المقالات

ذكرى النكبة ..المتغيرات..أدبها.. والغيتو

ذكرى النكبة ..المتغيرات..أدبها.. والغيتو

د. فايز رشيد

بدأت احتفالات الكيان بمناسبة ذكرى إنشائه الـ 68. إقامة إسرائيل هي نكبتنا الفلسطينية العربية الإنسانية. بعد68عاما, ليس من الصعب على المراقب أن يلاحظ وبلا أدنى شك،أن جملة التطورات التي حدثت على الصعيدين الرسمي والاجتماعي, في المدى المقارب لما يقارب سبعة عقود زمنية منذ تشكيلها، تتلخص في الجنوح مزيداً نحو اليمين والعنصرية…ذلك أن الايديولوجيا الصهيونية ذات الجذور التوراتية ما زالت هي الأساس والمنبع للسياسات الإسرائيلية في المناحي المختلفة, أي أننا أمام صورة أبقت على المضامين كأهداف استراتيجية (ومنها تلك التي ما زالت تطرح في الإطار الشعاراتي السابق لها) على قاعدة تعزيز هذه الشعارات مثل: “يهودية الدولة” و “عقيدة الأمن الإسرائيلي”.أما بعض الأهداف الاستراتيجية الأخرى فقد بقيت تحمل نفس المضمون،ولكن مع اختلاف بسيط في نمطية الشعارات المطروحة لتحقيقها ,مقارنة مع مثيلاتها لدى ترسيم ولادة الدولة.هذه الشعارات اخذت تبدو وكأنها أكثر مرونة لكنها المرونة التكتيكية التي لا تتعارض مع الجوهر،بل هي تتواءم وتصل حدود التماهي معه،ولكن مع الحرص على إعطائها شكلاً انتقالياً جديداً للتحقيق…وذلك لاعتبارات سياسية وإقليمية ودولية تحتّم هذا الشكل الانتقالي،ولكن على قاعدة الاتكاء على ذات الايديولوجيا ..فمثلاً فإن الهدف في إنشاء “دولة إسرائيل الكبرى” والذي كان مطلباً ملحاً ما قبل وعند إنشاء الدولة …أصبح بفعل المستجدات السياسية الموضوعية ,مسألة صعبة التحقيق إن لم تكن مستحيلة في الظروف الراهنة…وبالتالي فإن السيطرة تحوّلت من الشكل المباشر عبر الاحتلال إلى شكل آخر غير مباشر،وهو السعي لتحقيق ذات السيطرة من خلال السيادة والهيمنة الاقتصادية والسياسية .لذا , فإن الخلفية التي أصبحت تتحكم في النظرة الإسرائيلية إن على صعيد رؤية الذات, كالدولة الأهم في المنطقة! أو على صعيد العلاقة مع الدول العربية والإقليمية , التي تقوم على نظرية السيادة والتسيّد المطلق.

أما لماذا التحوّل من شكل الهيمنة الجغرافية إلى الأخرى الاقتصادية – السياسية ,فإن ذلك يعود إلى :

أولاً:وجود عقبات فعلية في تطبيق المشروع الصهيوني لأسباب خاصة باليهود أنفسهم، فالخطة الصهيو-إسرائيلية بتهجير كافة يهود العالم إلى إسرائيل واجهت وما زالت تواجه مصاعب كبيرة, بالتالي فإن أي احتلال إسرائيلي لمناطق جغرافية جديدة يلزمه بُعد ديموغرافي عسكري , وهو ما يفتقده الكيان.ثانياً: العامل الفلسطيني ذاته،والذي عبّر عن نفسه أكثر بالمقاومة الفلسطينية بكافة أشكالها ,وبخاصة العسكرية منها،الذي فرمل الحلم الصهيوني من جهة،ومن جهة اخرى عمل على الحد من الهجرة اليهودية إلى الكيان،كما ساهم في رفع وتيرة الهجرة المعاكسة منه نتيجة لانعدام الأمن . ثالثاً:عوامل شعبية عربية بالضرورة. فاصطفاف الجماهير العربية مع القضية الفلسطينية واعتبارها قضيتها الرئيسية،وفشل التطبيع معها,كما الرفض الرسمي الصهيوني لما يسمى بـ “مبادرة السلام العربية” إضافة إلى العدوانية الصهيونية الدائمة على الفلسطينيين والعرب. كل ذلك وغيره يعلق الجرس في أذهان العرب على الخطر المستقبلي الصهيوني عليهم. رابعاً: عوامل دولية فإذا ما استثينا الاحتلال الأمريكي الذي قام في العراق( وما زالت آثاره باقية ) وأفغانستان فإن الاحتلال الوحيد الذي بقي في القرن الواحد والعشرين هو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وعلينا ان لا ننسى ما قاله رابين في حياته, للصحفي الإسرائيلي حاييم بار : “إن اضطراري لتوقيع اتفاقيات أوسلو في أحد جوانبه يتمثل : في شكي في القدرة القتالية الحالية لجيش الدفاع الإسرائيلي”. رابين أيضا وبعد احتلال الأراضي العربية في حرب عام 1967, قال في مذكراته ” لقد بكيت عندما رأيت الأراضي الواسعة التي قمنا باحتلالها… لكني تساءلت في ذات الوقت كم هو صعب علينا الاحتفاظ بها”.

