المقالات

تاريخ نهضة مصر وتناقضاتها الراهنة

تاريخ نهضة مصر وتناقضاتها الراهنة

اسم الكاتب : علي جرادات

تاريخ إدراج المقال : 2013-11-20

مشاهدات : 16

بات واضحاً أن السلطة الانتقالية في مصر آخذة، وإن ببطيء يشي بحذر وربما بعدم رضا بعض أطرافها، بالاستجابة للإرادة الشعبية المصرية المطالبة بتنويع جهات التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني المصري، وبعدم بقاءه مركَّزاً على، أو محصوراً في، التعاون القائم مع الدول الغربية ومع الولايات المتحدة منها بالذات. ولعل في الزيارات الشعبية والسياسية والعسكرية والأمنية المتبادلة وعالية المستوى بين مصر وروسيا ما يشي بأن ثمة نقلة نوعية تحدث على هذا الصعيد. أما لماذا تحدث، وإلى ماذا تحيل، وما هي تناقضاتها ودلالاتها؟

منذ ثورة 25 يناير، عموماً، وبعد موجتها الثانية في 30 يونيو، خصوصاً، تعمق وعي الشعب المصري بمحورية الاستقلال والسيادة الوطنييْن وأهميتهما إن بالنسبة للمسألة الديمقراطية بشقيها السياسي والاجتماعي، أو بالنسبة لمسألة انتقال مصر من دولة “عالم ثالثية” تابعة إلى “دولة صاعدة”. بهذا صار الشعب المصري لاعباً سياسياً أكثر يقظة وأقل قابلية للاستخدام والتوظيف، وبالتالي أكثر، (وهنا الأهم)، حسماً في رسم السياسة المصرية داخلياً وخارجياً. وبالنتيجة انتقل الداخل المصري من حالة كان بوسع الخارج الإقليمي والدولي تحريكه كبيدق شطرنج، إلى حالة قادرة على اجبار هذا الخارج على التوافق مع مشروعية مطالبه، بل وصار لزاما على أي سلطة مصرية الاستجابة لهذه المطالب في بناء السياسة الخارجية حتى وإن كانت، أي السلطة، كلها أو بعض أطرافها، غير مقتنعة بذلك، أو غير متحمسة له، أو غير قادرة على تحمل استحقاقاته، أو غير قادرة على مغادرة مألوف وبيروقراطية سياسة خارجية طال أمدها لأربعين عاماً، وغيبت حقيقة تاريخية جوهرها أن مصر في تاريخها الحديث والمعاصر لم تنهض يوماً إلا عندما لم يكن النظام الدولي بقطب واحد وأنها لم تنهض إلا في مواجهة بعض أو كل قوى الاستعمار والسيطرة والنهب الغربية.

فحتى محمد علي حاول الاستفادة من تناقضات ضواري قوى الاستعمار الغربي المسيطرة في زمانه، حيث تحالف مع فرنسا ضد بريطانيا، لكن الأولى خذلته عندما أدركت توجهاته الاستقلالية. وبالمثل استفادت مصر تحت قيادة عبد الناصر من نظام “ثنائية القطبية” والصراع بين المعسكرين “الغربي” و”الشرقي” بعد الحرب العالمية الثانية، بل وانخرطت في مشروع باندونج وعدم الانحياز، (1955-1970)، حيث كانت في مقدمة دول ما يسمى “العالم الثالث” المناضلة من أجل مستقبل أفضل ونظام دولي أقل اختلالاً أو أكثر توازناً. وهو ما أتاح لمصر- برأي المفكر المصري سمير أمين- “أن تحقق انجازات تنموية فعلية: التوسع في التعليم والصحة وغيرهما من الخدمات العامة، والتصنيع وضمانات العمالة، وإمكانية الحراك الاجتماعي لأعلى”، ما حافظ-برأيي- على الاستقرار الاجتماعي والأمني وعلى تعزيز المنعة الوطنية في مواجهة التحديات الخارجية، وما أكثرها، وأولاها تحدي الصراع مع إسرائيل، بل وتحقيق انجازات وطنية وقومية عكستها المبادرات المصرية الوطنية المستقلة والمواقف المناهضة للتدخل في استقلال الدول وسيادتها واحتجاز تطورها واحتلالها بالقوة العسكرية أحياناً.

