بوابة مخيم البداوي الأهلية

الحاج الأستاذ محمود عبد الكريم الريناوي

شخصيات ما زالت في الذاكره || الحاج الأستاذ محمود عبد الكريم الريناوي


بقلم عباس محمود عبد الكريم علي الريناوي

الحاج الأستاذ محمود عبد الكريم الريناوي
الحاج الأستاذ المربِّي الفاضل محمود عبد الكريم علي الرِّينَاوي

نعم هو أبي ومعلِّمي الخير وصديقي الحاج، الأستاذ، المربِّي، المُصْلِحْ الاجتماعي، التاجر، الوجيه في قومه والمستشار محمود عبد الكريم علي الريناوي، رحمهُ الله وأسكنهُ فسيح جنَّاته وجمعنا وإياه في الفردوس الأعلى. غير أنهُ رحمهُ الله كان يَسْعَدُ حينَ يُناديه الناسُ بلقبِ الفَلَّاحْ.

وُلدَ الحاج محمود الريناوي في بلدة صفورية الفلسطينية قضاء مدينة الناصرة التي تقبع في الجليل الأعلى، وُلدَ عام 1939 في عائلةٍ من عوائلِ الفلاحين الفلسطينيين الكادحين المثابرين. أبوه الحاج عبد الكريم الريناوي الذي ولد في القرن التاسع عشر وتوفي في القرن الواحد والعشرين عن عمر يناهز المئة وثلاثة أعوام، قضاها وهو يعكفُ كفاحاً على تأمين الحياة الكريمة لعائلته وعائلة أخيه سعيد علي الريناوي الذي اختفى في ما كان يُعرفُ آنذاك برحلة “السفربرلك” إلى تركيا، وتركَ له ثلاثةً من الأبناء، ضمَّهم الحاج عبد الكريم الريناوي لعائلته وحرصَ على تربيتهم مع أبنائه الثمانية.

في نهاية العقد الثالث من القرن الماضي، كانت الأيامُ تمرُّ أليمةً وصعبةً على جميعِ أهل بلاد الشامْ وخاصةً أهلُ فلسطين الحبيبة، وكان الفلّاحون في فلسطين يعكفون على زراعة الأرض وبيع منتجاتهم في السوق الفلسطينية لهدف تأمين الحياة الكريمة لأبنائهم، وكانوا يحرصون على نقل المعارف في مجال الزراعة لأبنائهم، غير أن أكثرُ ما كان يستحوذ على تفكير الفلاحين حينها هو تأمينُ التعليم لأبنائهم حتى لو كلفهم ذلك الغالي والنفيس. من هنا كان جُلُّ اهتمام الحاج عبد الكريم الريناوي هو تعليم أبنائه وأبناء أخيه.
تلقى الحاج محمود الريناوي تعليمه في المرحلة الابتدائية في بلدة صفورية في المدرسة المحلية، ثم ما لبث أن التحق بالمدرسة الحكومية التي كانت الحكومة الفلسطينية حينها قد شيدتها لأهالي بلدة صفورية وكان ذلك قُبيلَ النكبة السيئة الذكر سنة 1948 بعامٍ أو اثنين.

خرج الحاج عبد الكريم الريناوي من بلدة صفورية عام 1948 كما خرج معظم أهل القرى والبلدات من فلسطين بناءً على توجيهاتٍ أخوية من جيش الإنقاذ العربي، وكانت النصائحُ حينها أن اخرجوا حفاظاً على أرواحكم وأرواح أبنائكم ونحن سوف نقوم بحماية ممتلكاتكم وأراضيكم ونمنع عنها توغُّل العصابات الصهيونية واحتلالها للأرض. بيدَ أن التوجيهات التي أُعطيت للفلاحين والأهالي كانت لا تعدو كونها آمالٌ وأُمنياتٍ صاغها من صاغها، ثم حينَ حانت ساعة الصفر وكانت العصاباتُ اليهودية قاب قوسين أو أدنى من أراضي الفلاحين، انسحبَ جيشُ الإنقاذ ذاك، وكان كلما سُئلَ قائدٌ من قادة الجيش عن السبب كان الجوابُ دائماً ” ماكو أوامر “.

