المقالات

الحرس || أسئلة إسرائيلية.. مقصورة

مثيرة رؤية ستة قادة لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، («الشين بت»)، يتحدثون بشكل علني وحر أمام الكاميرا. ومثير أكثر التقاط ما تؤشر إليه مواقفهم. في الجانب الأول، تفرض المقارنة نفسها على مشاهد عربي لا يمكنه، بإزاء ما يرى، إلا أن يسأل نفسه عن الأسباب التي تحول دون توفر قادة كهؤلاء في بلداننا، عقلانيون، بما أن العقلانية هي قبل كل شيء رؤية متفحصة، نقدية، للعالم وللنفس، وأصحاب كفاءة عالية بما يخص مهمتهم. لا يمكن للمشاهد العربي إلا أن يتذكر أن هؤلاء هم أعداؤه، لأنهم قادة أحد أجهزة إسرائيل الأكثر فعالية، لأنهم من نظَّم القمع في فلسطين، من أصدر الأوامر باغتيال المناضلين الفلسطينيين وبحملة «تكسير عظام الأذرع» الشهيرة أثناء الانتفاضة الأولى. ولكن هذه الوقائع تزيد من منسوب ذلك الشكل من «الإعجاب» المستند إلى الغيرة، إلى المقارنة مع الذات والتأسف عليها. وهناك بالطبع الصعيد الفردي، حيث يرى المشاهد شخصيات قلقة، بعيدة عن اليقينية الواثقة المنتجة للخطابية الجوفاء و… الكاذبة.

ولكن الجانب الثاني هو الأهم. تكشف مداخلات القادة الستة المعضلة العميقة والوجودية لإسرائيل. هم لا يتقصدون ذلك، وربما لا يعونه. فهم لا يضعون مصير بلدهم موضع بحث. لا كشرعية النشأة، ولا كحتمية المآل. هم يناقشون من ضمن دائرة القائم. يتأسفون لغياب الرؤية الإستراتيجية حول «الصراع» الفلسطيني ـ الإسرائيلي. قد يقول متشائل (بحسب «سعيد أبي النحس» رائعة الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي) «ولكنهم على الأقل يتساءلون». أسئلة لا تصل إلى نهاياتها، لا تذهب خلف معطيات العجز لتنبش أسبابه، بل هي تتجنب ذلك بشكل منهجي: ماذا لو لم يكن هناك رؤية ممكنة من دون القبول بتغيير أساس نشوء إسرائيل، وهي مشروع شديد الخصوصية، يمزج معاً مقاربة استعمارية استيطانية وعنصرية بغلاف يستلهم الخرافة بالدرجة الأولى، مرفوعة إلى مصاف الحقائق التاريخية المدعّمة بالإيمان الديني. ثم إسرائيل «مشروع»، وهذا بذاته إشكالية تضيء على مقدار الاصطناع أو الفبركة كما في كل مشروع. وهي مشروع جديد، وفي كل جدة قدر كبير من الهشاشة. وهي أخيراً مشروع يقوم على النزاع. وكان يجدر بأسئلة هؤلاء القادة أن تتطرق إلى ظاهرة لافتة: لم يُهزم الفلسطينيون كمطالبة وطنية تحررية رغم مرور 64 سنة على نشوء إسرائيل، وما يقرب من القرن على إقرار الفكرة نفسها (إذا اعتدّينا بمؤتمر بال الأول بسويسرا في 1897، يكون الزمن أكثر قليلاً، وإذا أبقينا على وعد بلفور 1917 نكون بصدد الاقتراب من المئة عام). لماذا لم يهزموا بينما تكاتفت كل الظروف ضدهم؟ هذا هو السؤال الأول والتأسيسي الذي يجدر به إقلاق راحة هؤلاء السادة. وبالتأكيد، فالجواب عليه ليس تقنياً (الفعالية القمعية و/أو الاستيعابية)، ولا هو سياسي بالمعني المباشر الذي يستعيد فكرة إسحاق رابين عن تسوية تاريخية ألقى بها الصهاينة المتشددون في المزبلة، باغتيال صاحبها أولاً، وبمجمل المسار الذي ساد إسرائيل مذاك وحتى اللحظة ثانياً، والذي يسمى تأدباً «انحياز متواصل إلى اليمين» (وكأن المشكل يحل باليسار الاسرائيلي الصهيوني!). ثم أن تلك التسوية، لو نجحت ـ وعلى فرض ـ لم تكن بقادرة على محو الظلم التاريخي الذي يتمثل بسلب فلسطين وتهجير أبنائها. ولكانت ربما وفَّرت إطاراً مؤقتاً لمرحلة، مرشحة حقا لأن تكون قصيرة. وعلى أية حال، فليس من العقلانية البحث في افتراضات غير متحققة ولا يوجد مؤشرات على احتمال تحققها. فقد عُقدت اتفاقيات أوسلو، ثم بدأ الطرف الإسرائيلي يستدرك، ويعدل ويؤجل في التنفيذ، قبل اغتيال رابين وبعده، بوجود شريكه بيريز الذي راح يبرر التخلي المتدرج والعنفي عن بنود تلك الاتفاقيات وروحها، إلى أن ماتت. ولا يوجد اليوم أي أثر عليها سوى «السلطة الفلسطينية» التي حُوِّلت بحكم الواقع إلى إدارة محلية تساعد الاحتلال. وليس مصادفة أن يعود إلى البروز بقوة المشروع «الراديكالي» لدولة واحدة لكل قاطنيها، الذي لم يغب نظرياً يوماً. وهو في حقيقته محاولة لحل معضلة وجود خمسة ملايين مهاجر يهودي من كل أرجاء العالم، أتوا إلى فلسطين تباعاً، وانخرطوا في مشروع عدواني مجنون وغير قابل للحياة، اسمه إسرائيل. ذلك أن الفلسطينيين لن يرموهم في البحر!

