المقالات

الهبّة الشعبية أعادَت ترتيب الاوراق الفلسطينية

الهبّة الشعبية أعادَت ترتيب الاوراق الفلسطينية

رفعت شناعة

31-10-2015

جاء هذا التحوُّل في المجتمع الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال البغيض إستجابةً طبيعية للتحديات التي فرضتها حكومة نتنياهو جرّاء السياسة العنصرية، والعدوانية، والاستيطانية، واستباحة دماء ومقدّسات الشعب الفلسطيني، وزهق الارواح بهدف إما حملِ الفلسطينيين على الرضوخ والاستسلام والقبول بالفُتات، وإما دفع الفلسطينيين إلى أقصى درجات العنف العسكري، خاصةً أن السلاح متوافر، ويمكن توفيره بطرق متعددة، وهذه العسكرة إذا ما حصلَت فإنّها تُرضي طموحاتِ الكيان الاسرائيلي، وتُسهِّل له عملية رسم مستقبل الضفة الغربية على الطريقة نفسها التي جرت العام 2002 حين قام جيش الاحتلال بقصف كافة مؤسّسات السلطة، ومراكز الأجهزة الامنية، وتجريف كل ما بنَتهُ السلطة، ولكن ما هو مرسوم هذه المرة بعد التدمير فيما لو حصلت العسكرة، إعادة انتشار جيش الاحتلال في الضفة، وتثبيت خريطة (الدولة ذات الحدود المؤقتة)، على أنقاض الدولة الفلسطينية المستقلة المتفَق عليها دولياً على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس، وهذا يعني تدمير أحلام وطموحات الشعب الفلسطيني بنيل حقوقه الوطنية، وامتلاك حقه في تقرير مصيره ومستقبله. والعدو الإسرائيلي يعتبر سياسياً أن تثبيت قيام دويلة فلسطينية على أراضي قطاع غزة (360كلم2) هو الجزء الأهم من الحل لأنه سيخاطب العالم بالقول أنه قد منحَ الفلسطينيين دولة مستقلة لا يوجد فيها احتلال، وعلى الفلسطينيين أن يبنوا آمالهم وطموحاتهم وحق تقرير المصير في قطاع غزة وليس على أراضي الضفة الغربية التي يجب أن تكون مستقبلاً جزءاً من أراضي (دولة إسرائيل اليهودية). وهنا مكمن الخطورة الاستراتيجية، والأخطر إذا كنا نحن الادوات التي قد يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي لتثبيت كيانه في المنطقة.

من هنا كانت ولادة الهبّة الشعبية الوطنية في الوقت المناسب لتشكّل حالة اعتراضية على المشروع الاسرائيلي الذي تحدّثنا عنه، وحالة صدامية أيضاً ضد وجود الاحتلال واجراءاته القمعية، وأدواته الاجرامية.

هذه الولادة لم تكن مفاجأة، لأننا في الأوقات السابقة رأينا نماذج شبيهة بما يحصل اليوم، ولكن ما لفت الانتباه، ونال الاعجاب، وحرَّك المشاعر الوطنية والانسانية، وحقق انتصار شعوبِ العالم لنا ولحقوقنا المشروعة هو شمولية هذه الهبة الشعبية، وانتشارها في أراضي فلسطين التاريخية، وتفاعل المجتمع الفلسطيني معها بحيوية منقطعة النظير.

والعامل الثاني الذي أعطى القوة لهذه الهبة الشعبية الشبابية هو الالتزام بمبدأ المقاومة الشعبية الذي كرّسه الرئيس أبو مازن في خطابه السياسي، وتبنّتهُ قيادة “م.ت.ف” وكل من يشارك في هذه الهبة الشعبية من الفصائل يلتزم بعدم عسكرة هذا العمل المقاوم، أي عدم جر هذه المقاومة الشعبية إلى المربّع العسكري الذي يريده نتنياهو وهو الذي يرأس أسوأ حكومة عنصرية متطرفة، ويسعى إلى حرب إبادة بشرية، والعمل على تصفية القضية الفلسطينية.

