أرشيف المنتدى

ألحاجة إم حسين بين صدق المشاعر وحقيقة الأدراك .

ألحاجة إم حسين بين صدق المشاعر وحقيقة الأدراك .

كعادتي بين الحين والآخر أرغب بزيارة للعم أبوحسين ، لأستطلع من خلالها أحواله الصحية وأرائه السياسية . وتشتد بي الرغبة في زيارته ، كلما سمعت خبرا يتعلق بالقضية الفلسطينية ، أو نبأ عربي طفا على سطح ألأحداث العالمية .

الحديث مع العم أبوحسين له نكهته العربية ، تماما كما القهوة التي تقدمها لنا زوجته الحجة أم حسين ، والتي غالبا َما تقدم القهوة مصحوبة ببعض تعليقاتها اللاذعة سواء كانت سياسية أم إجتماعية ، تعليقات تساهم في سخونة الحوار مع العم أبوحسين ! فهي تمتلك سر مفاتيح إرتفاع وهبوط ضغط الدم الذي يعاني منه . إنها مزاجه المُتقلّب حينا ً وعلاجه الشافي أحيانا أخرى !

إبتسمت وأنا أتناول فنجان قهوتي من يد الحجة إم حسين بعد أن سألتها بمَكْر ٍ لا يخفى على العم أبوحسين : لماذا هذا الخلاف الدائم بينك وبين العم أبوحسين على أفضلية المحطات الفضائية ألأخبارية ؟! إبتسمت وهي تضع صينية القهوة على الطاولة ، وقالت بعد أن أفسح لها أبوحسين مكانا بجانبه : يا بني هو ليس خلاف بالمعنى المُتعارف عليه ! إنما عمّك أبوحسين يُصرّ على سماع محطة الجزيرة والعربية وشاكلاتها من المحطات ألأخرى ، وأنا أقول أن هذه المحطات أصبحت جزء من ألأنظمة العربية الفاسدة المتصارعة ! ولا تنقل لنا إلا ما يخدم مصالح أنظمتها الدكتاتورية ، لقد أصبحت هذه المحطات أداة دمار بعد أن توقعناها أدة بناء ! إلتفتُ إلى العم أبوحسين مُستكشفا ردّه ! ويبدو أنه أدرك فضولي فقال والبسمة تعلوه : يا بني ليس صيحا كلام الحجة أنديرة غاندي هذه ! لقد شرحت لها أكثرمن مرة بأن ألأستماع لنشراتهم ألأخبارية لا يعني بالضرورة تصديق ما يقولون ، بل هي من باب ألأطلاع على وجهات النظر المختلفة ، ولكنها لا تعرف أنصاف الحلول .. وعلى قول أخوانا المصريين يا أبيض يا أسود ! إلتقطتُ الحديت وبادرت الحجة إم حسين سائلا : يبدو أنك مؤمنة بأن هناك من المحطات ألأعلامية من ينقل الحقيقة المجرّدة للمشاهدين ؟! رمقتني الحجة إم حسين بنظرة ثابتة .. وقالت بعد أن ضبطت بأصابعها حِجابها المتماسك أصلا ً : إسمع يابني الصادق هو الله وحده ورُسله ، ولكنني أقيس الصدق في ألأعلام من خلال القضية الفلسطينية ، فهي درب الحقيقة وعنوانها ! وما أراه من هذه المحطات أنها خانت ألأمانة وتاجرت بفلسطين من أجل مصالحها الخاصة ، لذلك لا أثق بنشراتها ألأخبارية ولا أرغب بسماعها !

