فى هذا اليوم

حكيم الثورة جورج حبش

حكيم الثورة جورج حبش || 26.01.2008

مشاعل على طريق الثورة

حكيم الثورة جورج حبش

الحياة الجديدة

عدد خاص بمناسبة رحيل القائد الحكيم جورج حبش

حكيم الثورة جورج حبش

منتصف نيسان 2008

وفاءً للقائد الراحل الحكيم جورج حبش … ووفاءً لحركتنا الأم … حركة القوميين العرب، ولوليدها حزبنا / جبهتنا الشعبية.
وفاءً للمبادئ والأهداف الوطنية والقومية والأممية التي آمن بها قائدنا الراحل.
وفاءً للأخلاق الثورية النبيلة التي ميزت الحكيم طوال مسيرته النضالية في حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية.
تقدم الدائرة الثقافية المركزية هذا العدد الخاص من “الحياة الجديدة” التزاماً من كل رفاقنا بالوفاء والعهد للشهيد الحكيم جورج حبش،
ولكل شهداء حزبنا وشعبنا وأمتنا العربية، أن نناضل بشرف وإخلاص في مسيرة حركة التحرر القومي والديمقراطي من أجل إقامة مجتمع عربي اشتراكي موحد خالٍ من الظلم و الاستغلال.


سيرة ذاتية

حكيم الثورة جورج حبش

– ولد في مدينة اللد الفلسطينية يوم 2/8/1926 لعائلة مسيحية أرثوذكسية ميسورة.

– انهي دراسته للمرحلتين الابتدائية والثانوية في يافا والقدس، ثم التحق سنة 1944 بكلية الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت، تخرج فيها طبيباً سنة 1951، وفي أثناء دراسته كان من البارزين في المجال السياسي الذين عملوا من خلال جمعية “العروة الوثقى” في الجامعة، ومن خلال “هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل”.

– من ناشطي “جمعية العروة الوثقى” في الجامعة الأمريكية في بيروت التي كان الدكتور قسطنطين زريق محركها الأساسي، ثم شارك في تأسيس “منظمة الشباب العربي” التي نشأت سنة 1951 ثم أصدرت نشرة “الثأر” ، وعقدت هذه المنظمة اول مؤتمر لها سنة 1954 برئاسة جورج حبش وانبثق عنها “حركة القوميين العرب”، وكان ابرز أعضاء الحركة وديع حداد وهاني الهندي واحمد اليماني واحمد الخطيب وصالح شبل وحمد الفرحان وحامد الجبوري.

– ترشح للانتخابات النيابية في الأردن في آب 1956.

– منعت حركة القوميين العرب في الأردن سنة 1957 فاضطر إلى التخفي والعيش في السر، وفي سنة 1958 ذهب إلى دمشق.

– تزوج في دمشق في أوائل سنة 1961، وبقي فيها طوال فترة الوحدة، وكانت حركة القوميين العرب في هذه الأثناء قد أيدت بقوة الرئيس جمال عبد الناصر، وتولى احد مؤسسيها (هاني الهندي) إحدى الوزارات في عهد الوحدة.

– على اثر هزيمة حزيران 1967، قام مع مجموعة من رفاقه في حركة القوميين العرب بتأسيس “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” التي تم الإعلان عن تأسيسها رسمياً يوم 11/12/1967، ومنذ ذلك التاريخ لم تنقطع الجبهة عن منطلقاتها القومية برؤية ماركسية، حرص الحكيم على صيرورتها وتطورها كتوجه ومنهج عمل رئيسي للجبهة الشعبية.

– أعلن انتماءه وانتماء الجبهة الشعبية إلى الفكر الماركسي – اللينيني وذلك بعد هزيمة حزيران 1967 .

– استمرت علاقته بالرئيس جمال عبد الناصر وثيقة جداً لكنها بدأت بالفتور في تموز 1970 عندما وافق الرئيس عبد الناصر على مشروع روجرز.

– عام 1971 اندلعت مواجهات عرفت بـ “أيلول الأسود” بين الثورة والمقاومة من جهة والنظام الأردني من جهة ثانية أسفرت عن إخراج قوات الفدائيين من عمان والأحراش فيما بعد.

– جاء إلى لبنان سنة 1971 بعد انتقال قوات الثورة الفلسطينية إلى الجنوب ومخيمات بيروت.

– أعلن في 14/3/1972 التوقف عن إستراتيجية خطف الطائرات.

