المقالات

المثقّف الشرس || في تفسير الوقاحة

«المثقّف الشرس»: في تفسير الوقاحة

عامر محسن

07 سبتمبر, 2016

في مقابلةٍ تحدّث فيها عن كتابه الأخير، “نهاية المثقّف الفرنسي”، يقول المؤرّخ شلومو ساند إنّ المثقّف الفرنسي “الجديد” ــــ ميشال ويلبيك أو برنار هنري ــــ ليفي مثالاً ــــ يمثّل قطعاً مع تراثٍ طويل للمثقفين الفرنسيين، يمتدّ من عصر التنوير وروسو وديدرو وصولاً الى بورديو وفوكو، وهو امتاز (بغض النّظر عن المنطلقات السياسية) بانحيازه الدائم، وبشكلٍ أوتوماتيكيّ، الى جانب الضعيف والفقير والمهمّش. هذا العنصر “النبيل” في الثقافة الفرنسية، يقول ساند، قد “تبخّر” مع الجيل الذي يهيمن اليوم على النقاش العام، والذي يتماهى أبرز رواده مع الدولة والسّلطة، ويكتبون قصائد في مديح الشرطة والعسكر، ويحرّضون على المهاجرين والمسلمين وأضعف من في المجتمع. حين يقوم فنّانٌ أو مثقّفٌ باريسي بالمزايدة على الشرطة، ويطالبها بالمزيد من القمع، ويتّهمها بأنّها ليست “فظّة” كفاية مع المهاجرين، يقول ساند، فهذا “شيءٌ جديد” بالنسبة الى فرنسا.

المفارقة هنا، يلاحظ المؤرّخ، هي أنّ صعود المثقّف النيوليبرالي، المحافظ، العدواني، والذي لا يتحرّج من احتقار من هم أضعف منه، قد ترافق مع انحدارٍ مضطرد للانتاج الفكري في فرنسا ولموقعه على الخريطة العالمية. لا أحد في أميركا يدرّس هنري ــــ ليفي أو فينكلكراوت في الجامعات، بل إنّ فرنسا نفسها، وثقافتها، صارت تأخذ طابعاً معولماً، بالمعنى التابع، والتلفزيون تملؤه مسلسلات بوليسية رديئة، هي نسخات سيئة عن البرامج الأميركية (لأسباب استعمارية وغيرها، حين تكبر وتدرس في لبنان، فأنت تُلقّن أن فرنسا هي نصف “العالم الخارجي”، وعليك أن تخرج لكي تفهم كم أن فرنسا اليوم، بمعاني الاقتصاد والتكنولوجيا والأكاديميا وغيرها، هامشية ومعزولة، وأنها معروفةٌ أساساً بفضل الجبنة والنبيذ والسياحة).

ولكنّ المثقّف الباريسي، أقلّه في بلده، كان لديه دوماً موقعٌ مميّز. كان أحد أساتذتي، وهو فيلسوفٌ بريطاني، يدّعي أنّ هناك “تراتبية” لمكان المثقّف بحسب البلد، يمكن تبسيطها على النحو التالي: في فرنسا، المثقّف “مدلّل”. هو في قلب النقاش العام ويكتب في الصحف المقروءة، يعلّق على التلفزيون واسمه معروفٌ، وهو كثيراً ما يعيش تحت الأضواء ضمن مجتمع المشاهير. في اميركا، الحال بين بين. المثقّف هناك عملياً “أكاديمي” فحسب، يُنظر اليه كأي مجموعة مهنية أخرى؛ لديه موقعٌ مضمون في الطبقة الوسطى (ولكن ليس كالمحامين والأطباء)، والدولة تستخدمه بكثافة بصفته “خبيراً”، وفي وسعه أن يصل الى مواقع التأثير عبر قنواتها، ولكنه لا يملك كياناً مستقلاً، وعدد الأكاديميين الذين يتحوّلون الى “مثقفين عامين” ويكتبون لجمهورٍ واسع قليلٌ جداً. أمّا في بريطانيا، فالحال هي الاسوأ، فالفيلسوف ــــ مثلاً ــــ لا هو يحظى برفاهيةً وموقعٍ طبقي، ولا هو يملك احتراماً وتأثيراً في المجتمع. بمعانٍ متفاوتة، كلّ مثقّف “وظيفي”، وليس هدف النقاش هنا اثبات ذلك، ولكنّ وظيفة المثقّف، وطبعه وانحيازاته، تختلف باختلاف السياق والزمن و، قبل كلّ شيء، مجتمع المثقفين نفسه واقتصاده، والتكوين الطبقي للمثقف، وطموحاته وهوية من يرعاه ويدفع راتبه.

