المقالات

المجزرة الجديدة في غزة

التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني في غزة تفوق الوصف. فهي أكبر من تحمل الإنسان العادي. الأسلحة الخفيفة تجابه آلة عسكرية من الأكثر تدميراً عبر التاريخ. ورغم ما ذكرناه، لازال هذا الشعب الحي يقاتل العدو باللحم الحي. ولابد سينتصر. لقد علمتنا التجارب أن الإنسان هو الذي ينتصر وليس الآلة.

لقد بدأ العدو المعركة على غزة بعد تحضير متأن لها. ليس هناك أي ذريعة يتذرع بها لبدء العدوان. إنما قيامه بهذا العدوان كان لأسباب حددها مسبقاً يجد من الضرورة تحقيقها. وهذه الأسباب تعود إلى الدور السياسي المحدد لإسرائيل في منطقتنا العربية. فالسبب الذي من أجله قام العدوان هو وجودي بامتياز. فقيام إسرائيل في المنطقة كان من أجل قمع الشعوب العربية وقسمة الأرض العربية بين أسيوي وأفريقي، حتى يصبح من المستحيل توحيدها إلا بإزالة الكيان المغتصب في فلسطين. فدورها استراتيجي لخدمة الدول المسيطرة التي ترأسها الولايات المتحدة. إسرائيل هي وكيل محلي للإدارة الأمريكية في المنطقة. ففي حال وجود قوى من المنطقة تقوم بهذا الدور، فما الذي يجير أمريكا على دفع مليارات الدولارات لاستمرار الكيان الغاصب؟

المتغير الوحيد في المنطقة هو الجهود غير المسبوقة التي تقوم بها أمريكا وإيران من أجل تأكيد الإتفاق ما بين هاتين القوتين لخلق استقرار في المنطقة. المنطقة العربية مضافاً إليها إيران وتركيا. ففي الجولة الأخيرة الممدة أربعة أشهر كان الرأيان الأمريكي والإيراني متطابقين من حيث وصف التقدم الذي حصل بالإيجابي، في الوقت الذي كانت الأطراف الأخرى تتحدث عن عدم التقدم. وهذا ما يجعلنا نستنتج أن التقدم المقصود هو الإتفاقات الثنائية الأمريكية الإيرانية، وليست تلك المتعلقة ب5+1 مع إيران.

في هذا المجال، علينا الإشارة إلى أن شعارات المرحلة الراهنة حددتها الولايات المتحدة بلا لبس: القضاء على الإرهاب. هذا الشعار الذي تبنته إيران بدون أي تعديل، حتى أن المراقب يعتقد بأنها هي من حدد هذا الشعار وليس هي التي تبنته من أجل ردم الهوة السياسية التي كانت تفصلها عن الولايات المتحدة.

لم تتخلف أي من القوى المتحالفة مع أمريكا من العمل على تنفيذ هذا الشعار، ولكن بوتائر مختلفة. فإيران على سبيل المثال بدأ تعاونها مع أمريكا منذ الحرب الأمريكية على طالبان. أما في الوقت الحالي فالحرب على الإرهاب تجري في العراق وسوريا بالدرجة الأولى. والحرب تخوضها إيران إما بقواها الذاتية، إما بالقوى الحليفة. أما الذين يساعدون أمريكا في حربها على الإرهاب فهم دول الخليج العربي ودول المغرب العربي ومصر وتركيا. كل من هذه القوى يساهم بطريقة مختلفة عن الأخرى.

الولايات المتحدة تريد القضاء على الإرهاب، ولكن هذا لا يعني أنها تسير في خط مستقيم. أي أنها خلال قيادتها لعملية القضاء على الإرهاب، تقوم بإنهاك القوى التي تساعدها في هذا المجال من دون أن تقدم لها يد العون. وهذا ما يمكنها أن تفرض شروطها عند البدء بفرض الشروط. هل قامت داعش بالإستيلاء على الموصل وغيرها من دون رقابة الولايات المتحدة؟ بالطبع لا. ولكن داعش ستحارب حلفاء إيران بالدرجة الأولى، وربما ستضطر إيران للتدخل مباشرة، لوجود داعش على حدودها, وهذا ما سينهك إيران، بسبب خوضها حرب أخرى في سوريا.

إذن، الوضع معقد، لأن ما تقوم به أمريكا مع إيران، هو ما تقوم به مع دول الخليج. فقد أقنعت هذه الدول أن العدو الأول لها هو إيران وليس إسرائيل. كما وأن هذه الدول هي على يقين أن أمريكا وحدها بإمكانها حماية عروشهم. من هنا التبعية المطلقة لأمريكا.

الواضح تماماً أن جميع هذه الدول متوافقة على ضرورة محاربة الإرهاب (السني لأنه غير منضبط)، كما وأنها متوافقة على ضرورة محاربة بعضها بعضاً. أما قائد الأوركسترا فهو خارج الصراع ولكنه يديره.