– أعلن انسحاب الجبهة الشعبية من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في أيلول 1974 احتجاجاً على الاتجاه السياسي الجديد للمنظمة والذي عرف ببرنامج النقاط العشر الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني العاشر.

– كان له إسهام بارز في تأسيس “حزب العمل الاشتراكي العربي” في لبنان وبلدان عربية أخرى.

– حاولت إسرائيل اعتقاله وقتله أكثر من مرة وكان أبرزها محاولة اختطاف إحدى الطائرات فور إقلاعها من مطار بيروت متجهة إلى بغداد لاعتقادها انه كان بين الركاب وجرت الحادثة في 10/8/1973.

– غادر بيروت في آب 1982 مع القوات الفلسطينية وأقام منذ ذلك الحين في دمشق.

– كان له شأن في تأسيس جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني المؤلفة من المنظمات المعارضة لقيادة م.ت.ف والتي اتخذت دمشق مقراً لها.

– عارض اتفاق عمان بين م .ت.ف والأردن الذي وقع في شباط 1986 ودعا إلى إلغائه.

– أصيب بجلطة دماغية في تونس في 17/1/1992 نقل على أثرها إلى أحد مستشفيات باريس، وأثار نقله أزمة سياسية داخلية في فرنسا استقال في أعقابها ثلاثة مسئولين.

– استقال من الأمانة العامة للجبهة الشعبية في أيلول عام 2000 أثناء عقد المؤتمر العام السادس للجبهة.

– أسس “مركز الغد العربي” في دمشق سنة 2002.

– عاش المرحلة الأخيرة متنقلاً بين دمشق وعمان.

– أدخل إلى إحدى مستشفيات عمان في 17/1/2008 لإصابته بجلطة قلبية وتوفى يوم 26/1/2008.


من مأثورات ومقولات القائد الراحل الحكيم جورج حبش

حكيم الثورة جورج حبش

قوة الإرادة:
– “تستطيع طائرات العدو أن تقصف مدننا ومخيماتنا وتقتل الأطفال والشيوخ والنساء ولكن لا تستطيع قتل إرادة القتال فينا”.
– ” لا تستوحشوا طريق الحق لقلة السائرين فيه “.
– ” لا عذر لمن أدرك الفكرة وتخلى عنها “.

حديث عن الذات:
– لقد غادرت الوطن للدراسة في بيروت لأجل الارتقاء، وكلّي أمل وإصرار على العودة إليه حاملاً معي آمالي وأحلامي وعزمي لأكمل مشواري بين أحضان وطني .. وفي لحظة تاريخية فارقة لا يمكن أن تمحى من ذاكرتي.. افتقدت هذا الوطن..!! افتقدت كياني.. وغار الجرح عميقاً في كل جسدي.. إنها اللحظة الأصعب في حياتي التي حولتني من إنسان عاشق لوطنٍ وحياة إلى سياسي يبحث عن وطن.. وحياة أفضل، ذلك هو السر الذي دفعني إلى أن أوظف كل سنوات عمري لأجل استعادة هذا الوطن. وأستعيد معه كل أحلامي وآمالي

حديثه إلى الشباب:
– إن أهم ما يمكن أن أنقله للأجيال الصاعدة هو خلاصة تجربتي، وما احتوته من دروس، سواء كانت دروس الإخفاق أو دروس النجاح، عليهم أن ينطلقوا من حيث وصلنا، لا لتكرار تجربتنا وإنما بالاستناد إلى دروسها الثمينة كونها دروساً دُفعت أثمانها تضحيات ودماء غالية وعزيزة، وان يجتهدوا ويجاهدوا لتخطي إخفاقاتنا وأسبابها، وهذا مشروط بامتلاك الوعي والعلم والمعرفة كأدوات من دونها يستحيل التقدم، وان يملكوا الثقة بالذات، وبالمستقبل وبأن الهزائم لا تعني المساس بأهدافنا، فهي صحيحة وعلمية وعادلة وإنسانية إلى أبعد حد.