أمّا العامل الثالث من عوامل قوة هذه الهبة الشعبية الشبابية فهو الزخم الذي بدأت به ومازالت، فالشباب الفلسطيني الذي نراهُ في الساحات يتحلّى بالجرأة والاندفاع، ويتسلّح بالارادة والايمان، وبالحجر والسكين، والعصا والمقلاع، يمارس مواجهة جنود الاحتلال والمستوطنين، ويقضُّ مضاجعهم، لا يتمترس خلف متراس، ولا يرتدي الخوذة ولا السترة المعدنية الواقية، وانما بالصدور العارية، هذا الواقع الميداني يؤكّد قدرة هذه الهبة الشعبية على الاستمرار، وأنها ليست طفرة أو (فشة خلق).

أمّا العامل الرابع الذي يبشِّر باستمرارية هذه المقاومة الشعبية فهو قدرة القيادة الميدانية على ضبط الايقاع، والتوجيه، والتحريك، فما نراهُ ليس عملاً عفوياً أو ارتجالياً، وانما هو عمل مدروسُ الخطواتِ لأنه مرتبط ببرنامج متفَق عليه، ولأن هذا الأداء اليومي يخضع باستمرار لعملية تقييم وتقويم. ومع تعاظم هذا الحدث الميداني وتماسكه تبرز أهمية العمل الوطني الوحدوي الذي يتم صقله وبلورته يومياً من خلال سخونة المواجهات.

العامل الخامس الذي يضمن استمرارية هذه المقاومة الشعبية وتعاظمها أن وقودها، وعنصرها الأساسي هم شريحة الشباب الفلسطيني الذين عاشوا مرحلة ما بعد اتفاق أوسلو، وعانوا من العدوان الاسرائيلي المتواصل سواء في الضفة الغربية، أو في قطاع غزة، أو في القدس تحديداً من تطاول على المقدسات، والكرامات، والحريات، وارتكاب الجرائم، وحرق الأحياء. فبهمة الشباب الوطني الذي تشُده فلسطين بكل مكوناتها، والتي هي بوصلته الدائمة نستطيع الاطمئنان إلى أنّ هذه الهبة الشعبية الواسعة بمقاومتها الشعبية المدروسة تستطيع التحوُّل إلى انتفاضة تاريخية تضع النقاط على الحروف.

العامل السادس الذي يلعب دوراً جوهرياً في استمرارية هذه المقاومة الشعبية، وتصعيدها ميدانياً وسياسياً هو الالتزام بالبرنامج السياسي الوطني، وأن ترتبط أهداف هذه المقاومة الشعبية بالانجازات السياسية التي تمَّت خلال السنوات السابقة، والاهداف السياسية المطلوب تحقيقها واستكمالها من أجل إزالة الاحتلال، وانجاز الاستقلال.

العامل السابع وهو الذي يتعلّق بتحصين وتصليب هذه المقاومة الشعبية، وأعني الحاضنة الوطنية الفلسطينية المنسجمة والمتصالحة، والمؤمنة بالشراكة السياسية، والالتزام بالاهداف والاستراتيجيات الموضوعة، فالانسجام والتوافق والتعاون في إطار هذه الحاضنة هو الذي يمنح الحياة والقدرة على الاستمرارية لهذه المقاومة الشعبية المتعاظمة. وأهم ما في الأمر أن لا يستعجل البعض قطفَ الثمار قبل النضوج، أو حرفَ البوصلة باتجاهات لا تخدم تطلعات وواقع شعبنا الفلسطيني.

من هذا المنطلق لا يجوز أن نستعجل نهاية هذه الهبة الشعبية التي من المتوقع أن تأخذَ بعدها الحقيقي كانتفاضة بفعل النضال الوطني المتواصل. فالواقع يقول أنّ ما يجري ليس نزهة، وليس ضرب حجارة، أو إشعال إطارات. إنَّ ما يجري يهدد وجود الاحتلال، ويثير الرعب والخوف بين جنوده ومستوطنيه، ويضع الكيان الاسرائيلي في زاوية من الإحراج، وفي عزلة دولية، وأمام أسئلة قانونية، وأمنية، وانسانية، وسياسية، وهذا ما يجعله يأخذ قرارات عنصرية قمعية أبرزها السماح بالإعدامات بدم بارد لمجرد الشبهة، والحكم على الأطفال الذين يُلقون الحجارة بالسَّجن، وهدم بيوت أهالي الشهداء، وسحب البطاقات من المقدسيين، وتعمُّد إعدام الفتيات في الشوارع تحت تهم زائفة.

