الشتات الفلسطيني

ياسر عرفات الصورة الرمز على جدران المخيمات

بعد قرابة الثمانية أعوام على رحيله المليء بالألغاز، يبقى ياسر عرفات رمزاً لنضال شعب ما زال يكافح من أجل استعادة حقوقه. هو رمز يتبدّى على جدران المخيمات الممتدة بين الداخل الفلسطيني ودول الشتات، وخصوصاً في لبنان، حيث ارتبط اسم ياسر عرفات بهذا البلد الذي احتضن القضيّة الفلسطينية منذ بداية النكبة، وما زال حتى اليوم مأوى لنحو ثلاثمائة ألف لاجئ فلسطيني ينشدون تلك الأغاني التي كتبها ذات يوم الشاعر سعيد عقل ولحنها الأخوان رحباني وغنَّتها فيروز من “جسر العودة” إلى “سنرجع يوماً” و”القدس في البال”.. وخلفهم وجه “أبو عمار” المبتسم تارة والغاضب طوراً.

ولعلّ صورة ياسر عرفات حاضرة في وجدان ثلاثة أجيال متعاقبة، جيل التحرُّر الوطني، جيل الهزائم والخيبات العربية، وجيل “الربيع العربي”. وربما تختلف الصورة بين من ناصر عرفات حتى العشق ومن خاصمه حتى الكره. فهذا يتذكره مقاتلاً بنظارة سوداء في جبهات القتال في الستينات، أو ثائراً حاملاً بندقيته وغصن الزيتون إلى الأمم المتحدة في السبعينات، أو “ختياراً” صامداً برغم الحصار حول مقرّه في مطلع الألفية الثانية، وذاك يتذكره موقِّعاً على معاهدة أوسلو ومتهافتاً على التفاوض مع العدو.. لكن الكل يتذكر تلك الصورة الأخيرة لعجوز مريض يستقل الطوّافة إلى باريس.. لتأتي بعد أيام الأنباء عن رحيل “أبو عمار”.

ومهما اتفق المرء مع ياسر عرفات أو اختلف معه، فإن المرء لا يجرؤ على إنكار أن هذا الرجل كان وما زال رمزاً للشعب الفلسطيني.. وهذا ما تنبض به المخيمات.

وقد يتساءل البعض لماذا يُخصَّص مشروع لما تمثِّله صورة ياسر عرفات من رمز وذاكرة؟ ولعلَّ الإجابة تكمن في السؤال ذاته، فتلك ظاهرة تستحق البحث، وإن وجدت مثيلاً لها في أصقاع العالم.. من صورة التقطها ألبيرتو كوردا للمناضل الأممي تشي غيفارا، مروراً بصورة الجنرال شارل ديغول وهو يدخل باريس المحرَّرة، وصولاً إلى صورة الشابَين التونسي محمد البوعزيزي والمصري خالد سعيد اللَّتين غدتا رمزاً لربيع الشعوب العربية.

ويُضاف إلى ذلك، أن عرفات التصق التصاقاً وثيقاً بلبنان، منذ انطلاق الكفاح الفلسطيني المسلَّح في الجنوب، مروراً بالحرب الأهلية، وصولاً إلى مغادرته هذا البلد إبان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.

من هو ياسر عرفات؟

هو محمد ياسر عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني (24 آب 1929 – 11 تشرين الثاني2004). سياسي فلسطيني ورمز لحركة النضال الفلسطيني من أجل الاستقلال. ولد في القاهرة، وكان الولد السادس لأسرة فلسطينية تتكوَّن من سبعة أفراد. في سني صباه وشبابه تردَّد على بعض المنفيين الفلسطينيين، وأصبح مقرَّباً من أوساط المفتي أمين الحسيني الذي كان منفياً في القاهرة، كما تعرَّف في تلك الفترة على القيادي الفلسطيني البارز عبد القادر الحسيني.

انتُخب في العام 1952 مع صلاح خلف (أبو إياد) لرئاسة اتحاد الطلاب الفلسطينيين في القاهرة. وخلال العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، تجنَّد لفترة قصيرة في الوحدة الفلسطينية العاملة ضمن القوات المسلحة المصرية برتبة رقيب، وبعد تسريحه هاجر إلى الكويت، حيثُ عمل هناك كمهندس، وبدأ في مزاولة بعض الأعمال التجارية.

في الكويت أتى له ولبعض المغتربين الفلسطينيين، بعد دراسة الحال التي وصلت إليها القضيّة الفلسطينية، تأسيس حركة تحرر وطني فلسطيني جديدة، حيث قام في 10 تشرين الأول عام 1959 مع خليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) وخالد الحسن (أبو السعيد) وفاروق القدومي (أبو اللطف) بتأسيس حركة “فتح”، وهي اختصار لكلمات حركة تحرير فلسطين بشكل مقلوب.

بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية على يد أحمد الشقيري في العام 1964، سعى أبو عمار لتكريس استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، فأطلق مقاومة مسلَّحة ضد إسرائيل، وقام بتجنيد الرأي العام العربي لصالح القضية الفلسطينية.

وفي الأوّل من كانون الثاني عام 1965 بدأت العمليات المسلَّحة لحركة “فتح”، حيثُ تمَّت محاولة تفجير نفق عيلبون. وبعد ذلك سرعان ما اندلعت حرب العام 1967 التي كان لنتائجها تأثير كبير على الثورة الفلسطينية بعد الهزيمة المرَّة التي أدت في المحصلة إلى احتلال إسرائيل لرقعة واسعة من الأراضي العربية ومن ضمنها الضفة الغربية وقطاع غزة.