– إن المهمات كبرى والتحديات جسيمة، وعلى شبابنا أن يشحذ عقله ويشمر عن ساعده ويندفع للعمل، عليه أن يتخطى أخطار التهميش والاستلاب والاغتراب، وان ينمّي روح التمرد الايجابي وتخطي نفسية الخضوع، وان يجاهد لتحرير المرأة من كل ما يعوق تقدمها ويحد من مبادرتها وإبداعها، وان يربط دائماً بين أصالته وضرورة امتلاك الحداثة وعدم وضعها في مواجهة مميتة، وان يجيد الإنتاج ليصبح جديراً بالاستهلاك، إنتاج الفكر والمعرفة والحضارة، والإنتاج المادي بمختلف ميادينه، وآمل ضمن هذا السياق، ألا يشكل فشل الأحزاب وقساوة الهزائم قوة تدمير لروح الانتظام والانتماء لدى شبابنا، فلا مجال للتقدم ومضاعفة الفعل من دون الانتظام الواسع ضمن أحزاب ومؤسسات ونقابات وجمعيات ونواد، للارتقاء بالانتظام الاجتماعي إلى مستوى التوحيد الشامل للطاقات، وتقليص هدرها وتوجيهها ضمن رؤية إستراتيجية شاملة.

– إنني على ثقة بأن أجيال شبابنا الصاعدة والمتتالية لن تحتاج إلى من يلقّنها ما يجب أن تفعله، فليس من حق أحد، فرداً أو حزباً، أن يصادر حقها في تحديد طموحاتها وأهدافها مسبقاً، هذه حقيقة، لكن تقف إلى جانبها حقيقة لا تقل أهمية، وهي أن حياة الأمم والشعوب وتاريخها ومستقبلها ليست سلسلة مفككة لا يربطها رابط، إنما هي عملية تراكمية متواصلة، ومن لا يدرك تاريخه ويعيه لن يستطيع إدراك حاضره، وبالتالي مستقبله.

الصراع مع العدو الصهيوني:
– إننا في حالة صراع مفتوح، ونضال مستمر، وصيرورة تاريخية في مواجهة المعتدي.. وليس مستغرباً أن يظهر على هامش هذه الصيرورة النضالية من يعبث بالحق الفلسطيني بصرف النظر عن الأسماء والمسميات، وكل محاولة للعبث بهذه الحقوق الوطنية عن وعي أو بدون وعي هي بمثابة كوابح سياسية وعملية لمسيرة النضال الوطني الفلسطيني، وعليه فإن كل المؤتمرات واللاءات والوثائق التي تنتقص من الحق الفلسطيني لن يكتب لها النجاح بفعل تمسك الشعب الفلسطيني بكافة حقوقه وثوابته. هل استطاعت أوسلو ووثائقها أن تنهي الحق الفلسطيني، أو تعيد جزءاً من الحق الفلسطيني؟ إن «إسرائيل» تستطيع أن تقول لاءاتها. ولكن كل واحدة من هذه اللاءات سيواجهها شعبنا بضراوة كفاحياً وسياسياً واستراتيجياً.. ويجب أن يدرك الجميع أن القضية الفلسطينية لا تنحصر في عناوين هذه اللاءات الأربع.. إنما هي الأرض والشعب معاً، أي فلسطين التاريخية .

– أن الصراع مع عدو، كالصهيونية – وإسرائيل – والامبريالية، هو صراع تاريخي مفتوح لن تختزله لحظات انكفاء عابرة، هذا الفهم يدفع عملياً نحو ضرورة إدارة الصراع بطريقة شمولية، وبصورة يتساند ويتشابك فيها النضال التحرري القومي مع النضال الاجتماعي الديمقراطي، وهذا يعني وعي الديمقراطية كأداة للنهوض وقيم للسلوك والفكر والممارسة لتحرير المجتمع، فالديمقراطية، هي في حد ذاتها، ليست هي الحل وإنما بوابة للحل، أما الحل فهو قوى المجتمع وحريته القادرة على تحديد الأهداف والطموحات والنضال من أجل تحقيقها

الحكيم والمسألة التنظيمية (الحزب):
– إن التنظيم الذي يقوم على أساس ماركسي، أي بمعنى الاسترشاد بالفكر المنهجي الجدلي، ويلتزم مصلحة الأغلبية المستغَلة والمضطهدة التي تكمن في التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، سينتصر بينما التنظيم الذي يقوم على أساس برجوازي صغير سيفشل.

– إلا أن الحاجة إلى بناء العامل الذاتي / الحزب، تشكل حتى اللحظة القضية المركزية التي تحتل موقعاً هاماً أساسياً في سلم الأولويات الضرورية من أجل تفعيل العلاقة الجدلية بين الظرف الموضوعي والعامل الذاتي كشرط لا بد من توفره لتجاوز الواقع الراهن.

