أرشيف المنتدى

العم أبوحسين.. وقراءة في الخلاف السعودي القطري !

العم أبوحسين.. وقراءة في الخلاف السعودي القطري !

عندما تفاجئك الأحداث السياسية بخبرٍ كالخلاف السعودي القطري يصعب إدراك أبعاده، تبدأ في محاولة البحث عن فك خيوط طلاسمه. فهو خلافٌ يُنذر بتمزيق الثوب الخليجي الذي طالما أخفى تحت عباءته الكثير من الأسرار التي عصفت ولا تزال تعصف بمنطقتنا العربية.

هذا الخلاف المفاجيء داخل المغارة الخليجية دفعني إلى تجديد زيارتي للعم ابوحسين، علَّي أجد عنده ما قد يُمكِّنني من فهم عموم هذا العقل العربي المأزوم حتى أخمص قدميه!. عقلٌ، لا يقوى على العيش بدون أزمات. تارةً يفتعلها مع أخيه.. وتارةً مع جاره أو صديق أو حتى شقيق.

لست أدري، هل هو (المال) الذي أسيء إستعماله فأفسد خلايا العقل العربي، أم هي (السلطة) قد أغوت قلوب أتباعها حتى هان الوطن في عيونهم فرهنوه بلا حسيب أو رقيب، أم هو ( تكالب الدول) على مُقدرات هذه الأمة، يوم أن أدارت منذ عقود ماكينتها التآمرية لتزرع فتنٍ وجدت عند آل يعرب من يرعاها ويُطعمها ويسقيها!.

هذه الطلاسم السياسية عند الإخوة العرب الأعداء، جعلتني أطرق باب العم أبوحسين، أضف إلى ذلك، سعادتي وأنا أقارع مخزونه الثقافي المجبول بتراب الوطن، علّي أحاكي تلك الأسباب التي أودت بإنحدار العقل العربي إلى ما نحن عليه من تخبِّط وضياع صاغتها إتفاقات إمتلأت بها مكتباتنا العربية!

وأنا في طريقي إلى دار العم ابوحسين أخذت ذاكرتي تسترجع الحوار الذي دار بيني وبينه مؤخراً. حوارٌ يُعيدك إلى أصالة تعيش بين أزقة ودروب الأرض الفلسطينية. فيُحدثك عن مستقبل طفلٍ يحمل حجر في وجه دبابة غاصب بعد أن تخاذل المنافقون. ويفسّر عظمة الإيمان بالنصر عند أم زغردت لوداع وحيدها الشهيد، ثم يقرأ الثبات في عيون فتيةٌ آمنوا بهزيمة الغاصب فقارعوه بكل ما ملكت أيمانهم من وسائل الصمود، ثم يأخذك إلى جبروت شفاهٍ بيضاء لأسيرٍ يُدرك مدى إيمانه بهزيمة عدو حالفه الغرباء أمام أعين شقيق تقاعس حتى إستكان فتقاذفته الأمم!.

قال بعد أن فتح الباب مرحباً: ما الذي أسرى بك فأجبرك الورود إلينا يا فتى؟! قلت وقد أربكني عتابه، ولولا بسمته التي أسعفتني لإحترت في قولي، قلت: معاذ الله أن أتقاعس عن زيارتك، القضية يا عم ابو حسين تكمن في أنني لا أُحِب أن أثقل عليك بكثرة زياراتي! وقبل أن يجيب، جاءني من خلفه صوت الحاجة إم حسين قائلاً: الله يسامحك يا بنيِّ، اللي حاسب حالو مكان حسين إبنَّا ما بقول هالحكي، ثم أضافت: من يوم ما سافر صاحبك حسين ودخلتك علينا بتريحنا وبتواسينا يا بنيِّ. وأنا أحاول إعادة لملمة كلمات الشكر معترفاً بتقصيري.. قاطعني العم أبوحسين: لا تختلق الأعذار، فالحاجة أغلقت كل مصادر التبرير فأنت مُدان حتى تثبت الأيام براءتك.

