المقالات

ثقافة الكراهية.. الفلسطيني ضحيتها

ثقافة الكراهية.. الفلسطيني ضحيتها

فتحي كليب

الاعتقاد السائد لدى الكثيرين، ان نزعات العنصرية والتعصب قد أصبحت من الماضي، بعد ان حلت مكانها مفاهيم حقوق الانسان والتسامح بين الشعوب. لكن شواهد كثيرة تدلل ان مصطلح الكراهية اصبح ثقافة يتم استحضارها في غالب الأحيان ضد فئة بعينها، ليس فقط لسلب جماعة ما حقوقها، بل لقطع الطريق على اي محاولة جادة تسعى لبناء علاقات إنسانية جديدة عمادها احترام القيم الانسانية.

في زمن الحرب، يبدو شائعاً استخدام مفاهيم الكراهية والحقد كجزء من «عدة الحرب»، رغم ان القانون الدولي الانساني، يحظر ممارسة سياسات عنصرية ضد فئات او جماعات بعينها، لكن ما ليس مفهوماً ان تروج مثل هذه المفاهيم في زمن ظن البعض انه زمن السلم، ليبدو جلياً ان جماعات الكراهية قد تجد لها مكاناً وتنمو، في مجتمعات السلم. تحركاتها وممارساتها وخطاباتها تقوم على خلفية العداء المسبق للآخر (فئة، جماعة تختلف عنها..) الذي يشكل وجوده خطراً دائماً، وهو امر لا يمكن تفسيره الا في اطار عقدة نقص استفحلت وتجذرت وباتت تشكل خطراً حقيقياً على نفسها قبل غيرها. وبالتالي، فإن تحريرها من هذه العقدة، تصبح مهمة المجتمع بأكمله، صاحب المصلحة الفعلية في بيئة خالية من ثقافة الكراهية.

في لبنان، نفترض ان الحرب الاهلية بصيغتها القديمة قد انتهت الى غير رجعة، رغم ان الصراع السياسي لا زال موجوداً، وقد يكون في احد اوجهه اكثر شراسة من الحرب العسكرية. ومع ذلك، ما زالت مفردات الحرب حاضرة في قاموس الكثيرين، تستحضر امام اي مفصل، ليس بهدف التقييم والاستفادة من دروس الماضي، بل العودة الى الماضي بكل سلبياته وجعله هاجساً يؤرق المجتمع برمته.

منسق اللجنة المركزية لحزب الكتائب النائب سامي الجميل احد ابطال «ملحمة الهواجس» لا يترك مناسبة إلا ويستذكر الفلسطيني ودوره في الحرب، وهي مسألة قد يكون من حقه ان يتحدث فيها باعتباره احد المشاركين فيها، لكن ما ليس من حقه جملة المواقف التي يطلقها بين الحين والآخر بشأن الفلسطينيين ونعتهم بمفردات وتعابير تفوح منها رائحة الكراهية.

حسب اعتقاده «.. ان من الطبيعي ان يكون الوضع الفلسطيني في لبنان مصدر قلق لجميع اللبنانيين..». وفي مكان آخر يفاخر بأنه «حمل السلاح واشتراه لمنع توطين الفلسطينيين في لبنان..». وهنا يمكن ان نسجل التالي:

إن صمت الفلسطينيين عن استحضار ويلات الحرب والتحريض ضد اطرافها لا يعني انهم عاجزون عن الرد او ان ليس لديهم ما يتحدثون به. بل لأنهم جادون في رؤيتهم لمستقبلهم ومستقبل من يعيشون على ارضهم وانطلاقاً من استيعابهم لدروس الحرب وما جرته من مصائب على الجميع، كانوا هم اكثر الخاسرين فيها.. فالحديث الدائم عن الحرب وعن بطولات اصحابها، لا يمكن وضعه إلا في إطار المحاولات لخلق بيئة جديدة للحرب. وهل لأحد ان ينسى ذلك الشعار العنصري الذي رفع قبل الحرب بأن «هناك اربع دول وخمسة شعوب وعلينا التخلص من الشعب الزائد»؟ لكن رغم اندحار مثل هذه الشعارات، فما زال هناك من يفاخر بأنه امضى حياته في قتل الفلسطينيين وهو غير نادم على ذلك ولا زال مستعداً لأن يكرر تجربته مرة اخرى.. هل يستحق مقعد انتخابي او زعامة طائفية وحزبية كل هذا التحريض.. أليس هذا ما تفعله اسرائيل امام كل استحقاق انتخابي، عندما يصبح الدم الفلسطيني هو الناخب الاكبر بين الاحزاب الاسرائيلية المختلفة؟

