أرشيف المنتدى

القراءة الفلسطينية عند العم أبوحسين!

القراءة الفلسطينية عند العم أبوحسين..

لم يمضي الكثير على زيارتي الأخيرة للعم ابو حسين، حتى فوجئت بزوجتي توقظني من قيلولتي لتخبرني بأن العم أبو حسين يرغب في رؤيتي وانه ينتظرني في الصالون. أصابني القلق، حيث من العادة أن يتصل العم أبوحسين أو يبعث بأحد من أحفاده ليخبرني إذا ما قرر زيارتي. لابد أن في الأمر ما إستوجت زيارته المفاجأة.

قلت لزوجتي وأنا أضع نظارتي: اللهم إجعله خير، رُوحي قَدْميلو بعض الحلوى والفواكه ريثما أنتهي من إرتداء ثيابي. ردّت زوجتي بشيء من العتب على تدخلي بقوانين مملكتها: يا زلمي، إنت روح شوف الزلمة وما تهكل هم شو بدنا إنقدم! إبتسمت وأنا أغادر إلى الصالون حيث يجلس العم أبوحسين.

لم تكن ملامحه توحي بما يُقلق رغم شحوب لون بشرته على غير عادتها، قلت: يا هلا بالعم أبو حسين، شو هالزيارة الحلوي، قال مبتسماُ: لا بد أني أيقظتك من نومك فأرجوا أن..، قلت مقاطعاَ: يا عم ابوحسين زيارتك لي هي موضع إعتزاز عندي، أرجوك تفضل بالجلوس فلابد أن الإرهاق قد أخذ نصيبه منك. وضع يده على كتفي وباليد الأخرى أخرج منديلاً من جيب معطفه ليمسح من على جبينه بعض من إرهاقٍ قد أصابه بسبب الطريق رغم قصر المسافة بيننا.

قال بعد أن أخذ مكانه: قُلتَ لي يوماَ بأنك على معرفة بدكتور للقلب شاطر؟! هززت برأسي، فتابع: أريدك أن تأخذ لي موعداً معه وإن أمكن نترافق يوم زيارته؟ قلت إن شاء الله رب العالمين لكن خير إن شاء الله؟!. قال: منذ فترة وأنا أعاني ألماً وضيقاً في صدري ثم ينتقل إلى ذراعي الأيسر، ثم سكت لبرهة وكأنه إستدرك أمراً ثم قال: طبعاً جئت وحدي لزيارتك لأني لا أرغب بإعلام الحاجة إم حسين بما أعاني حتى لا تقلق فترتبك حركة الحياة داخل عالمها الذي تعشقه، وطبعاً مش ناقصنا أوجاع. قلت: لا تهكل هم ودعك من الهواجس، فالقضية لا تستدعي كل هذا القلق.. إن شاء الله بكون عارض بسيط وبيزول بعون الله. أجاب: يا بني إن الموت حقٌ علينا، وربما هو الحقيقة الأكثر وضوحاً في هذا الكون.. وسيدركنا حتى وإن كنا في بروج مُشيّدة، المهم أن نُحسن التزوّد ليوم لا ريب فيه ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. ثم همَّ بالنهوض لكنني إعترضته قائلاً: معقول تزوني وتروّح بدون ما نشرب القهوة بمعيتك، ما بتصور بترضاها يا عم ابو حسين؟!

أخذ مقعده، ثم سألني ممازحاً: بشوفك معلّق خارطة فلسطين من النهر للبحر! قلت: طبعاً، وهل تخلو البيوت الفلسطينية منها! قال بعد أن أطال النظر إليها: مين برأيك من زعماء العرب وحتى الفلسطينية يا ترى ممكن يملك الشجاعة ويعلّق في مكتبه هيك خريطة لفلسطين التاريخية! قلت: من يدري قد يأتي ذلك اليوم. قال: ليس في المدى المنظور على الأقل، فأرضية المناورة عند القيادات الحالية لا تصلح لزراعة الأمل أو حتى لإيجاد الحلول لجزء من المشاكل التي تعصف بالوطن العربي، إنهم في أحسن الأحوال مجرد إدارات محلية محدودة الصلاحيات عُيّنت بطريقة ما من قِبل الخارج!