في مفهوم الـ “كارما” لدى الديانة التاوية، فإنّ التعاطف والفضيلة يبدآن بأن تتماهى مع الآخر، وأن تحاول أن تضع نفسك مكانه وأن تشعر كما يشعر وأن تحسّ بهمومه ومشاكله من وجهة نظره هو؛ ومن هنا ينطلق التواصل مع العالم. المثقّف اليميني الجديد، كما يوصّفه شلومو ساند، هو النموذج المعاكس، بشكلٍ كلي، لهذه الفكرة، فهو يخدم أقلية (بيروقراطية ومالية ودولية) ويتماهى معها ويطلب حظوتها فحسب، وهو ــــ بالتالي ــــ “مستقلّ” بالكامل عن مجتمعه: لا يقوده ولا يندمج فيه ولا يحتاج، حتى، الى شعبية ومحبة في وسطه. هذا المثقف من الطبيعي أن يكون عدوانياً وشرساً، خاصة تجاه الفقراء ومن لا سلطة لديهم، وأن يجد حليفاً في الشرطة وأجهزة الدولة (و، على المستوى الدولي، الـ”ناتو” والقوة الأميركية). السياق النيوليبرالي يحفّز على النرجسية والفردانية، حيث يصبح المثقّفون ــــ كأي فئة أخرى في المجتمع الرأسمالي ــــ أفراداً يتسابقون ويتنافسون على النجاح والترقّي والشهرة.

من الممكن ملاحظة هذا التغيّر بوضوحٍ في بلادنا. يلاحظ رائد شرف، مثلاً، أنّ هناك فارقاً أساسياً في الطباع والعدوانية بين اليمين “القديم”، التقليدي، الذي نعرفه في لبنان، وبين “اليمين الجديد” الذي يصعد حولنا اليوم. المثقّف اليميني التقليدي، يقول شرف، كان يستلهم مواضيع “راقية”، كالهوية الفينيقية والفرعونية، أو عرقنا المتفوّق، ويعتمد مظهراً أوروبياً “حضارياً”، وموقعاً فوقياً تنويرياً من شعبه ومجتمعه. أمّا اليوم، فقد صار معتاداً أن تجد “المثقّف الكبير” يشتم بسوقيّة على “فايسبوك”، والإعلاميين ينضوون في قطيعٍ محارب، وخطاباً لا يعرف أن يكلّم غيره الّا عبر الشتيمة والاستهزاء، وهو يقول مسبقاً انّه لا يريد أن يجادل ويناقش، بل أن يمارس العدوانية فحسب (خذ مثالاً لازمة “الممانعة” كنعتٍ استهزائي راج لدى اليمين اللبناني، وانتشر ــــ للأسف ــــ خارج لبنان، يستخدمه أي كان للإشارة الى طيفٍ واسع ومتناقض من المختلفين معه حول العالم، أكثرهم لا يسمون أنفسهم كذلك ولا يقبلون بالتسمية وبعضهم لا يعرف معناها؛ ولكنّ الوقاحة تبدأ بأن تعطي نفسك الحقّ بتسمية غيرك، ومن يبدأ خطابه بشتيمة لا يريد رداً ونقاشاً). ليس صحيحاً أن المسألة تعود الى طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي وتحفيزها للتكتّلات والعدوانيّة، فأنت دوماً تملك خياراً ــــ حتى على “فايسبوك” ــــ في اللغة التي تستخدمها وفي تعابيرك وسلوكك أو، حتى، في الصّمت والكلام (وأنا أعلم).