قلت شاكراً وأنا أخطو بإتجاه الكرسي الذي أشار إليه العم أبو حسين: حقِك عليّ يا حاجة، هكذا نحن الأبناء، نرتكب الأخطاء ونحن متكئين على سعة صدر الأباء والأمهات القادر على الغفران والمُسامحة. لم يمهلني العم أبوحسين فقال: بلاش هيلامات، الغفران له مرتكزاته التي تُجيز الغفران. قلت محاولاً إستفزازه: وهل نحن أمام مرتكزات غفران سياسية خاصة بالدولة أم هو حديث يتعلق بالأفراد؟!، قال: لا تختلف كثيراً قضايا الغفران، وفي المجمل تستطيع إسقاط هذا القول على علاقات الدول فيما بينها، مع الإنتباه إلى أن المشاعر ليس لها مكان في علاقات الدول. فالدول تقرأ الغفران من خلال شبكة مُتشعبة المصالح فيما بينها. قلت مبتسما: هل تقصد أن غفران الحاجة أم حسين تحركه المشاعر المرتبطة مباشرة براوبط الدم والدين واللغة والثقافة.. وغفران الدول يستند فقط إلى المصالح، أما الدين والعقيدة واللغة فهما مُجرد أدوات لتسيير عجلة المصالح بينهما؟!. قال ضاحكاً، شكلك بلشت تفهم!.

إستفزني التعليق فقلت: لكن التاريخ يذكر لنا الكثير من النجاحات التي إستندت إلى عامل الدين واللغة والعرق! وقبل أن يجيب كانت رائحة القهوة العربية بصحبة الحاجة ام حسين قد إحتلت المكان. قالت الحاجة وهي تقدم لنا القهوة: هاي صارت الساعة 10 الصبح بدي يا حاج ألحق أروح أجيب خضرة طازة من السوق قبل تخلص، أحسن تعملي مثل مبارح درس بانو أنا بعرفش أنقي الخضرة اللمنيحة. إبتسم الحاج وهو يسألها أنا لمّا حكيتلك مبارح كنت صايم ولا فاطر؟ قللتلو كنت صايم. قاللها الله يسامحك أنا من زمان قلتلك أنو شغلتين بقدرش أعملهم مع بعض، أكون صايم وأناقرك! ضحكنا لكن الحاجة قاطعتنا قائلة: لكان مناقرة الرجال أحسن.. شوفوا وين وصَّلتنا مناقرة عربكوا الرجال.. هَيَّنا كرمالنا لورا!