حجم السلبية في نبرة العم أبو حسين دفعني للقول: في ظل هذه النظرة التشاؤمية كيف يمكن أن تقرأ لنا مستقبل القضية الفلسطينية؟! قبل أن يُجيب دخلت أم الأولاد مرددة كلمات الترحيب بينما رائحة القهوة العربية تسبقها إلينا ثم قالت : ما بتزهقوا من السياسة، والله ما بيجي من وراها غير وجع الراس!. إبتسم العم أبو حسين وهو يقول: الله يسامحك يا حاجة، السياسة بالنسبة للفلسطيني زي حبة البندول اللي بتهدّي وَجع الراس، بنفعش تكون فلسطيني وما تحكيش في السياسة!.

تناول فنجان قهوته شاكراً ثم إلتفت إليّ وقال: جواباً على سؤالك يستوجب العودة إلى مخطط “الربيع العربي”، هذا الربيع الذي نجح إلى حدٍ بعيد في خلق فوضى فكرية تصادمية بين أبناء الوطن الواحد تستند إلى تصغير معاني الوطن ليصبح الوطن بحجم الطائفة أو الحزب أو المنفعة الذاتية، حتى باتت فكرة تقسيم الأوطان إلى دويلات قزمية تُحْكَم ولا تَحْكُم مسألة قابلة للبحث والتطبيق. إن حالة الفوضى الدموية التي التي إستحكمت أدواتها بعقلية الشارع العربي، أدّت إلى تهميش القضية الفلسطينية، وبتنا كفلسطينيين نتلمس حلولاً وهمية عند قيادات فلسطينية إرتضت كلٌ حسب دوافعه إلى أن نعيش حالة الفوض الدموية التي تتحكم بمجمل السياسات العربية. قلت: وماذا بعد، قال:

قبل قولك (وماذا بعد)، دعني أذكر لك ماذا فعلت المخططات الغربية وأدواتها العربية حتى وصلت بقضيتك الفلسطينية إلى ما وصلت إليه. قلت هات ما عندك. قال: لقد قاموا بضرب أربع مُرتكزات أساسية كانت القضية الفلسطينية ولا تزال تستند إليها في صراعها مع الغاصب الإسرائيلي:

1- لقد نجحوا في ضرب فلسفة القومية العربية التي نشأت في بدايات خمسينات القرن الماضي حتى باتت كل دولة من الدول العربية معرضة للتقسيم بعد نجاح تغلغل ثقافة العداء والعنصرية لدى أغلب هذه الدول!

2- لقد نجحوا في ضرب صورة الإسلام وتعاليمه السمحة.. حتى بات المسلم كائناً مشوهاً ومنعوتاً بأبشع الصفات الإنسانية ومتهماً حتى تثبت براءته!

3- لقد نجحوا في ضرب قدرات الجيوش العربية القادرة على صُنع القرار حتى باتت الأرض العربية مستباحة لكل من له أطماع!

4- لقد نجحوا في ضرب مفهوم الثورة الفلسطينية وبندقيتها النضالية عبر تكبيلها بشبكات عنكبوتية مليئة بالإتفاقات المجحفة بححقنا، بدأوها بمدريد وأتبعوها بأوسلوا وأضافوا عليها مقررات ميتشيل وتفاهمات تنت وأوصلوها ببيان بيلين وأبو مازن حتى بتنا ننسق أمنياً مع الغاصب لأرضنا.. وغيرها وغيرها، وصولاً إلى زرع الفتنة المسلحة بين الفلسطينيين أنفسهم!.

إن نجاحهم في ضرب هذه الركائز أدى إلى حالة الإنكماش التي تعاني منه القضية الفلسطينية والذي يهدد إذا لم يتم إستدراكه بضياع الوطن بأكمله!

