المقالات

سعدة والزعتر… والحياة

الكاتبة : ميسون جمال مصطفى

في غرفة لا تتعدى المترين يحبس أحلامه الكبيرة، تلك التي كانت تكبر يوما بعد يوم وتحلق فوق سماء المخيم، قاهرة كل الصعوبات والمحن.

يعيش شفيق ابن الثالثة والستين في غرفة، تضيق عليه بتفاصيلها الحية في الحاضر. يغلق أبواب المستقبل على نفسه ويركن إلى نافذة تسمح لأشعة الشمس بالتسلل إليه أحيانا، عندما يأذن لها هو بنفسه، بإزاحة ستار أسود مهترئ يعتريه الغبار وبعض تشققات ترمي بظلها على وسادته المطرزة بالأحمر والأخضر وبعض من الأصفر الداكن، تلك الوسادة كانت هدية خطوبته من خالته الوحيدة “آمنة”، فرح بها فرحا كبيرا، فهي تحمل تطريزات من وطنه، وستزين سرير زفافه، سهرت عليها ليلتين ونهار، كي تقدمها له فور أن وضع في يدي” سعدة” خاتم الخطبة.

ليال طويلة قضاها مع هذه الوسادة، باتت تعرف عنه كل شيء، أخباره، أيامه، زيارات الأهل والأصدقاء، والحب الكبير الذي دفنه في قلبه، ووحدته التي تلازمه منذ زمن، وتقوقعه على نفسه.

الوسادة شارفت على نهايتها، ألوانها لم تعد كما كانت، هجم عليها الكبر وافترس معالمها، ورمتها الأيام بالحزن والألم، هزيلة تصارع الأيام، لا دواء يشفيها، ولا هي تنتظر الحياة.

ولد شفيق في عام 1953، وكان الابن الخامس والوحيد لعائلة فقيرة تصارع الحياة، والده عامل بسيط، يعمل بالبناء، ووالدته تكافح الدنيا وتكابدها في تربية أطفالها، إلا أنها كانت سعيدة بهم، فهم كل ما تملك، يجتمعون جميعا على الطعام، لا تأكل حتى ينتهوا جميعا، وأحيانا كثيرة لا تأكل.

كانت ولادته متعسرة، وكادت أن تودي بحياة والدته، مما دفع بجارتهم الحاجة مريم بالطلب إلى أبيه بإحضار طبيب أو نقلها إلى المستشفى لأنها بدأت تفقد أنفاسها، فما كان من والده إلا أن أسرع إلى الشارع العام وأوقف أول سيارة وحملها بين يديه إلى المستشفى. وصل بها قبل أن تغيب عن الوعي بثوان، كان الطبيب المناوب طبيبا نسائيا متخرجا حديثا، أدخلها فورا غرفة العمليات ليأتي”شفيق” بولادة قيصرية، أفقدتها أكثر من نصف دمها، وألزمتها الفراش أكثر من شهر.

عندما استيقظت من المخدر، بشّرتها حماتها بأن المولود ذكرا، وسيحمل اسم العائلة، وأنها اسمته “شفيقا” تيمنا باسم أخيها الشهيد في عام 48.

يرتجف وهو يضم وسادته، كل شيء حوله ممل، باهت، لا حياة في الوجوه وابتسامتها بالكاد تعلو محياها، وأصوات الصبية في الحي وهم يتدافعون وراء كراتهم بات أمرا مزعجا بالنسبة له، إلا أنه قرر النوم على أن يقوم وينهرهم كي يذهبوا.

لايعرف كم ساعة نام، كل شيء حوله مهمل، بضع حبات زيتون في صحن صغير على صينية، مع أكواب لم تعرف النظافة منذ أشهر، وغرفة رثة جدا، على الأرض سجائر مرمية منذ زمن، حتى ثيابه لم تغسل منذ أشهر ليست بالقريبة.

يحمل كأسا ويملؤه ماء، يشرب منه القليل، ترتعش يده وهو يحاول أن يضعه أرضا، تدمع عيونه، فيسقط من يديه، على قدمه، يصرخ متألما من وجع يمتد من روحه إلى جسده.

انهى شفيق دراسته الجامعية في عام 1975، متخصصا في علم الأحياء، ووظف مدرسا في مدرسة المخيم، وخطب سعدة بعد شهر من تخرجه، وقد اختارتها أمه ولم يمانع ابدا.بالرغم من لقاءاته القليلة والسريعة بها، إلا أنه أحبها، كمن يحب لأول مرة، وقرر أن يتزوج قبل بداية العام الدراسي الجديد.

شغله حبها، وراح يرسم في خياله صورتها في ثوب الزفاف الأبيض، وهو يجلس بالقرب منها، ويستمع إلى زغاريد نساء الحي وهن يرمين عليه الأرز وبعض السكاكر، والشباب يدبكون على أنغام يا ظريف الطول، وتارة اخرى رآها تعجن الطحين وتقطعه وحولها اولادها يتراكضون، وهو يحاول مساعدتها في اشعال” الفرنية”. أحلامه كانت تسير بشكل صحيح، وتزوجها، وكان سعيدا جدا إلى أن حلت الكارثة، وبدأ المخيم ينزف، ويغرق في الحصار، وظهرت عوارض الحمل على سعدة، وكانت صعبة جدا…

وفي ليل لا يعرف للرحمة قلب، قُنص والده، وبقيت جثته في مكانها، ولم يستطع أحد أن يأخذها، وبدأت العائلة بالتساقط واحدا تلو الآخر…

أخته الكبرى رسمية، فُقدت مع زوجها وأطفالها السبعة، ولم يُعرف عنهم شيئا، كل ما يتذكره، أنه اطمأن عليهم قبيل ساعات من فقدان الاتصال معهم، ومعها فقد روحه الثانية، وما يزال يصحو كل صباح على صوتها قادمة هي وأولادها وزوجها. أخته الثانية نجاح، كانت ممرضة، وقُنصت هي الاخرى وهي خارجة من المستوصف.