للحظات خيّم الصمت ورائحة القهوة على المكان بعد أن غادرتنا الحاجة، لكنني كسرت الصمت سألاً العم أبوحسين: لكن قلَّي، كيف تقرأ الخلاف السعودي القطري وهل قضية المصالح هي التي فجَّرت الأزمة بينهما وقبل أن تجيبني، أود أن أستوضح منك كذلك، هل ستسمح أميركا الراعي الأوحد لهما أن يذهبا في خلافهما إلى حد النزاع المسلح؟ قال وقد بدت ملامحة أكثر تماسكا: منذ يومين إنتهيت من قراءة كتاب العلاقات الدولية” للكاتب هوبول ويلكينسون، يتحدث فيه عن العلاقات الدولية الحديثة، بدءًا من السياسة الخارجية، ومرورًا بالقضايا المتعلقة بالسلاح والإرهاب، ووصولًا إلى قضايا البيئة والفقر في العالم، وتأثير المنظمات الكبرى كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتأثير الحركات العرقية والدينية في جميع أنحاء العالم. ثم أضاف، هو كتاب لكل من يسعى لتكوين وجهة نظر جديدة تساعده على فهم الأحداث الجارية في عالم يزخر بالصراعات والاضطرابات السياسية. لكن بالعودة إلى سؤالك ولكي لا أطيل عليك: إن دولة قطر ومنذ أن أُنشأت محطتها الإخبارية “الجزيرة” أوكل لهذه المحطة قيادة التغيير في عقلية المواطن العربي من حيث شعارها ” الرأي والرأي الآخر” الذي بدا في وقتها وكأنه يُخاطب المشاهد العربي بإتجاه فكرة الديمقراطية، رغم ما يحمل في طياته هذا الشعار من بذور المتناقضات في ظل عقلية مواطن عربى لم تنضج بعد، حتى تسيّدت “الجزيرة” الرأي العام العربي وأصبحت قادرة على توجيهه إلى حيث تريد، وهو ما أكسب دولة قطر مساحة واسعة داخل رقعة السياسات العربية والدولية. وباتت قطر بفضل “الجزيرة” بالإضافة إلى قوتها المالية بالرغم من صغر حجمها الجغرافي والسكاني، تمتلك رؤية سياسية فاقت بتأثيرها السياسة المصرية السعودية العراقية، وهو ما دفع بدول كبرى مثل أميركا وروسيا ودول غربية إلى كسب ودَّها، وهو الشيء الذي دفع بالرئيس الأميركي السابق جورج بوش إلى التفكير بقصف محطة “الجزيرة” يوم أن رفضت تعديل مواقفها من الغزو الأميركي للعراق. من هنا بدأت رحلة معاناة المملكة العربية السعودية مع الهيمنة الإعلامية السياسية القطرية ، فالسعودية ومنذ أن تأسست، كانت الآمر الناهي في رقعة الشطرنج الخليجية، ولن تقبل بتغيير قواعد اللعبة. ثم كانت الحرب الأميركية على العراق وسقوط صدام حسين. وقتها وقفت “الجزيرة” ضد سقوط العراق.. فكسبت قطر جولة المفاضلة مع السعودية أمام الرأي العام العربي ولم تتغير قواعد اللعبة التنافسية بين قطر والسعودية. حتى جاء ما يسمى بالربيع العربي الذي خلط الأوراق وأزاح اللثام عن حقائق الأمور. فإنتهجت “الجزيرة” منهج المُحرّض لنجاح ذلك الربيع علّها تزيد من رقعة هيمنتها داخل القرار العربي، ولربما أدرك القارئ من خلال السنوات الأولى لما يسمى بالربيع العربي أين وصلت سطوة القرار القطري داخل الشارع العربي وداخل مؤسسات الجامعة العربية وكيف كانت دولة قطر تقرر فيتم تنفيذ القرار عربيا وبمباركة أميركية إسرائيلية غربية. في تلك الأثناء كانت السعودية كما التابع أو كالذي لا يملك وقف هذا النجاح القطري، وربما لم يُغضبها كثيراً لأن النجاح كان بصورة أو أخرى يصب في خانة أهدافها. إلى أن إصطدم الحلم القطري السعودي (المتناقض في أدواته المتلاحم في أهدافه) بالصمود السوري الذي أربك حساباتهم. فكانت الهزيمة أكثر وضوحاً على الموقف القطري ومحطته “الجزيرة” التي وقعت في خطيئة الكشف عن حقيقة نواياها التي نشأت من أجلها. بعدها باتت كل من قطر والسعودية تبحث منفردة عن بقايا نصر يُخرجهم من سياساتهم التي عجزت عن تحقيق أحلامهم. لذلك بدأنا نسمع عن الصراع الدامي بين أدواتهم في كل من سورية وليبيا والعراق، من أجل تحديد من الذي سيقود مسيرة المفاوضات السياسية التي فرضها الصمود السوري. وهنا برز الدور السعودي أكثر فعالية من الدور القطري الذي تهاوى بسقوط رموز سياساته الأمير حمد ووزير خارجته حمد. لكن قطر بزعامة أميرها الجديد تميم بن حمد، تعتقد أنها لا تزال قادرة على لعب دورها الريادي كما فعلت في تسعينيات القرن الماضي، لذلك ترفض تسليم أوراقها للهيمنة السعودية، عندها بدأ المد السعودي بإتجاه معاقبة قطر، تارة على شكل صدامات وتارة على شكل خلافات سياسية وصلت إلى حد سحب السفراء في سنة 2014م.. وصولاً إلى ما نشهده من عملية لوي الأذرع والتي تميل بشكل واضح لصالح الهيمنة السعودية.

هنا ورغم متعة الإستماع لهذا الشرح المستفيض، إلا أنني أدركت أني قد أثقلت على العم أبوحسين حيث جعلته يُطيل الشرح خاصة وأننا في الشهر الفضيل، فلربما له إلتزاماته التي يريد أن يقوم بها فقلت وأنا أتهيئ للوقوف: حقيقة يا عم، إعادة قراءة الأحداث بِعَين الرقيب تتيح للمُتابع فهم الكثير مما آلت إليه صراعات اعداء اليوم بعد أن كانوا حلفاء بالأمس. قال وكأنه يريد متابعة الحديث: لك أن تعلم يا بني بأن تجربة قطر الناجحة عبر محطتها ” الجزيرة” قد تدفعها لإعادة تجديد لغة الخطاب الوطني لهذه المحطة، علّها تنجح في إعادة خلط الأوراق من جديد.

صافحته شاكراً وأنا أحاول لملمة ما لم تبُح به كلمات العم أبوحسين أمد الله بعمره..

ولنا لقاء…

أبورياض