خرج الحاج عبد الكريم الريناوي ومعه أحد عشر طفلاً وزوجته وامرأةً عجوز كانت تُعرفُ بحكمتها ونفاذ بصيرتها وحبّها للجميع، هذه المرأة هي عايشة الحسين رحمها الله. كان مجموع من كان مع الحاج عبد الكريم الريناوي ثلاثة عشر شخصاً وهو في الخمسين من عمره. تناقلت الأخبار عن احتلال العصابات الصهيونية لمعظم البلدات والقرى وراح الحاج عبد الكريم الريناوي يُلملمُ عائلتهُ الكبيرة كل يوم ويتوجه شمالاً نائياً بعائلته عن المخاطر المحدقة حتى وصل إلى بلدة بنت جبيل في جنوب لبنان.

كان الحاج محمود الريناوي ابن التسع سنين حينها يحاولُ أن يستقرأ الأحداث والمصائب التي تحيطُ به وبعائلته، غير أن طفلاً في ذلك العمر لم يكن ليفقه كثيراً مما يدور حوله. كان يسألُ أباهُ دائماً عن تفسيرٍ لما جرى ويجري، غير أن أباه كان يرمُقهُ دائماً بنظرةٍ مكفهرَّةٍ ويقولُ له جملةً واحدة ” اسكت يا ولد، يا باي ما أكثر حكيك، هو أنا ما ناقصني إلا مفعوص مثلك يسألني شو عمبصير!!! أي هي حكومتنا مش فاهمة شو اللي عمبصير بدك ياني انا أفهم؟؟؟ “.

بقي ذاك السؤالُ هاجساً ملازماً للحاج محمود الريناوي طيلةَ طفولته، وعكف مذ كان طفلاً حتى بلغ الشباب على فكِّ طلاسمِ تداعيات خروجه وأغلب أهل فلسطين من بلدهم. ” يا ولدي، صحيحٌ أن الحقيقة موجعة، لكن يجب أن تعرف أن أهلنا لم يخرجوا من فلسطين بملء إرادتهم ولم يكن لديهم الخيارُ في المقاومة وخصوصاً الفلاحين منهم. يا ولدي يجبُ أن تعلم أنَّ أحداً من أهلنا لم يبِعْ شبراً من أرضه قبل أن يخرجْ. وعليك أن تعي أن فلسطين بيعت كما يُباعُ اليوم ما تبقّى من كرامة الأُمة … ” هكذا كان جوابهُ رحمه الله دائما كلما سألته عن أسباب خروج أهلنا من فلسطين.

انتقل الحاج محمود الريناوي من بنت جبيل إلى بلدة القرعون جنوب لبنان، حيث كانت هيئة الأمم المتحدة قد أعدّتْ مخيماتٍ للاجئين عن فلسطين، وهناك كانت الظروف أصعبُ من أن تُوصفْ وأقسى من أن تُحتملْ. لم تكنْ أبسطُ متطلبات الحياة موجودةً في تلك المخيمات ولم يكن لدى اللاجئين مأوىً غيره. بقي الجميع في تلك المخيمات ما يُقاربُ السنتين، كان يصفها لي الحاج محمود الريناوي رحمه الله على أنها كانت قطعة من الجحيم بالرغم من البرد القارس الذي كان في القرعون.

بعد ما يقربُ السنتين في القرعون، قررت هيئة الأمم المتحدة توزيع اللاجئين على مخيماتٍ في شتى أنحاء لبنان، فانتقل الحاج محمود الريناوي مع العائلة الكبيرة إلى مخيمٍ في شمال لبنان في منطقة نهر البارد، وكان قد تم تجهيز مخيم للاجئين هناك عُرفَ في ما بعد بمخيم نهر البارد.

تلقى الحاج محمود الريناوي تعليمه الإعدادي في مدارس ما أصبح يعرف بهيئة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ” الأنروا “. لم يكن مخيم نهر البارد أفضلَ حالاً من مخيم القرعون، فمخيم نهر البارد كان قد شُيدت خيامه بمحاذاة الشاطئ وكانت الخيم المخصصة للتدريس تلامس مياه البحر تماماً. لك أن تتخيلَ كم مرة ارتفع منسوبُ المياه في البحر الملاصق تماماً لخيم التدريس، وكم من مرةٍ غرق الطلابُ وكراريسهم وأفكارهم البريئة وطموحاتهم الواعدة في ذلك البحر العميق.

لم يكن الكثيرُ من أهل المخيم يفقهون القراءة والكتابة حينها، وكان من يعرف القراءة والكتابة قلةٌ قليلة من أبناء المخيم، فما كان من الأنروا إلا أن قامت بتوظيف الشباب الصغار السن في سلك التعليم وهم لم يتجاوزا السابعة عشر من عمرهم، وكان الحاج محمود واحدا ممن انخرطوا في سلك التعليم وقتها وهو يحملُ شهادة السرتفيكا والبروفيه فقط أو ما يُعرف اليوم بالصف السادس والصف التاسع.