لبرهة ساد صمت، لكني خرقته ممازحاً العم أبوحسين: هلّق إعرفت ليش عندك ضيق بصدرك وناوي تشوف الدكتور! إبتسم وقال: قراءة الواقع كما هو يا بني قد يُتعبك للحظة.. لكنه يمنحك القدرة على الإختيارات الصائبة للقادم من الأيام، ثم أضاف: لكن هناك دائما ما يٍقال على الضفة الأخرى من نهر الكلمات، صحيح أن عالمنا العربي وقع تحت حالة إنهزامية يراعاها القرار الرسمي العربي وهو ما أخرج القضية الفلسطينية من أولويات القراءات العربية والدولية إلا أن هناك في المقابل مؤشرات إيجابية توحي بإنحصار هذه الحالة الإنهزامية! قلت أرحني أراحك الله من غدر الغادرين. إلتفت إلى ساعته وقال: لقد أطلت عليك لكن في عجالة، هناك صمود سورية وحلفائها والتي أصبحت سداً منيعاً في وجه مخططاتهم فهو صمودٌ يُعوّل عليه وموقف لا يُباع ولا يُشترى، ثم تعاظم قوة حزب الله التي بات رقما صعباً في المعادلة الإقليمية بعد أن نجح في رسم حدود السيادة اللبنانية في وجه إسرائيل والإرهاب، وساهم إلى حدٍ بعيد في إنتخاب رئيس لبناني أقله ليس مرهوناُ للحالة الإنهزامية التي تطغى على القرار الرسمي العربي. قاطعته قائلاً: لكن ما يُقلق في عهد الرئيس اللبناني الجديد هو أن أول قرار صدر في عهده كان مُجحفاً بحق مخيماتنا الفلسطينية، وأعني به ما نسمعه من لغط حول بناء جدار إسمنتي عنصري حول مخيم عين الحلوة، ألا ترى إنها إمتداد للمعاملة السيئة التي يمارسها النظام الرسمي اللبناني بحق شعبنا! قال: لا يختلف إثنان على عنصرية القرار الرسمي اللبناني بحق مخيماتنا منذ مجيئنا إلى هنا، إلا أن قراءتي لقرار بناء هذا الجدار لا تذهب في هذا الإتجاه، بل هي مجرد رسالة سياسة تحذيرية من قِبل العهد الجديد موجهة إلى القوى الفلسطينية داخل المخيمات وخصوصاً عين الحلوة، بأن سنة 2017 هي السنة التي سيتم فيها القضاء على الإرهاب في كل من العراق وسورية وحيث تواجد.. وعلى القوى الفلسطينية داخل المخيمات أن تساهم في رسم سياسة فلسطينية تضامنية مع العهد اللبناني الجديد ضد قوى الإرهاب لتكون عوناً في تثبيت سياسة لبنانية جديدة وُلدت من رحم فلسفة قوة المقاومة اللبنانية وحلفائها الإقليميين، المبنية لبنانياًعلى مقولة “الشعب الجيش المقاومة”، وهذه السياسة التضامنية بإتجاه العهد الجديد ستمهد الطريق لبناء ثقة تسمح في المستقبل ببحث وتسوية المطالب الإنسانية التي يحتاجها شعبنا الفلسطيني داخل مخيمات لبنان. قلت: يا عم أبوحسين هذه قراءة تحتاج للكثير من الأخذ والرد، فإشارات التطمين وليس الضغوطات هي المطلوب تداولها بين الطرفين.. قال ممازحا وهو يغادر: لا شك في ذلك، لكن صار لازم أغادر لأنو أكيد الحجة أم حسين بتكون ناطرة على الباب وفي جعبتها زخّات من الأسئلة التي تتعلق بسبب غيابي المفاجيء عن الدار، وهي أسئلة ألعن من أسئلة محكمة العدل الدولية!

ولنا مع العم أبوحسين ومعكم لقاء..

أبورياض