المقالات

غسان كنفاني الحياة ليست نصراً بل مهادنة مع الموت

واحد وأربعون عاماً مرت على إغتيال سيد القلم وفارسه عندما تطايرت أجزاء بدنه في السماء لتطاول علياء الآفق ملتحمةً بذلك اللحم الغض الطري للميس تلك الفتاة الفتية وهي تركب إلى جوار خالها الحبيب في سيارته الخاصة الصغيرة، أدار غسان كنفاني محرك السيارة لتنفجر القنبلة الموقوتة التي زرعها الموساد فيها صبيحة الثامن من تموز عام 1972.

صعد غسان إلى السماء وهو الذي كان يدرك منذ إمتشق القلم أن الحياة ليست نصراً بحد ذاتها بقدر ما هي مهادنة مع الموت لن تطول فجد وأبدع تاركاً خلفه إرثاً عظيماً من الإبداعات والدراسات في زمن قياسي تعجز مؤسسة كاملة عن إنتاجه، كان غسان يدرك مجيء اليوم الذي سيرحل فيه ولكن دون أن يستطيع أن يحدد موعده بالتحديد ولا حتى بالكيفية.

36 عاماً كان عمره وهو عمر قصير في مقياس الحياة، عمر الربيع تنسم في صغره قبل اللجوء نسيم البحر الذي حمله بحر عكا إلى بيته وسار مع أترابه على سور المدينة العظيم الذي حقق النصر ذات مرة على نابليون بقوته وسطوته صمدت عكا وصمد سورها وتشرب أبناء المدينة تلك الأنفة والكبرياء جيلاً بعد جيل وكان غسان واحداً منهم.

رحل الفتى عن عكا مع كل من هجروا إبان نكبة العام 1948 وبقي قلبه معلقاً بها حتى إستشهاده فكتب لها ولجارتها يافا ولكل فلسطين بمداد من دم ونسج حلم العودة من خيوط الشمس الذهبية التي تتسلل صبيحة كل يوم إلى مخيمات الفقر والبؤس في لبنان عبر حدود الوطن السليب.

آمن غسان بقدرة رحم هذا الوطن الموجوع على الإنجاب فطاف يبحث بين لاجئيه المشردين عن طاقات كامنة ليفجرها فعمل مدرساً في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين معلماً للفن كونه من المؤمنين بأن ما تخربشه الأيدي الصغيرة من لوحات تعبير كامن عما يجول في النفوس من أحلام وإن كانت صغيرة فالأحلام الكبيرة هي التطور المنطقي والطبيعي للأحلام الصغيرة. إكتشف غسان في إحدى زياراته لمخيم عين الحلوة الموهبة الفذة المتقدة حماساً لا مثيل له حيث كان اللقاء المشهود مع ناجي العلي، وكان لغسان الفضل في نشر أولى لوحاته في مجلة الصرخة لسان حال حركة القوميين العرب التي كان يشرف عليها، أستشهد غسان قبل ناجي وبذات الطريقة، طريقة القتل الغادر.

غسان وناجي زرعا فيمن خلفهم التعلق بحلم العودة وإن لم يستطيعا تحقيقه ببدنيهما ولكن وبلا شك عادت روحيهما لتناجي الوطن وتحلق في سمائه، عاد غسان مع ناجي عبر الجنوب اللبناني حيث وقفا طويلاً ليطلا من هناك على شمال الوطن المحتل، إصطحب ناجي معلمه غسان ورفيقه عبر الحدود متسللين خلسة عن عيون جنود الاحتلال ليصلا سوياً إلى قرية الشجرة مسقط رأس العلي.

في الشجرة نشط ناجي ذاكرته ليعود بها إلى أيام كان في العاشرة من عمره لحظة رحيلة المأساوي عنها وعاد ناجي إلى أيام الطفولة متمسكاً بيدي غسان ليطوف به بين بقايا منازلها وليروي له تفاصيل حياته، ” هنا كان بيتنا وهنا كنت أجلس مع أمي وأتسامر مع إخوتي وألعب في الأرجوحة المعلقة بأغصان شجرة التوت التي تقف أمام عتبة البيت وأحلم بالذهاب مع والدي وجدي لأذهب معهم في موسم الحصاد لجمع القمح والشعير…. أه يا غسان نعم كان أخر موسم للحصاد لم نجمعه كله عندما هاجمتنا العصابات الصهيونية وأحرقوا أشوال القمح وما تبقى في الأرض ولم تصله المناجل بعد…. أتعلم يا رفيقي لا أدري لما كان أهل قريتي يبدأون بحصاد القمح البعيد عن بيوتهم ويتركون القريب للمرحلة الأخيرة”.

