المقالات

تفاقم جرائم الشرف في فلسطين.. إنحراف بوصلة النضال وجدلية العنف المحلي

صدر مؤخرا تقرير مخيف عن الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان يتحدث عن تفاقم جريمة الشرف في فلسطين المحتلة تحت السلطتين العتيدتين الفتحاوية في الضفة والحمساوية في غزة. والتقرير يؤكد أن 29 فتاة قتلن بين عامي 2007 و 2010 بينما قتل ثلاث عشرة فتاة في كل من عامي 2011 و 2012. وهذه نسبة مرتفعة جدا مقارنة بسنوات الانتفاضة الأولى والتي شهدت إنحسارا حادا لهذه الظاهرة القديمة المتوارثة من أيام الجاهلية والعصور السومرية والأشورية. وتقول دراسة أخرى صادرة عن مركز المرأة قسم الإعلام في غزة أن 67 ‘ من النساء الفلسطينيات يتعرضن لإهانة شفوية بشكل شبه يومي وأن 71 ‘ يتعرضن لعنف نفسي و52 ‘ يتعرضن لعنف جسدي و 14 ‘ يتعرضن لعنف جنسي.

لقد بدأت أتابع عن كثب ما يجري في الأراضي المحتلة في ميدان ما يسمى ‘جرائم الشرف’ منذ أن تم الكشف عن جريمة مقتل الشابة الجامعية آية برادعية ابنة العشرين ربيعا من بلدة صوريف بقضاء الخليل التي اختفت يوم 20 نيسان (أبريل) 2010 وتم الكشف عن ملابسات الجريمة بعد سنة تقريبا ليتبـين أن عمها، المعني بشرف العائلة بدون تفويض أو علم من والدها، قد كتف يديها ورجليها ورمى بها في بئر وهي تصرخ وتستنجد وتتوسل إليه وتقسم له بالله أنها بريئة وشريفة ولم ترتكب أي خطأ تستحق العقاب عليه. ومع هذا استمر واثنان من معاونيه الفحول في تنفيذ الجريمة الأشنع في تاريخ فلسطين المحتلة والتي هزت المجتمع الفلسطيني برمته لفظاعتها من جهة ولمدى الظلم الذي أودى بحياة فتاة برئية طاهرة شريفة من جهة أخرى، حيث سار في جنازتها أكثر من عشرين ألف مواطن واعتصم طلاب جامعة الخليل احتجاجا على مقتل زميلتهم المعروفة بسمو الخلق والاجتهاد والأدب الجم ومنحت لقب الشهيدة.

آية لم ترتكب أية جريمة سوى أنها وافقت على الزواج ممن تحب والذي قرع باب والدها بكل شرف وكرامة وطلب يدها ووافقت العائلة على هذا الزواج لكن أجلت المراسم لما بعد تخرجها من الجامعة. صورة آية لا تكاد تفارق مخيلتي رغم أنني لا أعرفها ولا أعرف أحدا من أهلها وأتخيلها وهي تصرخ من البئر لعل أحدا ينقذها فلا يسمعها أحد، وتمنيت لحظتها لو كنت مثل الرجل العنكبوت الذي ينقذ المظلومين من موت محقق في الثواني الأخيرة. لقد وعد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بعد اكتشاف جريمة آية أن يغير قانون العقوبات الأردني المعمول به في الضفة الغربية لعام 1960 وقانون العقوبات البريطاني لعام 1936 المعمول به في غزة حول العقوبة المخففة لقاتل في حالة هيجان ضبط بنتا أو أختا أو زوجة في حالة إقامة علاقة جنسية غير مشروعة فارتكب جريمته. تلك الوعود ذهبت أدراج الرياح ولم يغير عباس شيئا حسب ما ورد في خبر نقلته وكالة ‘معاً’ بتاريخ 25 كانون الأول (ديسمبر) 2011. كل ما قام به عباس تشكيل لجنة لدراسة القانون وتقديم توصيات لتغييره.

تفاقم هذه الجرائم واتساعها بعد قدوم سلطة أوسلو ظاهرة تستحق الدراسة لكشف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فمرحلة ما بعد أوسلو تجسد ردة في الأخلاق وردة في المفاهيم وردة في الوعي وردة في الثقافة السائدة حول مفهوم مشوه للشرف بعد أن تمكنت أجهزة أمن دايتون من حرف بوصلة النضال من مقارعة العدو إلى تعقب المناضلين ومن استبدال ثقافة المقاومة بعبثية المفاوضات بحثا عن دولة الوهم ومن ارتباط الشرف بالتضحية بالروح من أجل الوطن إلى الانكفاء إلى التضحية بجسد المرأة دفاعا عن مفهوم مزيف للشرف توارثته الأجيال من عصور أبي جهل وعمرو بن كلثوم والشنفرى وشتان بين المفهومين.