بالمقابل ترك نظاما السادات ومبارك، (وهما نظام واحد في الجوهر)، مصرَ لأربعين عاماً، (1970-2011)، نهباً لمصالح قوى الكمبرادور الطفيلية أو “رأسمالية المحاسيب” كما يسميها المصريون، ولأوهام نظرية “النمو” لأجل “اللحاق” المصممة- أساساً- لتلبية احتياجات منظومة النهب الليبرالية الجديدة المعولمة التي تقودها الولايات المتحدة.هنا لم تكتفِ تلك الردة المفروضة على الشعب المصري بضرب المنظومة الإنتاجية لمصر، بل “جرَّفت” أيضاً مؤسساتها السياسية والاجتماعية والثقافية الوطنية، وبثت بشكل ممنهج تصورات أيديولوجية لتغذية أوهام إمكان نهضة مصر بتركيز تعاونها السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني مع الولايات المتحدة التي يؤكد تاريخها أنها تسعى، ( في أقله منذ ورثت بريطانيا في قيادة قوى الاستعمار والسيطرة والنهب الغربية، فما بالك بعد أن انفردت في إدارة النظام الدولي)، إلى الحفاظ على مكانتها المميزة في السيطرة على العالم، وإلى منْعِ كل دولة “عالم ثالثية” لديها طموح ومقومات أن تصبح دولة “صاعدة”، ومنها مصر، من تحدي تلك السيطرة، بل وأنها تستخدم لتحقيق هذا الهدف – كما يرى سمير أمين أيضاً- “وسائل: السيادة على التطوير التكنولوجي، والقدرة على الوصول إلى الموارد الطبيعية، والهيمنة على المنظومة المالية العالمية، والهيمنة على توزيع المعلومات، واحتكار أسلحة الدمار الشامل”. هذا عدا استباحاتها الفالتة من كل عقال أخلاقي أو قانوني في ممارسة التجسس والتخريب الأمني وشن الحروب، المباشر منها وغير المباشر، للتحكم بهيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها وقراراتها وللمس بالحق الطبيعي للدول في الاستقلال والسيادة وامتلاك الطاقة النووية السلمية وتحقيق تنمية انتاجية مستقلة على جانبي الحداثة والتحديث.

لكن الشعب المصري بقواه الوطنية وحركاته الشبابية لم يقبل قط بقاء مصر في هذه الوضعية المفوتة والتابعة، حيث ظل يغلي كمرجل إلى أن انفجر في ثورة 25 يناير التي شكلت، بموجتيها، امتداداً لما سبقها في التاريخ الحديث والمعاصر من نضالات وحركات شعبية مصرية كبيرة، وقفزة نوعية، بل تاريخية، في سياقها، استعادت مصر بها توجهها نحو ممارسة حقها الطبيعي في الاستقلال والسيادة الوطنييْن بوصفهما المدخل الفعلي والشرط الذي لا غنى عنه لإحراز مكتسبات ثابتة ومتنامية في مجالات الديمقراطية والتقدم والعدل الاجتماعييْن، كأهداف لا يمكن الفصل بينها، رغم تشوش صياغتها بقصد حيناً وبجهل حينا آخر.

والمفارقة المحزنة، إنما الدالة على مصالح فئوية أو طبيقة ضيقة، أيضاً، هي أن ثمة بعض النخب السياسية المصرية ومن ألوان فكرية متنوعة ما زالت تصارع لأجل إعادة انتاج نظام مبارك وإبقاء مصر في دائرة التبعية للولايات المتحدة غير مدركة أن قطار الشعب المصري تجاوزها، وأن تحقيق أهداف ثورته المتعددة والمتكاملة هو السبيل الوحيد إلى نهضة مصر، وأن انتقالها من دولة “عالم ثالثية” إلى دولة “صاعدة” مشروط بالتطلع إلى الداخل أكثر من الخارج، وباستعادة توجهات بناء تنمية وطنية انتاجية مستقلة، وبتطبيق سياسات تحمي الأمن الغذائي، وباستعادة السيادة على جميع جوانب الحياة الاقتصادية، وعلى الموارد الطبيعية والأصول الوطنية، وأن تنويع جهات التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني المصري هو المدخل لكل ذلك. وهو ما يتناقض مع أهداف هذه النخب الراضية بنماذج نظريات “النمو” و”اللحاق” التي لا تلبي إلا احتياجات منظومة النهب الليبرالية الجديدة المعولمة التي تقودها الولايات المتحدة.

والمحزن والدال أكثر هو أن هذه النخب لا تريد الاعتراف بحقيقة أن ثمة معادلات دولية جديدة، وأن عالم القطب الواحد ينسحب من الواجهة لصالح حالة جديدة صارت الولايات المتحدة فيها قوة عظمى بين قوى أخرى، وأنها ما انفكت تعاني من ازمة اقتصادية بنيوية متفاقمة، ومن فشل متتابع لحروبها ولسياساتها الدولية على وقع حركات الشعوب ضد عولمة الليبرالية الجديدة المتوحشة، وأن كل هذا يفتح الباب واسعاً امام مصر وكل الشعوب والدول والأمم المفقرة والمضطهدة لتكسر طوق التبعية والنهب، وتستعيد استقلالها وسيادتها الوطنييْن، وتحدد خياراتها السياسية والاجتماعية بنفسها. كيف لا خاصة وأن مصر تملك كل مقومات النهوض؟ بل وكانت، (بكلمات سمير أمين): “أول بلد في أطراف الرأسمالية المعولمة يحاول الصعود. ففي بداية القرن التاسع عشر، وحتى قبل الصين واليابان بوقت طويل، تبنى محمد علي ونفذ مشروعاً لتحديث مصر وجيرانها اللصيقين في المشرق العربي (شمال شرقي أفريقيا والشام)……. ولا يمكن تحليل فشل تلك التجربة دون أن نأخذ في الاعتبار عنف العدوان الأجنبي على يد بريطانيا العظمى، القوة الأعظم للرأسمالية الصناعية في تلك الفترة”. وهو ما تكرر ضد تجربة عبد الناصر التحررية بعد رحيله، إنما على يد الولايات المتحدة .

مقالات ذات صلة