أرواح تغادره مسرعة، دون وداع، بدأ يخاف الموت أكثر، وهو يرى بطن سعدة يكبر يوما بعد يوم.

لم تعد الايام كما كانت، أصبحت قاتلة وموحشة، وهو يسمع صراخ اخته نظمية على طفلها الرضيع الذي قضى جوعا وعلى زوجها الذي اختفى منذ ايام، صراخها لم يكن عاديا، فقدت عقلها مع عائلتها، فباتت تصرخ وتهرب من الملجأ مرارا إلى أن وُجدت جثة هامدة في المخيم.

أربعة قصموا ظهره، أقساما؛ باتت كل في جهة لن تعود كما كانت أبدا. أمه قربه تئن بلا بدموع، فقدت بصرها في أيام معدودات، وصوتها بدأ بالاختفاء، نظر إليها وخرج مسرعا يبحث عن مريم اخته، كل ما

تبقى له، أضناه البحث، والطريق خطير جدا، القناصة في كل مكان، والقصف حوله مرعب جدا، واخيرا وجدها ملقاة هي وزوجها وأولادها وحماتها بالقرب من بئر الماء، جثث ما يزال دمها ساخنا، حدّثه شخص ما يزال يزحف هربا، أن مريم كانت تُحضر الماء، حينما أصابها القناص، أسرع زوجها إليها فأصابه أيضا، لحق به طفلاه فأرداهما، مع لحظة وصول جدتهما ليقتلها هي كذلك.

وقف شفيق، وهو يصرخ، ماتت مريم، ماذا سأقول لأمي، بناتك متن جميعا وأنا بقيت وحيدا، لم استطع أن أحميهن، وبدأ يهذي، أمسكه شخص يزحف بالقرب منه مبعدا إياه عن مرمى القناص الحاقد…

وصل إلى الملجأ كالمجنون على صراخ سعدة، وهي تلد، ولا يوجد من يساعدها، ولا يقدر أن يؤمن لها طريقا إلى المستوصف، ساعدتها إحدى النسوة بالولادة، ولكنها كانت ولادة متعسرة جدا جدا، فهي لم تأكل، ولم تشرب، ولم تنم منذ أيام طويلة، خانها قلبها مع لحظة نزول ابنها، فتودعه وتنام نومتها الأخيرة.

لحظات تمر بسرعة في مخيلته، يحاول أن ينقذهم من الموت، ولكنه يفشل، يبكي بصوت عال ويصرخ، ويصرخ…

لم يعرف ماذا يفعل، هل يفرح بمولوده، أم يبكي لوفاة سعدة واخواته وأزواجهن وأولادهن، اشتد القصف خارجا، حملت المرأة الولد مقربة إياه إليه، قائلة” أذّن له يا خالتي”. كان قد بدأ يفقد وعيه، أذّن له وسقط أرضا.

وبعد أيام، وجد نفسه في المستشفى، نظر حوله فلم تكن أمه بين الموجودين، عندما سأل عنها، قالوا له قد تم التوصل إلى اتفاقية، وخرج الناس وهم الان في أمان…

أيام قليلة، خرج بعدها من المستشتفى، بحث عن أمه، وجدها مع بعض الجيران، لم ينتبه أن يسأل عن طفله، بدأ الطفل بالبكاء، كأنه ينبهه إليه، هزّه الصوت: إنه طفلي وسعدة، ركض نحوه، ضمه، اشتم فيه رائحتها، ورائحة الزعتر وتلاله، وبالقرب منه كانت وسادته المطرزة- هدية خطوبته-، التي حملتها سعدة عند هربهم إلى الملجأ. رحلت سعدة وكل الأحبة وبقيت الوسادة لتواسيه باقي الأيام.

سمع شفيق دقا على الباب، دقا لم يسمعه منذ سنوات، قام من مكانه متثاقل الخطى، فتح الباب، هجم الضوء عليه بقوة، كأنه اشتاق إليه، لاح له وجه يعرفه إنه وجه سعدة، ضمه، اشتم تلك الرائحة التي اخذت منه لعدم أهليته النفسية على تربية طفله، إنه حسن.

وعاد بعد 38 عاما، مع أطفاله، ليعيد لذاكرته تفاصيل يحاول جاهدا أن ينساها، إلا أنها تأبى الخروج من جزئيات حياته، وعاد معيدا معه وجه سعدة، وابتسامة أمه وأبيه، معيدا جو أخواته اللواتي رحلن أيضا. ضمه من جديد، ضم المستقبل والحياة وخرج من زنرانته إلى الدنيا

مقالات ذات صلة