أرشيف المنتدى

كمال حبيب || علمانية تركيا تلفظ أنفاسها

كمال حبيب || علمانية تركيا تلفظ أنفاسها (حوار)

Turkey-secularism.webp

رسالة الإسلام ـ عصام زيدان

تُثِيْرُ التجربة التركية -التي يقودها حزب العدالة والتنمية- كثيراً من الأسئلة, وتختلف حِيَالها وجهات النظر, كما تختلف الآراء حول مستقبلها, ومدى قدرة هذا الحزب على تغيير معالم الدولة العلمانية, وإعادة تركيا إلى المشرق العربي والإسلامي بدلاً من التوجُّه الغربي الأوروبي.

وفي هذا الحوار مع الدكتور كمال حبيب, الحاصل على دكتوراه العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة, وصاحب كتاب الدين والدولة في تركيا, والمتخصِّص في شئون الحركات الإسلامية وتركيا, نلقي بمزيدٍ من الضوء على هذه التجربة، وتفاعلاتها الاجتماعية والسياسية.

تسعى حكومة حزب العدالة والتنمية التركي إلى اللجوء دائماً إلى البرلمان لإحداث تغييراتٍ دستوريةٍ.. هل ترى أنَّ هذا الحزب يستطيع أن يحسم كافَّة معاركه مع المؤسسات العلمانية من خلال البرلمان؟

إنَّ لجوء حكومة حزب العدالة والتنمية إلى البرلمان للتصويت على مشاريع القوانين أو التعديلات الدستورية هو جزءٌ من الدستور التركي، فالتعديلات الدستورية أو مشاريع القوانين يجب أن تُعرض على البرلمان للتصويت؛ فإذا حازت أغلبية الثلثين فإنها تُقِرُّ دون عرضها على الاستفتاء العام، أو إعادتها لرئيس الجمهورية.

أما إذا حازت التعديلات على أقلِّ من ثلثي الأصوات فإنَّها تُعاد لرئيس الجمهورية ليُقَرِّرَ عرضها للاستفتاء العام أو إعادتها للتصويت في البرلمان.

وفي التعديلات الدستورية الأخيرة تمَّ عرضُ حزمة من التعديلات على البرلمانح؛ فصَوَّتَ لصالحها (336) عضواً من مجمل (550) عضواً هم أصل أعضاء البرلمان. وتطبيقاً لنَصِّ الدستور -والذي يَفْتَرِضُ حُصُوْلَ أي تشريع أو تعديل دستوري على (366) صوتاً لتمريره في البرلمان مباشرة- فقد تمَّ عرض التعديلات على رئيس الجمهورية عبد الله غول الذي لم يُعِدْهَا للبرلمان للتصويت، لكنَّه قرَّر عرضها للاستفتاء العام، وأعلنت اللجنة الانتخابية في تركيا فعلاً أنَّ الاستفتاء العام على حزمة التعديلات الدستورية سيتمُّ في شهر سبتمبر المقبل.

وبشكل عام.. تسعى حكومة العدالة والتنمية إلى تقوية المؤسسة البرلمانية؛ لأنها قلب النظام السياسي, ويبدو النظام السياسي التركي جامعاً بين خصائص النُظُمِ البرلمانية والرئاسية, ولكنَّه يتَّجه أكثر لمنح سلطاتٍ أكثر للبرلمان ولرئيس الوزراء.

في التعديلات الدستورية -المتعلِّقة بالمحكمة الدستورية، وتقليص دورها في الحياة السياسية وحظر الأحزاب- لم يحصلِ الحزب على الأغلبية الكافية, وسيلجأ غالباً إلى استفتاء شعبي، فهل -برأيكم- سيدعم الشعب توجُّهات العدالة والتنمية؟

سيصوِّت الشعب التركي بالطبع لصالح التعديلات التي تمَّ تمريرها في البرلمان، وهي تعديلات مهمَّة جداً، وافق البرلمان على (27) تعديلاً من مجمل تعديلاتٍ كانت تصل إلى (30) تعديلاً، وأهمَّ تلك التعديلات التي تمَّت الموافقة عليها هي تعديل تركيب المحكمة الدستورية العليا لتكون (11) عضواً بدلاً من سبعة أعضاء، يختار البرلمان اثنين منهم بالتصويت السري، والباقي يختارهم رئيس الجمهورية، وأن تكون ولاية عضو المحكمة (12) عاماً متصلة مدة واحدة بدون تمديد.