د. فايز رشيد
د.فايز رشيد

في نفس السياق يأتي التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين وقضيتهم في مناطق 48, والضفة الغربية وقطاع غزة،بالولوج إلى شكل توافقي يحقق الهدف الاستراتيجي في(الدولة اليهودية) دون الاصطدام بالقنبلة الديموغرافية التي يشكلونها مستقبلاً…فمن مبدأ التنكر المطلق لحقوقهم الوطنية في منطقة 48 وسن القوانين العنصرية ضد أهلنا هناك, وضد أهلنا في الضفة الغربية ,باعتبار أراضيهم تشكل “يهودا والسامرة”،والتي هي جزء من “أرض إسرائيل التاريخية”،إلى إعطائهم ما تتصوره “حقوقا” يجمع ما بين السيطرة الفعلية الإسرائيلية كعامل متحكم في شؤونهم السيادية, باستثناء إشرافهم المباشر على القضايا الحياتية،ومن مبدأ الترانسفير والتخلص المباشر من معظمهم , إلى خلق وقائع اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية عسكرية تدفع بالكثيرين منهم إلى الهجرة الطوعية ,كما استنتج إيلان بابيه, ولذلك تفتق الذهن الإسرائيلي عن الحكم الذاتي،الذي يُقدّم إليهم في مشاريع(سلامية) وتحت مسميات مختلفة،وكلها تضمن لإسرائيل السيادة الفعلية على أكثر من ثلاثة أرباع الضفة الغربية .بعد 68 على إنشائها ,فإن اسرائيل طورت من مذابحها ومن سلاح قتلها للفلسطينيين والعرب, ازدادت نهما لسرقة الأراضي الفلسطينية في كل المواقع, إضافة إلى طرائق القتل :قتل الأحياء من الجرحى, التفنن في وسائل الحرق. إعطاء الشرعية لكل الجرائم والمذابح بحق شعبنا وامتنا, ازدياد في العدوانية على الدول العربية, رغم اتفاقياتها مع العديد منها.بعد 68 عاما على إنشائها اعتقدت إسرائيل: أنها امتلكت الوجود الشرعي في المنطقة باعتراف النظام الرسمي العربي بها!لكنها لا تدرك الرفض المطلق من قبل عموم الجماهير العربية لها, وبخاصة لتنكرها المطلق لتطبيق قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالحقوق الوطنية الفلسطينية, وتنكرها لـ “مبادرة السلام العربية”,وإصرارها على ضم المزيد من الأراضي العربية ,والاعتداء على دولها أيضا. إسرائيل طوّرت من وسائل قتلها وقمعها .كما أن الحاخامات فيها بفتاويهم ,يضفون الشرعية على إرهاب دولتها وعلى ارتباطه بـ “المقدّس” ,أي أنه أوامر إلهية. اسرائيل أيضا تطورت إن في اعتمادها على الظاهرة الاستعمارية القديمة والحديثة, أو في التماهي معها وصولا إلى تشكيلها رأس جسر لتنفيذ الخطط الإمبريالية في منطقتنا والعالم. اسرائيل قوننت العنصرية لتكون في إطارها القانوني. اسرائيل ازدادت قوة عسكرية, جناحان يحكمانها: العسكري والديني. الظاهرة الأبرز في تحولاتها الداخلية هي التطرف والجنوح يمينا.