كلمات الحجة ، جعلتني أدرك أزمة العم أبوحسين الحوارية معها ! إلتفت وأنا ألوي برأسي تجاهه وقلت : وجهة نظر جديرة بالأحترام ..! وقبل أن أتابع قال العم أبوحسين بعد أن نفث دخان سيجارته : أيّّ هو إنتي إخترعتي يعني .. ما الكل بعرف ها الحكي ! إبتسمتُ محاولا.. أن لا ينقلب الحوار ساخنا ، ولكن العم أبوحسين لم يُمهلني فأضاف : لا نختلف في أن فلسطين مركز ألأختبار للنضال العربي .. وهي ضمير هذه ألأمة العربية والأسلامية ، ولكننا في زمن أصبح الكذب السياسي فيه مهنة وحرفة .. وإن ألأستماع لتلك المحطات تمنحنا قدرة أكبر على فهم سرّ الخلط والتخبط الذي يعيشه عالمنا العربي والقضية الفلسطينية ! وهنا لا بدّ من التوضيح في أن القضية التي نعاني منها جميعا ، ليست قضية صدق ، بل قضية إدراك والقدرة الفاعلة على ممارسة هذا ألأدراك ! والفرق كبير بينهما ! ثم إلتفت إليّ وقال : لا شك أن الشارع العربي بالفطرة يملك الصدق تجاه ما يعانيه من مشاكل إقتصادية وسياسية وإجتماعية ، لذلك وجدناه متفاعلا مع أول فرصة إحتجاجية جاءت لتريحه من أعبائه الكثيرة المتراكمة . لكن هل نجح في تحقيق ذلك ! وما الذي حصده ؟! إنها الفوضى والقتل والدمار للأوطان ، إنها الدكتاتورية بأسماءٍ وأثوابٍ جديدة ! وهنا سؤال يطرح نفسه : هل تصح الشكوك في صدقية حركة الشارع العربي وسعيه لأزاحة الظلم عن كاهله؟! الجواب ببساطة ، ليس هناك أدنى شك في صدق معاناة المواطن العربي وسعيه من أجل التغيير والجميع يؤيد هذا التوجه . إذن فالمشكلة ليست في صدق المواطن .. بل في إدراكه للطرق السليمة التي تحقق مُراده ، إدراكه للطرق القادرة على تحقيق الهدف من التغيير !! .

سادت لحظة صمت ، قطعتها بتوجيه حديثي للحجة إم حسين فقلت : أتفق مع العم أبو حسين فيما قاله يا حجة ، فنحن نعاني من أزمة إدراك أكثر من أزمة مشاعر ، فلو تصاحبت صدق معاناة المواطن مع ألأدراك السليم لطرق التغيير لما إستطاعت محطة الجزيرة القطرية ومثيلاتها من المحطات ألأعلامية أن تؤثر في حركة الشارع وأن تحيده عن مساره الصحيح وهدفه المنشود في الديمقراطية والحرية والعدالة ألأجتماعية ، ولما إستطاع الغرباء أن يجدوا لهم مكانا ً بيننا ليعملوا فينا القتل بدم بارد !! لذلك جاء الربيع العربي على هذا النحو المأساوي ! تمتمت الحجة إم حسين بكلمات غاضبة وهي تذكر محطة الجزيرة ومن ساندها ، ثم إلتفتت إلى العم أبوحسين وقالت : يعني يا حج كان لأزم تحصل كل هالمأسي والقتل والدمار والبهدلات منشان هالرؤساء والملوك والقيادات العربية يقتنعوا بأن هناك إنتهاك واضح لحقوق ألأنسان وظلم قاسي وظالم يعيشه المواطن ، أيّ كمان همّ إيخافوا ألله بشعوبهم !! أعاد العم أبوحسين فنجانه إلى الطاولة بعد أن رشف ما تبقى فيه من قهوة وقال بلهجة العاتب : وبعدين معك يا حجة ، إمبارح سألتيني هذا السؤال وجاوبتك عليه !! فقاطعته الحجة مستدركة : بعرف .. بس إشي بقهر والله ! فإنتهزت الفرصة وقلت : بصراحة يا عم .. أنا أود سماع رأيك بهذا الخصوص فهل شرحت لي وجهة نظرك ؟ أطفأ سجارته التي شارفت على ألأنتهاء ثم أخذ رشفة من كوب الماء الذي أمامه وقال : يا بني نحن نعيش في عالم عربي ، الرئيس فيه والملك لم يأتوا علينا من خارج الوطن .. ولم يهبطوا علينا من السماء ! إنهم من نسيج هذا الشعب المليء بالأمراض الثقافية والموروثات الخاطئة . ثم نحن في عالم يُُصنّف بالثالث .. ولم يحصل أن سمعت أن جاء رئيس أو حاكم من العالم الأول ليكون رئيسا على شعب من العالم الثالث !! فالرئيس أو الملك أو ألأمير أو السلطان جزء من التركيبة الثقافية للعالم الثالث , فالخطأ الصادر سواء من القيادة أو من الشعب متشابه في مصادر جذوره الثقافية ، فالظلم والأستعباد والدكتاتورية التي نطالب جميعا بإنتهائها ، هي ليست صفات أو أخطاء تُمارس من قبل الرئيس أو الملك أو المسؤول فحسب ، بل هي نهج ثقافي نمارسه جميعا في أكثر من زاوية من زوايا حياتنا اليومية ! وبقراءة سريعة لمدارسنا ومصانعنا ومؤسساتنا وشركاتنا ومعاملنا وحتى بيوتنا نلاحظ كم هي مُتفشية بيننا صنوف القهر والظلم والدكتاتورية ! وحتى مثقفوا العالم الثالث يقعون تحت تلك المعادلة الفكرية لنهج المفاهيم في العالم الثالث ، ومن يحاول منهم ( مثقفوا العالم الثالث ) أن يصنع لنفسه عالما آخر بعيد عن معانات جذوره المتأصلة ، فهو إمّا حالم ٌ لا يعيش واقعه ، وإمّا عاشق ٌ لوهم السلطة الزائف !

