفسه انسحب بعد أن بذل جهداً في السنتين الأوليين من عهده الأول من محاولة السعي من خلال المفاوضات لتحقيق ما يسمّى بحلّ الدولتين، بالرغم من أنّه حل كارثي لو تحقق، وبأيّ شروط كانت، بالنسبة إلى القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والحقوق العربية والإسلامية في فلسطين، لأن حلّ الدولتين يعني التنازل عن غالبية فلسطين والاعتراف بدولة الكيان.

لقد انبرى ممثلون عن سلطة رام الله وكذلك فعل أمين عام جامعة الدول العربية في تسويغ هذه الفعلة المشينة من حيث المبادئ والثوابت والأخلاق، والمباعة مجاناً من حيث السياسة وحتى من حيث “فن” البيع والشراء، ليقولوا أنّ التعديلات المشار إليها ستكون طفيفة ولا أهمية لها وستقابل حين تحدث بمثلها وبما يوازيها من حيث الأهمية. ومن ثم لماذا هذه الضجة، بل كل هذه الضجة على هذه الخطوة؟

طبعاً هذا “التبرير” لن يصدّقه أحد أبداً، بل أنّ المتقدمين به لا يصدقونه ومع ذلك لنقرأ كيف قوبلت هذه الخطوة “اللطيفة” حول المبادلات الخفيفة الطفيفة من وزيرة “العدل” تسيبي ليفني، وكبيرة المفاوضين، إذ قالت: “هذه خطوة مهمة بالتأكيد وأرحّب بها”، وأردفت: “الأمر الذي سيسمح للفلسطينيين، كما آمل، بدخول الغرفة وتقديم التنازلات اللازمة”. أمّا جون كيري وزير خارجية أوباما وعرّاب المبادرة الجديدة، فقد قال معقباً: “سُررت على الدور البالغ الأهمية للجامعة العربية في تحقيق السلام في الشرق الأوسط، لا سيما عبر التشديد مجدداً على مبادرة السلام العربية التي أطلقتها الرياض خلال قمة بيروت العربية في العام 2002”. (عفواً، أهكذا تصبح الجامعة العربية في عهدي عمرو موسى ونبيل العربي؟)

وبعد، فأين تقع تسويغات من سوّغوا لهذه الخطوة بأنّها مجرد تبادلات طفيفة في الأراضي لا تستحق أيّ اهتمام ولا حتى التعليق القلق منها وعليها.

لو حاولنا وضع هذه الخطوة ضمن سياق سياسي في حراك الوضع العربي والفلسطيني العام لوجدناها ضمن سياق التحركات الأخيرة لإدارة أوباما عبر الزيارات الأخيرة المتكرّرة لوزير الخارجية جون كيري على الأرض الفلسطينية وبلقاءاته مع قادة العدو وقادة سلطة رام الله، كما لقاءاته الأخيرة مع عدد من وزراء الخارجية العرب.

أغلب التحليلات قالت إنّ إدارة أوباما جادّة الآن في تحريك عمليات التفاوض. وهنا تعدّدت الأسباب التي اعتُبرت وراء هذه الجديّة المستجدة والتي تكاد تكون المفاجئة. وقد دار أغلبها حول ربطها بالقضايا المتعلقة بسوريا وإيران وتركيا، أو ما يسمّى بإعادة ترتيب أوراق أميركا في المنطقة. وذلك باعتبار الوضع الفلسطيني يلعب دوراً هاماً ومن ثم تأتي عملية إطلاق مفاوضات لتسهّل عملية ترتيب تلك الأوراق.

المشكل في كل التحليلات يكمن في اعتبار أميركا قد بلورت إستراتيجيتها العالمية والإقليمية ودخلت دبلوماسيتها في إجراءات أو خطوات تحقيق تلك الإستراتيجية المتماسكة والمخطط لها جيداً.

كانت أميركا في السابق، لا سيما في مرحلة الحرب الباردة، كما في عهد إدارة بوش الأب تمتلك مثل تلك الإستراتيجية، ولكنها في عهدي إدارة بيل كلينتون بدأت تفقد ذلك التماسك، ثم استعادته، ولو بخلل في تحديد الأولويات الإستراتيجية الأميركية، في عهدي جورج دبليو بوش، وقد منيت بفشل ذريع حيث لم تنجح في إقامة الشرق الأوسط الجديد واندلعت في وجهها أزمة مالية عالمية وداخلية هزّت أركان اقتصادها وخسرت حروبها في العراق ولبنان وقطاع غزة وأفغانستان.

لم تمتلك أميركا في العهد الأول لإدارة أوباما الذي ورث إخفاقات إستراتيجية المحافظين الجدد، إستراتيجية متماسكة ومن ثم اتّسمت دبلوماسيتها بالارتباك والتردّد والعجز، وكان تفاقم الوضع الاقتصادي والمالي الداخلي يزيد الطين بِلّة. وهذا ما تسْهُل ملاحظته في السياسات الأميركية من مختلف القضايا تقريباً إن لم يكن كلها.

عندما جاءت إدارة أوباما الثانية بوزيري الخارجية والدفاع المختلفين عن سابقيهما كان المتوقع صوْغ إستراتيجية عالمية جديدة ومن بعدها إستراتيجيات إقليمية متماسكة بها، ومعها، وفي خدمتها. ولكن حتى الآن لم تظهر تلك الإستراتيجية بشكلها المتماسك والمصمم والواضح، ولهذا غلب على مواقفها وسياساتها الجزئية درجة من استمرار الارتباك والتردّد وأحياناً المفاجأة. ومن ثم يخطئ من يتعامل مع السياسات الأميركية في عهد جون كيري باعتبارها متماسكة ونابعة من إستراتيجية عالمية وإقليمية أصبحت محدّدة الأولويات.

من هنا، فالحراك الأميركي المفاجئ بإعادة التحرّك باتجاه إطلاق مفاوضات لا ينطلق من إستراتيجية عالمية وإقليمية متماسكة، وإنّما ينطلق من الخوف إلى حدّ الرعب من اندلاع انتفاضة في الضفة الغربية، لأن أميركا والكيان الصهيوني لا يحتملان مواجهتها لبضعة أشهر كما لم تستطيعا احتمال مواجهة حرب الثمانية أيام في قطاع غزة، بل ستخرّب الانتفاضة على أميركا ما تعدّه لصوْغ إستراتيجية جديدة وستفرض على الكيان الصهيوني خوض معركة سيخسر فيها حتماً.

وبكلمة، ما يحكم الحراك الأميركي فلسطينياً وعربياً الآن هو إجهاض إرهاصات الانتفاضة التي أخذت تنضج شروطها وفي ظروف موازين قوى ومناخات سياسية هي في مصلحتها وفي غير مصلحة أميركا والكيان الصهيوني. ومن ثم يمكن وضع خطوة لجنة المبادرة العربية المطلوبة أميركياً ضمن هذا الإطار.

السبيل، عمّان، 5/5/2013

مقالات ذات صلة