بالنسبة لأدب النكبة , فإنه كثير جدا ,غير أن ما جمع منه في كتب متخصصة ,لا يتواءم مع حجم كل ما كُتب.. هذا إذا استثنيا الروايات العديدة ,المقالات ,الابحاث ,الروايات الشفوية ,التوثيقات والتأريخات للأحداث: مجازر ,هدم قرى ,اعتقالات ,هتدمير بيوت..الخ . وكأنني على موعد مع النكبة ,مصادفة وبلا تخطيط أنجزت قراءة ثلاث روايات وكانت عن النكبة:

رواية الصديق رشاد أبو شاور “وداعا يا زكرين” وهي سرد أدبي لحياة عائلية جماعية عامة,و للترحيل القسري من فلسطين إلى المنفى ,الرواية بشكل عام تتطرق للحدث الفلسطيني برمته. مع تركيز خاص على منطقة الخليل وقراها :”حضر إسماعيل وقرر أن يخبرهم..يا أهل ذكرين, اليهود اقتحموا دير ياسين وذبحو أهلها ..(.. ) أرادوا أن يدب الخوف في نفوسنا فيدفعتا إلى الهرب(..)أكثر رجال البلد ما معهم بواريد, اهجموا على اليهود بالشباري, وبالحجارة وبالعصي واطردوهم, خذو سلاحهم (..) تقدمت سيارات مصفحة عليها رشاشات تلتف حول ذكرين,دارت طائرة في سمائها ,ومن جوفهاأسقطت برميلا على البيادر قرب المسجد,فأحدثت دويا هائلا ,لم يتوقع مسلحو ذكرين أنها معركتهم الأخيرة , راهنوا أنهم سيتجمعون مع مسلحي الفرى المجاورة ويعودون لطرد اليهود ..(..) تساءل المختار: هل سنصل إلى الخليل؟.

الرواية الثانية “سِفر الاختفاء” للروائية الفلسطينية ابتسام عازم, وتتحدث فيها عن تهجير أهالي يافا:”هكذا وصفتِ أيامك والذين شُردوا خلف البحرولم تقولي إن عدد السكان أصبح أربعة آلاف تقريبا بعدما كان يفوق مئة ألف..(..) قلت مرة إنك لا تحبين البرتقالولم تأكليه إلا بعد أن هجروكم من المنشية إلى العجمي. واحاطوا العجمي بأسلاك شائكة”. الروائية تتخيل اختفاء العرب في منطقة 48 ,وكيف هي ردود الفعل الإسرائيلية, المبنية على الهلع من هذا الاختفاء,وانتظار هجوم مباغت. الواية هي رصد للواقع في إطار جانبي متخيل مزنّر بإيمان تاريخي بالعودة إلى الوطن.

قبل استعراض ملخص صغير للرواية الأخيرة ,حريّ التوضيح: أنني في التحضير لروايتي عن بلدي بعنوان” وما زالت سعاد تنتظر” ,قرأت كل ما كتب عن تهجير الفلسطينيين آنذاك, إضافة الى استعانتي بالصديق العزيز د. جوني منصور العلامة بكل ما يتصل بحيفا ,حتى أسماء شوارعها قديما وبعد تغييرها من قبل الكيان, سالته عن تفاصيل معركة سقوط حيفا, فأجابني شاكرا. الرواية المعنية للروائي العربي اللبناني الفلسطيني الياس خوري “أولاد الغيتو..اسمي مريم”. رواية ترصد إجرام العدو الصهيوني في مذبحة جامع “دهمش” وفي تهجير أهالي اللد.وفي كشف تفاصيل الحياة اليومية لـ 500 إنسان من أهلها عاشواموزعين بين المستشفى والكنيسة, أحاطهم الكيان بأسوار من الأسلاك الشائكة دون طعام أوشراب ,”دبرّوا أموركم”!ومنعهم من الذهاب لبيوتهم. رواية قاسية نابعة من مرارة وقسوة المشهد المحكي عنه, وبخاصة في مشاهدها السبع الاخيرة: القتل والحرمان, تنظيم الشباب لمهمة دفن الجثث, وحرق الأخرى المتبقية والمالئة لشوارع اللد وأزقتها, ثم دفنها وسماع طقطقة العظام ,التي تلتهمها النيران,أنتهينا مكبلين في الشارع الفارغ برؤؤس منحنية محاطين بالجنود,الذين صوبوا بنادقهم في اتجاهنا…أخذونا إلى غرفة تحت الأرض,بتنا ليلتنا من دون طعام أو شراب,كنت مقتنعا أنهم سيرحلوننا في صباح اليوم التالي”.

أدرك , أنني لم أف الوايات حقها, فكل منها يحتاج إلى بحث, ولكن هذه معاناة شعبنا على مدار قرن زمني كامل ,حتى في العيش داخل أسوار الغيتو!.

مقالات ذات صلة