أتدري يا صديقي ماذا كان يوجد في كوة المنزل فوق الباب، كانت حمامة قد إعتادت أن تبني عشها هنا سنوياً وكانت أمي تمنعنا من مساس العش والبيض والفراخ وكانت تقول إنها فأل خير ولم تكن تدري بأن الشر والغربان السود تتحين الفرص لإطلاق النار عليها، أما جدتي فكان حضنها الدافيء ينسينا عناء الهم اليومي ونحن نطارد في الجبال خلف قطيع الأغنام وتحكي لنا الحكايا والقصص حتى نغفوا على قصص الشاطر حسن وجبينة وغيرها.

صديقي كانت الأفراح يا غسان لنا الصغار وكنا ننتظر الأعراس بفارغ الصبر حتى نرقص للصباح ونساعد في جمع الفرح لطهي اللحم والثريد ونشارك في حلقات الدبكة الشعبية ونطارد فرس العريس.

غسان أخر ما أذكره وهناك الكثير مما لم أعلمك أياه يا الله كان منظر الشاعر عبد الرحيم محمود ورفاقه الذين وصلوا قريتنا للدفاع عنها وأذكر كيف كان أبي وأهل القرية يسامرونهم ويحضرون خبز الطابون واللبن لهم ليقتاتوا وأذكر إصرار الجميع وصراعهم الذي يصل حد الحلف بالطلاق وتعظيم الأيمان لأخذ هذا المجاهد أو ذاك لبيته لينام ساعةً ويأخذ قسطاً من الراحة.

غسان: يا صديقي عمري من عمرك لحظة غادرت عكا وأنت الآن قلبت مواجعي فإسمح لي بأخذك إلى عكا وحيفا ودعنا نعرج على يافا لنتذوق حلاوة العسل في برتقالها.

تطير روحيهما المتسللة من الشمال وتحلق فوق الشجرة وتواصل المسير نحو الغرب وبمحاذاة البحر ومن الأعلى يريان بقايا أشلاء جنود نابليون تطفو على الماء بحاذاة سور عكا العظيم ويتمعان لفرحة المنتصرين خلف السور وتتنقل أعينعما بين المتعذبين والكتوين بنار الهزيمة من جنود فرنسا وبين المنتشين بالنصر فيهبطا داخل السور بحاذاة مسجد الجزار ليشاركا هناك المنتصرين الفرحة.

يمسك غسان بيد ناجي ويطوف به في حواري وأزقة المدينة وفي كل ركن وزاوية يروي لصاحبة قصةً وحكاية. وأمام السجن القديم تتسلل رائحة البرودة والموت من الغرف الكبيرة وتتجه نحو إرجوحة الرجال الكبيرة التي تتدلى منها الحبال حبال المشنقة، غسان إبن المدينة وناجي إبن القرية لكل منهما عالمه.

ناجي لم يرى في حياته داخل فلسطين مشنقةً من قبل وهنا في ساحة سجن عكا شده المنظر ليقاطعه غسان بالقول: هنا علت أقدام الأبطال فوق رقبة الجلاد ومن هنا طارت أرواحهم وحلقت نحو البحر والبروألهمت الثوار تسابق الشهداء الثلاثة على إعتلاء منصة الإعدام وكان هم كل واحد فيهم ألا يتجرع الحزن على رفيقيه قبله.

يا ناجي نضال شعبنا نبع لا ينضب وجيش شهدائه لا يتوقف فكلما سقط شهيد هناك متسع لآخر في رحم هذا الوطن وها نحن الإثنان حرمنا من التدثر بترابه، أه يا صديقي ربما كان من قدرنا أن نتشرف بالشهادة وربما لو بقينا أحياءً لمتنا في اليوم ألف مرة ورأينا ما آل إليه هذا الشعب وما حل بهذه الأمة ولكن قبل الرحيل والعودة قبل أن ترجع لضباب لندن وأن أعود لوجع بيروت دعنا نتذوق العسل في برتقال يافا!

رحل غسان ولحق به كل من أحبوه وتتلمذت على ما خططت يداه أجيال وأجيال وتوجع على فراقه كل من عرفوه فأبى إلا أن يحفر إسمه بمداد من دم كبرقوق نيسان على جدران سور عكا ليمتد خط الدم القاني حتى بيروت.

بقلم الإعلامي: خالد الفقيه

مقالات ذات صلة