ومن التعديلات التي تمَّ إقرارها أيضاً: أن يكون قرار المحكمة بإغلاق الأحزاب السياسية بأغلبية الثلثين لأعضائها وليست بالأغلبية العادية -وهي نصف الأعضاء +1- وكما هو معلوم فإنَّ المدعَّي العام رفع قضايا أمام المحكمة الدستورية العليا بغلق أكثر من (25) حزباً أغلبها إسلامية وكردية.

ومن بين التعديلات أنْ يُحاكم العسكر أمام المحاكم الطبيعية العادية وليس أمام محاكم خاصة بهم، وكأنهم استثناء من بقيَّة الشعب التركي، وهذه التعديلات مطلوبة لكي تدخل تركيا الاتحاد الأوروبي, وهي تعديلات يوافق عليها الشعب؛ لأنها تذهب بالوضع السياسي من الطبيعة الاستثنائية للعسكر وللمؤسسة القضائية إلى نظام طبيعي تتجاور فيه السلطات، وتعمل بدون منح قوة غير طبيعية لهيئة على حساب بقية الهيئات والمؤسسات.

ولماذا هذا القبول العام والمستمر من الشارع التركي لحزب العدالة بصورة تكادُ تكون غير مسبوقة في السياسة التركية المعروفة بتقلُّباتها؟

إنَّ حزب العدالة والتنمية نجح مرتين في الحصول على أصوات الشعب التركي ليشكِّل الحكومة بمفرده؛ فقد نجح في الانتخابات البرلمانية عام 2002م، وحصل على (34%) من الأصوات, ونجح في الانتخابات البرلمانية عام 2007م، وحصل على (47%) من الأصوات، وهو بذلك أول حزبٍ تركيٍ يحصل في دورتين متتاليتين من الانتخابات على هذه النسبة منذ الخمسينيات أيام الحزب الديمقراطي الذي كان يقوده “عدنان مندريس”، وهو بذلك جعل هناك معنى للحياة السياسية في تركيا التي كان عدم الاستقرار والفوضى هو رائدها.

فلأول مرة يكون هناك استقرار سياسي، ويكون هناك تطوُّر اقتصادي جعل الاقتصاد التركي في المرتبة الخامسة عشر عالمياً، كما أنَّ دور تركيا كقائد في المنطقة والسياسة الدولية برز بشكل واضح، ولا ننسى الدور التركي في العلاقات مع سوريا ومع حماس ومع العالم العربي كلِّه، بل ومع اليونان التي زارها مؤخَّراً رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وبالطبع الدور التركي في العراق.

نحن أمام قوة سياسية كبيرة تتحرَّك كقوة مؤهَّلة للعب دور كبير في تشكيل مستقبل المنطقة.

كرؤية استشرافيَّة! هل سينجح حزب العدالة والتنمية في مسعاه لتقليص الوجود العلماني وتنفُّذه في الحياة السياسية التركية؟

إنَّ العلمانية في تركيا تلفظ أنفاسها؛ لأنَّها علمانية أصولية فاشية، لم تَعُدْ قادرة على الاستجابة لمتطلبات الحياة، وكما أشرت في كتابي الأخير “الدين والدولة في تركيا، صراع الإسلام والعلمانية”, أنَّ الدولة العلمانية التركية التي أسَّسها مصطفى كمال أتاتورك فشلت وسقطت كما سقطت ما يعرف باسم الجمهورية الثانية التي أسَّسها الرئيس التركي الأسبق تورجوت أوزال، وها نحن أمام جمهورية ثالثة يؤسِّس لها الرئيس التركي عبد الله جول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ومن معهم، فالعلمانية في تركيا لم تنجح إلا بقوة القمع والقهر، وبقوة الدساتير التي وضعها العسكر في مواجهة الإسلاميين والشعب، وعلى المستوى الأخلاقي فإنَّ العلمانية سقطت، بدليل أنَّ حزب الشعب الجمهوري العلماني وحزب الحركة القومية العلماني هم من قدَّموا للمحكمة الدستورية العليا عريضةً للاعتراض على التعديلات الدستورية الأخيرة، فهم ضِدَّ التحوُّل الإنساني الديموقراطي، وهم غير قادرين على حمل خطابٍ يتجاوب مع أشواق الناس للحريَّة والتطوُّر.