تختلف الظروف والاماكن لكن السبب واحد: يقتل الفلسطيني وتمارس بحقه كل صنوف القهر البشري، لكن ليس على يد اسرائيل فقط. هم قتلوا سابقاً في الكويت وفي ليبيا ونكل بهم في العراق وهم يقتلون اليوم في سوريا، يجوبون الارض الى البرازيل وتشيلي وغيرها، بحثاً عن مأوى لهم هرباً من أشقاء عرب. وفي لبنان حورب الفلسطيني وارتكبت بحقه ابشع المجازر تحت ستار «القومية اللبنانية».. وحين فشلت مؤامرات تهجير الفلسطينيين في منافي الارض، كانت الإستراتيجية البديلة بتكديسهم داخل مخيمات لا تصلح للحياة الآدمية ويمنع عنها الماء والهواء.

اذا كان النائب الجميل يفتخر بأن نواب حزبه وقفوا منفردين في مجلس النواب ورفضوا القوانين التي تعطي حقوقاً للفلسطينيين.. فليطمئن جيداً ان ما حصل في مجلس النواب لا زال حبراً على ورق. لكن الأهم ان مثل هذا الكلام يشكل رسالة حقيقية لكل من يعنيهم الأمر، بأن التعديلات القانونية التي حصلت في مجلس النواب عام 2010 لم تكن سوى ملهاة للفلسطينيين ولمن يسعى صادقاً لإلغاء الغبن عن الفلسطينيين.

لقد اعطت الحرب الاهلية اللبنانية ومسبباتها دروساً للجميع. فسياسات القمع التي فرضت على المخيمات قبيل الحرب لم يجد لها اللاجئون مبرراً وتفسيراً سوى أنها كانت تعبيراً عن عقلية معادية لقيم الانسانية، وهي التي شكلت العامل الرئيس والدافع في أن أول ما فعله اللاجئون حين امتلكوا السلاح في المخيمات هو اغلاق المخافر الأمنية، باعتبارها رمزاً للقمع ولسياسة التمييز ضدهم، وأنشأوا مؤسسات لإدارة شؤونهم بأنفسهم، ليس من موقع الرغبة في التعدي على السيادة اللبنانية، بل من موقع رفض الخضوع للقمع والأحكام العرفية وسياسة الإذلال المتعمد التي كانت مفروضة عليهم.

إن كان الفلسطينيون في لبنان يختلفون في رؤيتهم السياسية لمستقبل الصراع مع اسرائيل، إلا ان جميعهم متفقون حول مسألة هذه الحقوق وضرورة إقرارها، لأنها مسألة على تماس مباشر مع كل عائلة وكل فرد فلسطيني. إنها باختصار صراع من اجل البقاء والحياة. فالحقوق الانسانية في ابسط تعريف لها هي حق الانسان بالعمل بحرية وحق إيجاد مسكن وحق التعليم والصحة، حق العيش كبقية شعوب الارض.

لذلك، فمسألة تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية للفلسطينيين في لبنان لم تعد قضية سياسية وإنسانية وحسب، او قضية محض فلسطينية، بل هي مسؤولية لبنانية وباتت تشكل شرطاً أساسياً من شروط الحياة لكنها تخضع من جديد لواقع التجاذبات السياسية والطائفية، ما يؤدي إلى أن يدفع الفلسطيني ثمنها من حياة وصحة وتعليم ابنائه.

إن حواراً جدياً بات مطلوباً اليوم قبل الغد بين الفلسطينيين واللبنانيين. والحوار المطلوب ليس حواراً فوقياً كما جرت العادة، بين الحكومة اللبنانية وممثيلها ومنظمة التحرير والفصائل الفلسطينية. بل المطلوب حوار على مستوى اوسع يطال النواب والوزراء والاحزاب والنقابات على اختلافها والهيئات الروحية.. حوار يتناول مختلف عناصر الملف الفلسطيني في لبنان، وبالتالي فإن وظيفة الحوار المطلوب هي تنقية الملفات والسياسات الموروثة من زمن الحرب.. ومن ثم محاولة تقديم قراءة مشتركة لهذه الملفات بغية الوقوف على إيجابيات العلاقة التاريخية وتفادي سلبياتها.

السفير، بيروت، 29/12/2012

مقالات ذات صلة