أمريكا هُزمت في العراق واضطرت للإنسحاب المخزي. وهي في طريق انسحابها من أفغانستان لأنها تيقنت من عدم إمكانيتها على الإنتصار. أمريكا المنهكة تقود الأحلاف الجديدة في المنطقة لأن ما من أحد يريد مجابهة المشروع الأمريكي بصورة جذرية. حتى الدول التي تملك مشاريع (إيران وتركيا وإسرائيل) تريد تنفيذ مشاريعها بالتشارك مع أمريكا وليس بالتنافس معها.

الحديث يجري عن حاجة الإقتصاد الإيراني للإستثمارات الأمريكية، لأن المواطن الإيراني لم يقبل التخلي عن المساعدات العينية من قبل الدولة، التي تستهلك الرأسمال الذي يجب أن يوظف بالإنماء. فالتعاون الأمريكي الإيراني يخطط له على أن يكون طويل المدى وليس لمدة محدودة. وهذا يتمدد إلى الإتفاق على إدارة المنطقة برمتها: سوريا، العراق والخليج. أما القوى الفاعلة في هذا المجال فهي إيران، تركيا، السعودية وأمريكا، من دون أن نغفل الدور المحدود نسبياً لروسيا. وهذا ما يقوم العمل عليه وبجدية مطلقة.

ما هو الدور الإسرائيلي في المنطقة المذكورة؟ لا شيء. أين الدور الإستراتيجي لهذا الكيان في حال توافق القوى الفاعلة على تقاسم النفوذ والأدوار مع الولايات المتحدة؟

هذا هو السبب الرئيسي للعدوان على غزة. إسرائيل تريد أن تقول للولايات المتحدة أن لا ترتيب لأوضاع المنطقة من دون مساهمة إسرائيلية. كما وأرادت أن تكون الرسالة دامية حتى يكون وقعها أقوى. إسرائيل لا ضرورة لوجودها في المنطقة من دون الدور الذي كانت تتبوأه. إسرائيل تريد الإستمرار.

حتى الآن لم تتحدث أمريكا عن إسرائيل إلا في موضوع العلاقة مع الفلسطينيين. وهذا تقزيم لدورها. وأمريكا لاتزال تتحدث عن ضرورة وقف النار بين المقاومة وإسرائيل. وهذا ما لا تقبل به إسرائيل. فهي تريد أن تشارك في ترتيب المنطقة كما إيران وتركيا. وبالتالي الحفاظ على مبرر وجودها في الشرق الأوسط.

أما السبب الثاني للعدوان، والذي لا يقل أهمية عن السبب الأول، فهو محاولة القضاء على المقاومة، أو في أسوأ الأحوال تدجينها، بمعنى تبعيتها لأحد الأنظمة، بحيث يقوم هذا النظام بتحديد أجندتها السياسية أو العسكرية (الأمنية).

صحيح أن معظم كتاب الرأي في صحافة العدو مجمعون على استحالة هذه المهمة، ولكن تحديدها يحمل طابعاً استراتيجياً، أو دعونا نقول مصيرياً.

إن مبرر وجود أي منظمة مسلحة ذات طابع شعبي، غير رسمي، هو مقاتلة العدو الصهيوني الذي اغتصب فلسطين ويحاول إكمال سيطرته عليها وطرد أهلها نهائياً. فالسماح للعدو بالقضاء على المقاومة الفلسطينية يعادل القضاء على المقاومات الأخرى لأنها تفقد مبرر وجودها سياسياً وأخلاقياً. ألم تضطر القاعدة إلى التحدث عن مقاتلة العدو الصهيوني، علماً أن مقاتلة أمريكا لا يقل جوهرية عن قتال إسرائيل.

القضاء على المقاومة الفلسطينية في غزة، وخاصة في الظروف الراهنة، سيحول جميع المنظمات “الشعبية” المسلحة إلى منظمات تقاتل، إما من أجل مموليها، إما من أجل مذاهبها… وبذلك تصبح منظمات إرهابية بامتياز. منظمات عدوة للشعوب التي تدعي هذه المنظمات تمثيل مصالحها. هذا ما يحصل في العراق وسوريا واليمن وليبيا و…

إن تعهير المقاومة سيؤدي حتماً إلى تراجع الزخم الشعبي لبناء مجتمع جديد يمثل مصالح الناس، أكثرية الناس. كما وسيؤدي إلى انفضاض الناس من حول المقاومة لأنها خانت آمالهم وأحلامهم في التحرير من الصهيونية ومن التبعية للعولمة النيوليبيرالية. من هنا ضرورة تقديم كل الدعم لمقاومة الشعب الفلسطيني في غزة حتى نمنع الإحتلال من تنفيذ مخططاته. وهذه مسؤولية الجميع، وخاصة أولئك الذين بإمكانهم تقديم مساعدة فعالة توحي بأن معركة جماهيرنا معركة واحدة، ضد عدو واحد.

2014-07-25

الاستاذ حسن ملاط

مقالات ذات صلة