في مفاهيمنا الخاطئة تكمن أسس ألأدراك لطرق التغيير الحقيقي الذي نأمله ، ولن تفلح طُرُق القتل الجماعي التي نشهدها في الوصول لما نريد ! وحده السعي الحواري الجاد ولا شيء غيره ( وإن طال أمده ) بين القاعدة والهرم ، بين الشعب وقياداته ، بين الحكومة والمعارضة , بين المثقف والمثقف ، بين العامل ورب العمل ، بإختصار .. الجميع مُطالب برفع شعار ألأدراك لحتمية الحوار من أجل إستنباط الحلول الناجعة في رسم الخطوط الصحيحة لمسيرة ألأصلاح الحقيقي المنشود .

إن رأس الفتنة وفسادها القاتل تكمن في كل من يدّعي .. مجموعة كانت أم فردا ً حزبا أم تنظيما ً , بأنه يملك الحلول السحرية لمشاكل الوطن والمواطن , مُسْتغلا بعض العقول المستفيدة والبسيطة ، ليمارس نزعة السلطة التي تتملّكه بإسم التغيير !!.

إن الوطن بحاجة لجميع جهود أبنائه من أجل بناء الديمقراطية والحرية والعدالة ألأجتماعية . أما أن يتقاتل أبناء الوطن الواحد بإسم الديمقراطية .. ثم يستنصرون على بعضهم البعض بالغرباء !! فهو تسفيه ٌ للمطالب المُحقة وصراع على السلطة لا تخدم نتائجه إلا الغرباء .. وستبقى شعارات الديمقرطية والحرية حلم لا نعيشه .. وأداة لممارسة القتل الجماعي !!

وقبل أن يلتقط العم أبوحسين أنفاسه ، وضعت الحجة يدها على ركبته وهي تبتسم وقالت : خليني أقوم أعملّكوا ركوة قهوة وعندما أعود بدّي أسلك يا حاج سؤال إمحيّرني من زمان !

إلتفتَ العم ابوحسين إليّ وكأنه يبحث عن منقذٍ له من أسئلة الحجة التي لا تنتهي ! نهضت من مكاني وقلت : أما أنا فإسمحوا لي بالمغادرة ، وأرجوا أن لا أكون قد أثقلت في زيارتي لكم !

وقف العم أبوحسين .. وكعادته في الحفاظ على العادات العربية الأصيلة قال : أهلا وسهلا يا إبني ، البيت بيتك .. بتشرّف في أيّ وقت ..

ولنا لقاء أبورياض