وهل ستقف المؤسَّسات العلمانية من هذه التعديلات موقف متلقِّي الضربات فقط دون ردٍّ؟

وهل يُمكِنُ اعتبار عصابة الارجينيكون أحد أوراق اللعب التي تلجأ إليها هذه المؤسَّسات -خاصة الجيش- لوقف إنجازات حزب العدالة؟

سيُحاكَم المتَّهمون في عصابة الإرجينكون وفق التعديلات الأخيرة أمام محكمة عادية وسيعاقبون، لكن تركيا عرفت دائماً ما نُطلق عليه نحن المتخصِّصين في الشئون التركية, بالدولة العميقة، وهي قوة خفية لا يراها الناس تظهر فجأة لتُحاول إثارة الفوضى بقتل السياسيين والقضاة أو غيرها من مظاهر الفوضى السياسية، وتلك كانت أداة فعلاً لمحاولة قتل رئيس الوزراء، وإشاعة الفوضى، ولكن تمَّ كشفها ومحاكمتها بدعم من الجيش؛ لأنه لم يَعُدْ مقبولاً أن تُدار الدول على طريقة عصابات المافيا بدون شفافية استناداً لقوة الجيش والعسكر.

بخصوص ما يُذكَرُ من إنجازات الحزب, هل ترونها متعلِّقة فقط بالدور السياسي, وتحريره من قبضة العلمانيين, أم أنَّ له أدواراً أكثر تميُّزاً في المجال الاجتماعي والديني والاقتصادي؟

إنَّ أجندة حزب العدالة والتنمية ليست دينية على الإطلاق, لكنَّها أجندة سياسية بامتياز، هم طبعاً يتحرَّكون في سياق حضاري عثماني يستبطن الدين، كما أنَّ أيديولوجية الحزب -والتي تعرف باسم الديموقراطية المحافظة- تُعلن احترامها للقيم الدينية ولقيم الأسرة وللتقاليد ولاختيار الناس للحجاب، وكما تعرف فإنَّ الدستور التركي علماني يمنع استخدام الرموز الدينية في الحياة السياسية، بيد أنَّ أجندة العدالة والتنمية ترفع سقف الضغط على القوى والجمعيَّات الأهلية الدينية في المجتمع، وتنعشها وتزيد من قوَّتها وحركتها على كافة المستويات, وعلى سبيل المثال فإنَّ زيارتي المتكرِّرة لتركيا جعلتني أَلْحَظُ أنَّ المساجد على سبيل المثال تَضِجُّ بالمصلين من الرجال والنساء، وهي مساجد ضخمة جداً، بينما قَبْلَ العدالة والتنمية لم يكن ذلك ملحوظاً.

وهل ما نراه من سمتٍ ديني لقادة العدالة والتنمية, وحرصهم على ظهور زوجاتهم محجَّبات, وزيادة رحلات الحج والعمرة, والتوسُّع في حلقات تحفيظ القرآن, مقصوداً من الحزب لإعطاء صبغة دينية للدولة بعد سنوات من الوجه العلماني المتطرِّف؟

إنَّ السمت الديني لقادة العدالة والتنمية هو سلوكٌ إيماني متعلِّق بالإيمان الفردي لكل منهم, فهم من أبناء الحركة الإسلامية، وهم يعتقدون بفرضيَّة الحجاب والصلاة والحج, ويرون أنَّ هذه العقيدة راسخة، ومن ثمَّ فهم يلتزمونها, ولكنَّهم لا يحملون تلك الأجندة كجزء من مطلبٍ لهم في الحياة العامة, وحتى بالنسبة لحجاب طالبات الجامعة فإنهم عرضوا مشروع القانون على البرلمان؛ لحقهم في التعليم، وليس من قبيل حقهم في ارتداء الحجاب، فالحياة السياسية في تركيا تُمَيِّزُ ولا تفصل -في تقديري- بين المجال الديني والسياسي على المستوى العام, بحيث أنَّ الدين هو ممارسة فردية, والسياسة هي التي تُدير القضاء العام, بيد أنَّ السياسي في القضاء العام هو ملتزم بقواعد دينية وأخلاقية تجعله يحترم تلك القواعد في الممارسة السياسية العامة.