المرأة دائما هي الضحية

خلال متابعة موضوع جرائم الشرف في فلسطين تتعرف على قصص تهز الروح والبدن، الأكثرية من ضحاياها من السيدات المحترمات. كما أن معظم هذه الجرائم البشعة ترتكب ضد فتيات بريئات لم يرتكبن أية معصية أو جريمة ولم يدخلن في علاقة جسدية خارج إطار الزواج وكان آخرهن السيدة نانسي زبون من بيت لحم (27 سنة) وهي أم لثلاثة أطفال قتلها زوجها في الأول من آب (أغسطس) 2012 وفي شهر رمضان أمام الملأ في السوق لأنها طلبت الطلاق في المحكمة بسبب العنف المفرط الذي تلقته من زوجها خلال سنوات الزواج. والفتاة رفيدة أعتدى عليها أخواها فبدل من معاقبة الجانيين تم قتل الضحية، وفادية سيدة مطلقة وأم لخمسة أطفال قتلها والدها ضربا لأن لديها هاتفا محمولا شك أنها تستخدمه للاتصال بالرجال. وسماح ابنة الخمسة عشر ربيعا من غزة برأها الطبيب الشرعي من أي مساس لعفتها ولكن بعد قتلها مما أدخل حسرة في قلب والدها ولم يحتمل الإحساس بالذنب فمات بعد شهرين من وفاتها كمدا. وقصة الفتاة الغزاوية التي دفنها إخوتها حية، وصبية أخرى لم تتجاوز الخامسة عشرة قتلها أخوها وعمره 17 سنة، وتلك الفتاة المقدسية التي قتلها إخوتها الثلاثة لأنها رفضت الزوج الذي اختاروه لها. والحكايات تطول ولا يلبث المرأ إلا أن يعجب لما أصاب هذا الشعب المناضل من تشويه في المفاهيم التي كانت تتمحور حول النضال ضد الاحتلال لتستبدل الآن بمفاهيم متخلفة تدور حول ملكية جسد المرأة واعتباره ميدانا لامتحان الرجولة. والغريب أن الرجال يمارسون كل أنواع الحرام فلا عيب ولا محاسبة ولا شرف يمس ولا عشيرة تخجل من مغامرات أحد أولادها.

الأسباب الكامنة وراء تفاقم المشكلة

من الملاحظ أن جرائم الشرف تفاقمت في العقد الأخير بشكل غير مسبوق في العديد من الدول العربية والإسلامية. ففي تركيا قتل نحو 1000 فتاة بين 2003 و 2008 وفي لبنان يصل عدد الضحايا إلى نحو 30 سنويا وفي الأردن نحو 23 وفي مصر نحو 52 . وقد قتل في عام 2006 في مدينة البصرة وحدها 133 سيدة 79 منهن بسبب مخالفات للتعاليم الإسلامية مثل اللباس الشرعي و47 لأسباب تتعلق بمفهموم الشرف.

أما باكستان وبنغلادش فالمشكلة أكبر بكثير وتقدر اليونسيف أن نحو 5,000 إمراة تقتل سنويا في باكستان لأسباب تتعلق بالشرف. أما جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة في باكستان فتؤكد أن المعدل السنوي يصل إلى نحو عشرة آلاف إمراة لأن الكثير من تلك الجرائم تسجل تحت بند الانتحار أو الحوادث. ولا يوجد أية إحصائيات في بلد مثل السعودية لكن الظاهرة منتشرة بشكل واسع فقد قتل والد ابنـته عام 2008 لأنها كانت تتحدث مع رجل على الفيسبوك. كما أن جرائم الشرف انتشرت كثيرا في السنوات الأخيرة بين الجاليات المسلمة في ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة. وقد تبين أن 90′ من الجرائم التي ارتكبت ضد نساء مسلمات في الولايات المتحدة بين عامي 1998 و 2008 كانت تتعلق بالشرف.

ونستطيع أن نسلط الأضواء على خمسة أبعاد للمشكلة تكاملت في العقدين الأخيرين لتنـتج مثل هذه الظواهر المرضية التي ابتليت بها النساء العربيات والمسلمات:

البعد الديني- لقد انتشر الفكر الديني المتطرف والذي يركز على قشور الدين كالاختلاط والحجاب وأنواع الزواج وتعداد عورات النساء لكنه يبتعد عن جوهر الدين القائم على العدالة والتضامن والتكافل ودرء الخطر عن الأرض من العدو ‘الذي أخرج الناس من ديارهم’. الدين بطبعته الدعووية الوهابية يركز على الجلد والرجم وجز الرؤوس بدل ‘قول كلمة حق عند سلطان جائر’ وتشجيع الخروج على إمام فاسد. المرأة لها النصيب الأكبر من أحاديث شيوخ الفضائيات الذين يريدون للمرأة أن تنكفئ في بيتها للطبخ والنفخ والتفريخ فقط.

– البعد الاقتصادي: يقول تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة لعام 2011 إن اللوم على تفاقــــم العنف الأسري يعود إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي أوجدها الاحتلال وحصاره المستمر للمدن والقرى الفلسطينية في الضفة والقطاع.