بحسب رائد شرف، فإن هذا اليمين الجديد، الذي يهيمن بشكلٍ شبه كامل على “الثقافة العليا” في بلادنا (ومعها الإعلام) لا يمكنه الّا أن يكون عدوانياً وشرساً، فهوّ مكوّنٌ من أفرادٍ طموحين من الطبقة الوسطى (ليسوا كأسلافهم النخبويين) وهم، كما يقول بورديو، يظهرون ولاءهم للطبقات الأعلى منهم عبر ممارسة العدوانية على الطبقات التي دونهم ــــ تماماً كما أنّ “مثقّف النظام”، أي نظام، لا يكتسب أهمية الّا من خلال الهجوم على أعداء نظامه وحزبه وتحقيرهم، وإثبات أنه مستعدٌّ لإهراق ذاته وكرامته استشراساً في خدمة من يرعاه. هذا اليمين الجديد ــــ حتى لو هيمن واستراح ــــ سيكون مضطرّاً، على الدّوام، لاختراع أعداء جدد وممارسة شراسته عليهم. هذا ما نلاحظه في هجومهم الدائم على “اليسار”، بما لا يتناسب مع حجمه وبما يشبه الهوس، مع أنّ لا أحد ينبري للدفاع عنه، أو يدّعي أن له فعالية أو تأثيراً على مجرى الأمور (هذا يعود، ايضاً، الى أنهم غير قادرين على مخاطبة جمهورهم الواسع الحقيقي، المتديّن، ولا جمهور “خصمهم”، بل هم يتجاهلون الأول ويحتقرون الثاني ويركّزون على “اليسار”).

خلال النقاشات الأخيرة حول المرأة المسلمة والمهاجرين، تبدّى واضحاً أنّ عدداً من مثقفي اليمين الجديد (وأكثرهم شباب) قد أخذوا “خطوةً الى الوراء” عن الطّور الثوري “الشعبي” الذي لازمهم: بعد سنواتٍ من الدّعم غير المتحفّظ (في سوريا والعراق وغيرها) لميليشيات تشبه مخيال أحقر استشراقيّ عن المسلمين والعرب، قرّروا العودة الى لازمة أن “مجتمعنا مريض”، وأنّه الناقد الخارجي “التنويري” الذي لا يتماهى مع شعبه. كتب محمود المعتصم عن شعارات كـ”الديمقراطية” و”الحرية” و”حقوق المرأة” حين تتحوّل، في يد نخبٍ يمينية معزولة، الى عكس معناها التاريخي. في العادة، تكون الديمقراطية “وسيلة”، يشغّلها المثقف حين يجد نفسه وسط جماهير تمثّل الأغلبية، ولكن النظام يمنعها عن الوصول الى السلطة، فتكون الديمقراطية أداةً لانتزاع الحكم لصالح هذه الكتلة التاريخية. أمّا ديمقراطية النخب في بلادنا، يكتب المعتصم، فهي “ظاهرة كلامية”، تقدّم كـ”هدفٍ سامٍ” وليس كحاجة عمليّة آنية، ولهذا هي لا تخيف أحداً، ومن اليسير حتى على بلدٍ كقطر أن يدعمها من دون تحفّظ أو قلق. نجد هذا بوضوح في الخطاب المكرور حول “الثقافة الديمقراطية” وحاجة بلادنا اليها: هنا، يستخدم المثقّف الديمقراطية لتمييز نفسه عن شعبه، لا لتمثيله وإعطائه السلطة، فهو “الديمقراطي” وأغلبية الشعب ليست كذلك، وهي تحتاج الى “تربية” وتدريب (أو تدخّل خارجي) حتى ترتقي اليها. من هنا تبدأ العدوانية والوقاحة، ولا اسوأ من فوقية النخبوي الارستقراطي الا فوقية النخبوي ابن الطبقة الوسطى، الطموح والطامع والخائف. هذا هو النموذج الذي تفرزه لنا المؤسسة اليوم، سواء في فرنسا أو هنا، وعلينا الإعتياد عليه، وفهم طبيعته، واحتمال وقاحته لسنين قادمة.

مقالات ذات صلة