يتأسف أحد قادة «الشين بت» في الفيلم أن جهازه لم يتمكن من توقع الانتفاضة الأولى، رغم أن تلك هي مهمته. لم يتوقع ولم يستبق. ويقول هو، كما رفاقه في الشريط الوثائقي وفي المهمة: «إسرائيل تربح كافة المعارك ولكنها لا تكسب الحرب». ألا يجدر هنا البحث عن السبب العميق للإقرار بالواقع هذا؟ يقول واحدهم: «نحن نمارس بصورة متواصلة التكتيك، وبغياب تام للاستراتيجيا». هل لأن الاستراتيجيا ستوصل إلى الاستحالة القائمة فعلا؟ جميع هؤلاء الستة كانوا ضباطاً في الجيش الإسرائيلي لسنوات، ومعظمهم كان يمكنه الطموح لدور سياسي كبير. جميعهم يؤكد فشل سياسات الجيش والسياسيين الإسرائيليين معاً، نقد لا يندرج في مجال التنافسات بين الاجهزة أو الحزازات الشخصية، ولا يجب ان يجعل العرب ينامون على حرير. يقول أكثر من واحد منهم، إن الجهاز يحتك بالفلسطينيين، لأنه مكلف باختراقهم وباستجواب من يُعتقل منهم. وهذا بخلاف الجيش الذي يقصفهم عن بعد ولا يعرفهم، وبخلاف السياسيين الذين راحوا يلتقون بمسؤولي السلطة الفلسطينية فحسب، وهذا غير كاف للتعرف إلى الفلسطينيين الحقيقيين والى «دوافعهم». وصف التعذيب يتولاه آمي ايالون، أكثرهم سياسية، الذي امسك بجهاز الأمن الداخلي العام 1995 عقب اغتيال رابين، واستقال منه العام 2000 ليصبح بعد ذلك عضواً في «الكنيست» عن «حزب العمل»، منافساً لإيهود باراك بشدة على زعامته، مطلقاً «مبادرة سلام» مع سري نسيبة، ثم وزيراً بلا حقيبة العام 2007. يبدو متأثراً، يعرف أن المقياس الأخلاقي منتهك، ولكنه وفي الوقت نفسه «واقعياً»، مبرراً الأمر بالحاجة لاستنطاق «الإرهابي» لحماية أرواح إسرائيلية، عسكرية ومدنية.

ماذا خلف كل ذلك؟ فراغ كبير. لأن السيد أيالون وأقرانه يسجلون تكراراً عجز «الاغتيال الهادف» عن محو المقاومة الفلسطينية: «أسلوب وقائي، ولكنه غير فعال»، يقولون واحداً تلو الآخر. ما الأسلوب الفعال أيها السادة؟ يقول يوفال ديسكن، آخر قادة الجهاز الذي خرج إلى التقاعد العام 2011، «الاستمرار في الحوار»، ويبدو في ذلك مختبئاً خلف وهم، لعله يعرف أكثر من سواه مقدار شكليته. ألم يسمع هؤلاء بـ«الحق»؟ يشبه ديسكن في تمزقه تلك النكتة الفلسطينية التي شاعت اثر الانتفاضة الأولى والتي تقول إن الإسرائيليين يقتلون الفلسطينيين ثم يصرخون مطالبين ليس بسيارة إسعاف للقتلى والجرحى الذين سقطوا، بل بـ«طبيب نفسي»، لأن ما يقومون به يعذبهم، إنسانياً على المستوى الفردي، وسياسياً، لأنه يثير التساؤل حول مصير «الديموقراطية» الإسرائيلية.

ولا يعني ذلك أن التساؤل هو مجرد كذب وتمثيل وتبرئة سهلة للضمير. فقد نشأت حركة «الرافضين» (Refusnik) من قلب الجيش الإسرائيلي. وهناك كتاب جميل عن رفض طيارين إلقاء قنابلهم فوق مدينة صور في حرب 1982. وهي حركة توسعت تباعاً، وينتهي أعضاؤها في الأغلب الأعم مناضلون… ضد الصهيونية نفسها وإسرائيل، وأنصار للحل الوحيد الذي يبدو، للمفارقة، واقعياً: دولة واحدة، ينتهي فيها التفوق الإسرائيلي أو اليهودي ويصبح هؤلاء الذين جاؤوا إلى هذه الأرض، وذريتهم، كما يقول ميشيل فارشافسكي، (ابرز المناضلين المناهضين للصهيونية، مؤسس مركز المعلومات البديل Alternative Information Center الذي ما زال يعيش في القدس) يهوداً شرقيين، أبناء المنطقة بالتبني، حتى لو كانت أصولهم بولونية!

الفيلم الذي أراده مخرجه الإسرائيلي درور موريح، كمحاولة لإظهار وجه قادة الشين بت، وتجسيد ملامح شخصيات بشرية يخترقها القلق والتقلب (ما يراه كتحد كبير، لأن الجهاز وأصحابه هم تعريفاً «خفيون» ومقررون) انتهى في هذا الوثائقي – الوثيقة فيلماً سياسياً. سيذهب إلى «الأوسكار»، ونزل الى الصالات في الولايات المتحدة… وعرضته قناة «أرتي» في 5 آذار.

نهلة الشهال

السفير، بيروت، 6/3/2013

مقالات ذات صلة