إن هذه الأوضاع أدت إلى زيادة نســـبة الفقــــراء وارتفاع البطالة وعجز الرجل عن الأيفاء بالتزاماته الأسرية مما أدى إلى تفاقم العنف البيتي وزيادة خروج المرأة بحثا عن عمل.

– البعد الثقافي: بعد أن سادت ثقافة النضال والمساواة والتضحية أيام المواجهة الجماهيرية الشاملة مع الاحتلال عادت الأمور بعد ثيام سلطة أوسلو إلى استحضار الموروث الثقافي والحضاري الذي يجسد ذكورية المجتمع المكون من عشائر وقبائل حيث تصبح المرأة ملك خاص للعشيرة وأي خروج عن موروثات العشيرة وتقاليدها يلحق الأذى بشرف القبيلة كلها. هذه المفاهيم التي كادت ن تختفي أثناء سنوات المواجهة الحقيقية والمد القومي وصعود ثقافة المقاومة انهارت كلها وتم استبدالها بثقافة الاستهلاك والفردية والاعتداد بالعشيرة والذكورية.

– البعد السياسي: يعاني الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة من غياب الأمل بنهاية الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة التي وُعد بها منذ قامت القيادة الفلسطينية بتوقيع اتفاقية أوسلو. المستقبل غامض والشعب الفلسطيني يشاهد أرضه تسلب منه جهارا نهارا، والمستوطنات زادت عددا وسكانا، والقدس تهود أمام عجز فلسطيني وعربي وإسلامي، والجدار العازل يلتف حول أعناق القرى والبلدات والمدن الفلسطينية.

وما زالت القيادة تمارس تعميم الوهم بتضخيم انتصارات صغيرة واتخاذ خطوات رمزية لا تقرب الفلسطينيين من أهدافهم، والانقسام بين السلطيتين ما زال قائما رغم كل الخطابات والمؤتمرات. هذا الوضع ولد شعورا بالعجز والإحباط والقهر المكبوت والمنحبس داخليا مما فاقم مشكلة العنف الداخلي بين العائلات من جهة وبين أفراد العائلة الواحدة. ونتيجة لارتفاع أسعار الأراضي التي تقل يوما بعد يوم وانتشار الفقر أصبحت النساء أكثر جرأة في المطالبة بحصصهن من الإرث وخاصة في الأرض مما سبب المزيد من النفور والصراع والخلافات الحادة التي ذهب ضحيتها العديد من النساء.

– البعد التكنولوجي: من غير المنطق أن نتوقع أن وسائل التكنولوجيا الحديثة والميسرة لن تترك أثرها على الأوضاع الاجتماعية. فمع كل اختراع حديث تأتي مجموعة من المفاهيم التي تستبدل منظومة قديمة بأخرى جديدة. لقد ترك المذياع أثرا كبيرا في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي ثم جاء التلفزيون فالكوابل فالفضائيات وصولا إلى الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي والهاتف الخلوي.

وكما سهلت السيارة حركة السفر سهل الهاتف الخلوي الاتصالات بين الناس. فالاتصال بين الأهل والأصدقاء والأزواج والأحباب أصبح أمرا ميسرا وما كان غير مقبول قبل عشرين سنة أصبح أمرا عاديا هذه الأيام.

أما أن نستقبل المخترعات التكنولوجية ونتسابق لاقتنائها ثم نصر على ‘تجميد الوعي’ لفترة ما قبل تلك الأجهزة فهذا أمر غير مقبول وغير ممكن أيضا. ومن المسلم به أن الأجيال الصغيرة أكثر قدرة على استخدام الوسائل التكنولوجية ولا يستطيع الآباء السيطرة على كيفية استخدامه من قبل الأبناء مما يوتر العلاقات بين الجيلين وخاصة مع البنات. من غير المنطق أن نتوقع أن البنت لن تتصل بشاب أو زميل أو صديق أو مدير أو جار. فهل هذا يعني قتلها؟ ولو قام كل والد بقتل ابنته لأنها استخدمت الهاتف الخلوي للاتصال برجل إذن لحدثت مجزرة أشبه بمجزرة رواندا وفرغت البلاد من العنصر النسائي.

لا يوجد حل سحري لهذه المشكلة المعقدة ولكن العنف الأسري بالتأكيد ليس جزءا من الحل. الحل يبدأ بتغيير القوانين وتعميم العلم والثقافة وتمكين المرأة من أخذ دورها الحقيقي سياسيا واقتصاديا في نهضة المجتمع. والأهم من هذا الاستخدام الواعي لوسائل الإعلام لتكون المنبر السليم لتوعية الآباء والأمهات والأجيال الجديدة على المساواة والاحترام والأخلاق الحميدة دون تزمت ودون تهور. كم نتمنى أن نثبت خطأ أبي الطيب المتنبي ونقول له ‘ نعم، يسلم الشرف الرفيع من الأذى دون أن يراق على جوانبه الدم’.

القدس العربي، لندن، 25/1/2013

عبد الحميد صيام

مقالات ذات صلة