التحق بالكلية الإسلامية في طرابلس وأكمل فيها تعليمه الثانوي وهو موظفٌ يُدرّسُ في مدارس الأنروا، ثم درس منهاج الدولة السورية للصف الثالث الثانوي وامتُحنَ فيما كان يُعرفُ حينها بشهادة المُوحَّدة السورية. حصل على شهادة الموحدة من سوريا بعد عناءٍ كبير في الحصول على إذن للدخول إلى سوريا حينها. لم تكنْ أحوالُ اللاجئين الفلسطينيين يوماً جيدة ولم تكن حتى تقاربَ المقبول للعيش الكريم.

كان الحاج محمود الريناوي يحرصُ دائماً على قراءة الصحف والمجلات اللبنانية ويلتهمُ الكتبَ المُتاحة بين يديه بُغية تحصيل المعارف والعلوم التي فاتته وهو يُعاني الحرمانَ واللجوء منذ نعومة أظافره. قرأ كل كتابٍ وقعت عليه عينه واستطاع استعارته أو حتى شراؤه. كان لديه شغفٌ باللغة العربية والعلوم الدينية، فلم يتركْ كتاباً أو مقالاً يهتم باللغة العربية أو الدين الإسلامي إلا وقرأه وأبحر فيه تحليلاً وتمحيصاً حتى صار علماً من أعلام اللغة العربية وعلوم الدين الإسلامي في وقتها بين أترابه وأبناء جيله.

استطاع الحاج محمود الريناوي بعد أن أصبح موظفاً لدى الأنروا ويحصلَ على الموارد المادية الكافية أن يلتحق بالجامعة العربية في بيروت في كلية الآداب. انتسب هو وثُلةٌ من أصدقائه إلى كلية الآداب في الجامعة العربية وحصل على شهادة البكالوريوس في الأدب العربي.

بعد حصوله على شهادة البكالوريوس في الأدب العربي استطاع أن يرتقي في سلك التدريس وأُوكلتْ له مهمة تدريس اللغة العربية والدين الإسلامي بعد أن كان قد أمضى سنين طويلة يُدرسُ الطلاب اللغة الإنكليزية والرياضيات التي كان نابغاً فيها ومتفوقاً على أقرانه.

مرّت السنون قاسيةً على الحاج محمود وجميع الشعب الفلسطيني في فترة الستينات من القرن الماضي وذاقوا فيها كل صنوف مرارة العيش وصقلتهم المحنة حتى أصبحوا رجالاً أشداء ثم ما لبثت لقمةُ العيشِ والحفاظ على العوائل أن أجبرتهم أن يخوضوا غمار كل صعبٍ وعنيد، فقد كان الحاج محمود الريناوي إلى جانب شغفه باللغة العربية، كان ليه طموحٌ تجاريٌ كبير، فقد افتتح في الستينات مخبزاً وكان يُديرهُ بنفسه ويتابعَ كل تفاصيله.

وبالرغم من كل ذلك، كان وَلعُ الحاج محمود الريناوي بالأرض لا يضاهيه أي شغف. في مخيم نهر البارد وبالقرب من المدرسة التي كان يُدرِّسُ فيها كانت له قطعةُ أرضٍ يدأبُ على زراعتها وحرثها بنفسه ثم يستمتعُ بما يجنى من ثمارها وخضرتها واستمرَّ كذلك حتى آخر عمره.

في مطلع السبعينات من القرن الماضي انتقل الحاج محمود الريناوي وإخوته وأخواته بعد أن أصبحوا رجالاً مسؤولين عن عوائل كبيرة، انتقلوا من مخيم نهر البارد إلى مخيمٍ آخر هو مخيم البداوي والذي يبعد بضع كيلو مترات شمالاً عن مدينة طرابلس اللبنانية. في مخيم البداوي التحق الحاج محمود الريناوي بمدارس الأنروا وأكمل مشواره في تدريس اللغة العربية والدين الإسلامي. ولم ينسَ طبعاً الأرض التي يعشق زراعتها وعبقَ أريجها، فكانت له قطعة أرضٍ متاخمة لمدينة البداوي ثم قطعة أرضٍ في مخيم البداوي وزرعهما ممّا لذَّ وطاب ويروي حبه كفلاحٍ أصيلْ. كان يُعرفُ الفلّاح محمود الريناوي بأنه أشهر تاجر للملوخية في طرابلس.