لذلك ما يجري الآن جولة من جولات الصراع مع الاحتلال تجري في إطار آليات متفَق عليها، ومرتبطة بأهداف معينة سواء أكانت أهدافاً مرحلية أم أهدافاً إستراتيجية، ولأن العدو الإسرائيلي همجيٌّ حاقدٌ على شعبنا فإنه يستخدمُ العنف والقتل بشكل واسع وهذا ما يجب أخذه بعين الاعتبار، فلا نحمّل هذه المقاومة الشعبية اكثر مما تحتمل، وأن نبحث عن إبداعات، وابتكار أشكال جديدة من مقاومة الاحتلال يدفع فيها المحتل ثمناً أكثر مما ندفع نحن، فالعملية النضالية التراكمية مهمة في هذا المجال، والمطلوب ليس تقديم اكبر عدد من الشهداء، ولكن المطلوب تحقيق أكبر عدد من الانجازات والمكاسب الوطنية، والامر هنا يحتاج إلى مزيد من الحنكة والحكمة عند القيادات المعنية.

إنّ العامل الأهم لحماية هذه الهبة الشعبية الواسعة التي التزمت بالمقاومة الشعبية، والذاهبة مستقبلاً كي تكون إنتفاضة كما كانت الانتفاضة الأولى والثانية، ولكن بأُفق أوسع، وقضايا أشمل وأعمق، إن هذا العامل هو الأفق السياسي الواضح الذي وضعته قيادة “م.ت.ف” مسار تدويل القضية الفلسطينية بعيداً عن الولايات المتحدة وضغوطاتها.

إنّ هذا المسار حتى الآن قطع شوطاً مهمّاً أربك السياسيين الاسرائيليين والاميركيين الذين مارسوا ضغوطات هائلة على الرئيس أبو مازن كي لا يذهب باتجاه تدويل القضية، لكن الرئيس أبو مازن أحد أعمدة المدرسة الوطنية التي أسسها الرمز ياسر عرفات المؤمن بالقرار المستقل رفض التهديدات والضغوطات من كل الأطراف، وراح يبحث عن مصلحة شعبه.

فالعالم قد اعترف بفلسطين دولة “عضو مراقب” تحت الاحتلال وعاصمتها القدس الشرقية. هذا الانجاز الدولي يعني أن الاراضي المحتلة العام 1967 هي أرض فلسطينية، وأن الاستيطان فيها باطل وغير شرعي ويجب إزالته.

وهذا الاعتراف أيضاً يؤكّد بأن القدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين وليس إسرائيل.

ولا ننسى أن هذا الاعتراف الدولي أعطى الحق لدولة فلسطين أن تنضم إلى كافة المؤسسات والهيئات الدولية، وعلى هذا الأساس انضمت إلى محكمة الجنائيات الدولية، ووقّعت معاهدات جنيف الاربع، ومحكمة لاهاي الدولية، ومنظمة اليونسكو، وغيرها. وانتصرت فلسطين عندما صوّتت الجمعية العامة على رفع العلم الفلسطيني على مؤسسات الامم المتحدة، وهذا شكّل نكسة للسياسة الاسرائيلية.

كما أن الرئيس أبو مازن في خطابه أكد رفض أية حلول تقضي بإقامة دويلة في القطاع، أو دولة ذات حدود مؤقتة في الضفة.

كما أن إعلان الرئيس أبو مازن أمام العالم بأسره قائلاً: (أُعلن فلسطين دولة تحت الاحتلال)، وأن هذا الكلام ينتظر قرار المجلس الوطني لإلغاء اتفاق اوسلو رسمياً لأنه أصبح بحكم الملغى بسبب الموقف الاسرائيلي السلبي والمدمّر لأوسلو، وبالتالي كانت مهمة أوسلو كاتفاق تعاقدي نقل الشعب الفلسطيني من الاحتلال إلى الاستقلال، وهذا ما لم يتم، لكن ليس المهم أخذ القرار، بل المهم ما بعد أخذ قرار الإلغاء، وهذا يحتاج إلى موقف فلسطيني موحّد.

مهمة الانتفاضة القادمة كبيرة وتحتاج إلى جهود مكثّفة، وتضحيات كبيرة.

رفعت شناعة

مقالات ذات صلة