وكيف تتَّسِقُ هذه التوجُّهات, حتى ولو كانت على المستوى الشخصي, ومحاولة رفع الضغوط عن المؤسَّسات الدينية, مع سعي الحزب للالتحاق بالاتحاد الأوروبي؟

تُعَدُّ تركيا دولة أوربية بالأساس، فهي كانت تحكم أوروبا الشرقية، وحتى فيينا لمدة خمسمائة عام, وقد كانت اليونان كلُّها مثلاً إحدى ولاياتها، ومن ثمَّ فإنَّ الذهاب للاتحاد الأوروبي هو مطلب تركي شعبي, وهو جزء من استراتيجية الحزب لتعديل الدستور والنظام السياسي في مواجهة قوة العلمانيين والعسكر، ومن ثمَّ فلا تَناقض بين التوجُّه للاتحاد الأوروبي، والاحتفاظ بالطابع الحضاري لتركيا.

وهل تُعتبر عودة تركيا للعب أدوارٍ مميزةٍ على الصعيد الإقليمي؛ إيذاناً بفشلها في الالتحاق بالأوروبي، ويأساً من اللحاق بهذه القاطرة, أم استكمالاً لأدوارها التوسعيَّة وتطلُّعاتها الخارجية؟

تعرف تركيا أنَّ قصة الاتحاد الأوروبي ستأخذ وقتاً طويلاً ربما خمسة عشر عاماً، وهي تعرف أنَّ دول الاتحاد الأوروبي خائفة من تركيا لو انضمت للاتحاد الأوروبي، ومن ثمَّ فقدْ توجَّهت لدول المنطقة العربية والإسلامية، وعملت على ما يعرف بتصفير مشاكلها مع دول الجوار العربية والإسلامية، ودول الجوار بشكل عام كاليونان.

وهل يمكن أنْ يستفيد العرب من عودة تركيا إلى محيطها الإسلامي؟

إنَّ عودة تركيا لمحيطها الإسلامي والعربي سيكون فائدة لهذا العالم, فهو يوازن مع النفوذ الإيراني المذهبي في العراق مثلاً, وفي مناطق أخرى.

كما أنَّها تملأ الفراغ الذي تركه العرب في مواجهة الكيان الصهيوني، ولمساندة القضية الفلسطينية.

وتركيا حريصة على البعد عن سياسة المحاور.. هي تريد دائماً أن تكون قوة موثوق منها تقوم بدور الوسيط لحلِّ مشاكل المنطقة المحيطة بها، ولا تسعى للخصم من أدوار الدول الأخرى، وإنما تُضيفُ إليها.

يقول بعض المحللِّين: إنَّ تركيا تلعب أدواراً مزدوجة, فهي تدعم القضايا العربية والإسلامية مثل قضية فلسطين, وتُعلن مناهضتها للاحتلال, ورغم ذلك تُشارك بقوات مع حلف الناتو في احتلال أفغانستان، ما تقييمكم لهذا الرأي؟!

لا تلعب تركيا أدواراً مزدوجة، فهي بحكم التركيبة القديمة للنظام السياسي التركي الذي وضعه أتاتورك تُحاول أن تتحرَّك في حدود تلك القيود، فهي دولة في حلف الناتو, وهذا يفرض عليها التزامات معينة, وهي تُحاول أن تلعب دوراً في السياسة الدولية، وعلى وجه العموم يمكن القول بأن العملية السياسية تشمل قدراً كبيراً مما قد يبدو متناقضاً، وهو -في التحليل النهائي- التوفيق بين المتناقضات.