أكمل التاجرُ الحاج محمود الريناوي مسيرته في التجارة في مخيم البداوي، فأنشأ مخبزاً هو الأول في مخيم البداوي، ثم أسس مصنعاً لصنع البوظة ” الآيس كريم “، ثم أسس مصنعاً للحجر والسيراميك للأرضيات وكان يُديرُ كل ذلك من فجر كل يوم قبل أن يبدأ يومهُ كمُعلّم في مدارس الأنروا وفي الوقت المتبقي من نهاره بعد أن يفرغ من مهنة التدريس. أضف إلى ذلك أن الحاج محمود الريناوي كان وعلى مدار ثلاثين عاماً يدأب على استثمار بساتين البرتقال وكروم الزيتون، وكان من أشهر تجار الزيت والزيتون في طرابلس، وكان يصنِّعُ الصابون من زيت الزيتون. لم يكتف التاجر محمود الريناوي بذلك، بل كان يُصنِّعُ العصائر وعلى رأسها عصير التوت الذي ما فتِئَ يبيعه في شهر رمضان على مدى عشرين عاماً أو أكثر .

كانت تربطُ الحاج محمود الريناوي علاقات محبة وأخوة بكل من عرفه وجالسه، وكانت له علاقات متميزة ووثيقة مع بعض الشخصيات اللبنانية المعروفة أمثال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق المرحوم رشيد كرامي وأخوه رئيس الوزراء الأسبق عمر كرامي ورئيس المحاكم الشرعية في لبنان الشيخ مُفيد شَلقْ رحمه الله، والكثير من المشايخ والوزراء والنواب والشخصيات المعروفة على الساحة اللبنانية.

ترأّسَ الحاج محمود الريناوي لجنة المساجد والشؤون الدينية في مخيم البداوي لسنوات طويلة وكان يعطي اهتماما بالغاً بالمساجد ويعتني بإدارتها ويُديرُ حلقات التعليم في المساجد. من أهم إنجازاته رحمه الله في المساجد، الإشراف الكامل والمباشر على تجهيز مسجد على بن أبي طالب في مخيم البداوي بالكامل، ثم المتابعة الحثيثة والدقيقة لإعادة بناء مسجد القدس في مخيم البداوي وتوسعته، إلى التوصل إلى اتفاق مع المعنيين بضرورة تجهيز المقبرة الجديدة في مخيم البداوي التي دُفنَ فيها لاحقاً. جعل الله أعماله الخيرية في ميزان حسناته إن شاء الله تعالى.

كان الحاج محمود الريناوي من المؤسسين لرابطة أهالي صفورية الاجتماعية في مخيم البداوي، وكان عضواً في الهيئة الإدارية للرابطة لما يزيدُ على عشرِ سنين من حياته قضاها وهو يقومُ على خدمةِ أهالي بلدة صفورية في مخيم البداوي وأهالي المخيم بشكل عام.

من أجَلِّ الأعمال التي كان يعشقها الحاج محمود الريناوي هو إصلاح ذات البين بين الناس، فقد كان الحاج محمود الريناوي مقصد كل شخص لديه مشكلة عائلية أو اجتماعية، فقد كان يعطي من وقته الكثير رحمه الله لحل المشاكل بين الأزواج وبين الناس جميعاً، وكان يحرصُ دائماً على توفيق الأطراف ولمّ الشمل، وكان رحمه الله يُبغضُ أكثرَ ما يُبغضُ الانفصال أو الطلاقْ.

أنجب الحاج محمود الريناوي رحمه الله اثني عشر ابناً وابنة، سبعةً من الذكور وخمساً من الإناث. تزوج جميعهم في حياته ومات في عام 2010 بعد صراع طويل مع المرض، وهو راضٍ عن أولاده أجمعين.

رحمك الله أيها الفَلَّاحْ العاشق للأرض، يا والدي العزيز وطيّبَ ثراكْ وجعلك من أهل الفردوس الأعلى وجمعنا وإياك وأمَّنا الحبيبة في الجنة مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيرا.

تمت بفضل الله في 13-11-2017 عجمان – الإمارات العربية المتحدة

عباس محمود عبد الكريم علي الريناوي
المصدر : وصلة بين الماضي والحاضر