وبعد الصعوبة التي واجهتها حركة “فتح” في القيام بعمليات انطلاقاً من الأراضي المحتلة، بدأت الحركة بتأسيس قواعدها على خطوط التماس المواجهة للضفة الغربية بموافقة الأردن، حتى العام 1970 حين اندلعت مواجهات بين المقاومة والجيش الأردني في ما سُمِّي بـ”أيلول الأسود”. وكان وقتها عرفات قد انتُخِب رئيساً لمنظمة التحرير. إثر ذلك، خرج عرفات ورجاله من الأردن متوجهين إلى لبنان، متخذاً من الجنوب قاعدة لانطلاق العمليات الفدائية ضد إسرائيل.

في تلك الفترة، دخل عرفات على خط الصراع السياسي في لبنان، الذي انفجر حرباً في العام 1975. وبعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، غادر أبو عمار لبنان حيثُ استقرَّ في تونس، مشرفاً على الانتفاضة الأولى في أواخر الثمانينيات، إلى أن دخلت المنطقة عصر مفاوضات مدريد التي انتهت إلى توقيع اتفاق أوسلو مع إسرائيل في العام 1993، والتي مهَّدت لتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية التي ظل عرفات رئيسها متنقلاً بين أوصالها المقطَّعة في الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى توفي في العام 2004، وسط شبهات في أنه تعرض للتسميم من قِبَل الإسرائيليين خلال الانتفاضة الثانية في العام 2000.

ياسر عرفات الصورة الرمز على جدران المخيمات

ياسر عرفات الصورة الرمز على جدران المخيمات

طريقة التصوير

لا يخلو مخيم من مخيمات لبنان من صورة لياسر عرفات على خلفية المسجد الأقصى وهو يبتسم ويرسم بيده علامة النصر. فتلك علامة أمل لا يخبو في الوصول إلى الهدف مهما طال الطريق.

ولهذا فقد قام هذا المشروع بجولة على مخيمات الشتات الفلسطيني في لبنان والمنتشرة من أقصى هذا الوطن إلى أدناه. من مخيم عين الحلوة والمية ومية والبص والبرج الشمالي والرشيديّة جنوباً، مروراً بصبرا وشاتيلا ومار الياس وبرج البراجنة في قلب العاصمة، إلى مخيم الجليل في البقاع وصولاً إلى مخيم البداوي شمالاً، فيما تعذر الدخول إلى مخيم نهر البارد، حيثُ الإجراءات الأمنية المشدَّدة، تمنع أي شخص من دخول هذا المخيم ما لم يحصل على تصريح خاص من الجهات العسكرية المختصة، بالنَّظر إلى حساسية الموقف في هذا المخيم الذي شهد معارك عنيفة بين الجيش اللبناني وتنظيم “فتح الإسلام” في العام 2007.

وكان اللافت في تلك الجولة على المخيمات، أن مخيَّم ضبيه في منطقة المتن الشمالي، وخلافاً لباقي المخيمات التي شملتها الجولة، قد خلت جدرانه من أي صورة لعرفات. وهو أمر يعود إلى أن هذا المخيم لم يَعُد مخيماً بكل معنى الكلمة، بعد اقتحامه من قِبَل أحد الأحزاب اليمينيَّة في العام 1976، فبات بقعة تعيش فيها عائلات فلسطينية إلى جانب عائلات لبنانية وافدة. ولم يبقَ من رمز يدل على هوية هذا المخيم سوى علم وكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين “الأونروا” المرتفع فوق أحد مبانيه، وإن كان ثمة من يقول إن صور ياسر عرفات ما زالت معلقة على الجدران داخل العديد من المنازل فيه.

الصورة تحوّلت إلى رمز وأيقونة

تنتشر صور أبو عمار في كل مكان داخل المخيمات، من جدران الشوارع، إلى المساكن والمتاجر، حتى يخال زائر المخيم أن طيف عرفات يلاحقه في كل مكان. تبدو الصورة كأيقونة دينية تقوي إيمان اللاجئ الفلسطيني بأنه سيعود يوماً إلى داره. ومعها يتحوَّل القائد إلى أيقونة، وتلك خاصية تميَّز بها ياسر عرفات عن غيره من قادة النضال الفلسطيني _ كجورج حبش، ووديع حداد، وأحمد ياسين، وغيرهم_ ذلك أن أبو عمار كان الملهم الأول للثورة، بعدما حوَّل الشعب الفلسطيني في الشتات من لاجئين إلى أصحاب قضية، فضلاً عن شخصيته الكاريزمية التي لا يختلف خصم أو حليف على حضورها.

فلياسر عرفات يعود الفضل، بحسب جورج شتاين، صاحب دار بالميرا الألمانية للنشر، في إنقاذ القضية الفلسطينية من أن تتحول إلى مجرد قضية لاجئين بعد النكبة عام 1948، فقد باتت القضية معه قضية شعب يناضل من أجل حق تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة، وليست مجرد قضية لاجئين مشرَّدين. وربما هذا ما يفسر ذلك الخبر الذي نشرته صحيفة “معاريف” ذات يوم من عام 2011، بأن وزارة التربية الإسرائيلية تُزيل صور عرفات والعلم الفلسطيني من جميع الكتب التعليمية في المدارس العربية في أراضي العام 1948.

01-05-2013
تحقيق وحوار/ مصطفى ابو حرب

مقالات ذات صلة