– إن وقفة التأمل الايجابي التي نريدها، – من وجهة نظري – دعوة إلى التعمق في رؤية ما نحن عليه بصورة نقدية وتشخيص واقعنا بلا أية رتوش أو زيف، بعيداً كل البعد عن الاستخفاف أو المكابرة، تأمل لا يدعو إلى السكون، بل ينطلق من نبضات قلب جبهتنا وحركتها الصاعدة في إطار الحراك السياسي الاجتماعي العام، الوطني والديمقراطي على الصعيد الفلسطيني بارتباطه العضوي الوثيق بالمشروع التقدمي القومي العربي، إذ لم يعد هناك أية إمكانية للحديث عن تطور وتقدم المشروع الوطني الفلسطيني بانفصاله عن الحامل القومي العربي، أقول ذلك، رغم شدة التباعد أو الانفصام الراهن بين الوطني والقومي.

– أن أهم استحقاق نظام على الصعيد التنظيمي يتمثل في قدرتنا في الجبهة الشعبية على تطوير بناها ومؤسساتها وأدائها بما يلبي الوظيفة والدور التاريخي الذي يجب أن تقوم به ارتباطا بما تمثله تاريخياً وما تطرحه راهناً من رؤية أيدلوجية وسياسية واجتماعية وكفاحية.

– إن تكامل أشكال النضال المختلفة السياسية والاقتصادية والكفاحية والإعلامية والجماهيرية كلها معاول يجب أن تستخدم بطريقة واعية وعلمية واستثمارها بأعلى طاقة ممكنة من الكفاءة ووضوح الرؤية.

الحكيم وحق العودة:
– حق العودة هو حق طبيعي، وقانوني، وجمعي وفردي، ليس لأحد في العالم أن يعبث به، فالمسألة واضحة كالشمس، هناك لاجئون أرغموا على ترك أرضهم وديارهم.. لهم الحق في العودة كحق طبيعي، ولهم الحق في العودة وفق قرار الأمم المتحدة 194، وهو قرار يجيز لهم العودة . والمنطق الطبيعي أن يعودوا لا أن يحل مكانهم مستوطنون قادمون من آفاق الأرض، وعليه فنحن ننظر إلى حق العودة كأساس وجوهر للمسألة الفلسطينية، ولا حلّ سياسياً بدون ربط حق العودة بالأرض والوطن والكيان السياسي للشعب الفلسطيني

جورج حبش ومسألة النضال القومي ضد الامبريالية:
– ترتبط عملية التحرر القومي وعملية التحرر الاجتماعي إحداهما بالأخرى، وهذا ينقلنا إلى الحديث عن جبهات المواجهة المستقبلية، وهي أولاً: الجبهة الثقافية التي يجب أن تتناول أسباب هذا الواقع وتحليله والتفكير في الحلول والبدائل، إنها الجبهة التي تؤمن الأساس الفكري المنهجي لوعي الماضي والحاضر والمستقبل، ومن دونها سيبقى التخلف والانفعال، وهناك ثانياً الجبهة السياسية، إذ يجب أن تقوم أحزاب وجبهات حكماً بالجبهة الثقافية، وتشاركها في بلورة الرؤية والتحليل والعلاج، وتنقل الوعي إلى قوة فعل سياسي – اجتماعي منظم، وهناك ثالثاً الجبهة الاجتماعية، فلا يجوز، مهما نركز على الجهة الصهيونية، أن نهمل الموضوع الاجتماعي الذي يتصدى لمعالجة هموم الناس المعيشية، وفي هذا الإطار، أيضاً، ومهما يكن الواقع مرّاً وأنا أوافق على تشخيص هذا الواقع، فإنني أتطلع إلى تحقيق نهضة عربية كبيرة تتلاءم مع حجم طاقات الأمة العربية وإمكاناتها وتراثها وحضارتها.

– إن الاندفاع الذي يسوقنا إليه أعداء هذه الأمة، الامبريالية الأمريكية وإسرائيل، تحت ستار العولمة، وعبر أدوات تحكم هذا الوطن أو تتحكم فيه، هذا الاندفاع أو الدفع لا بد له أن يتوقف، لأنه يسوقنا إلى مخاطر وكوارث ستهون أمامها كل المخاطر أو الهزائم أو النكبات على امتداد تاريخنا الحديث والمعاصر، لكننا جميعا ندرك أن هذا الواقع المأزوم والمهزوم الذي نعيشه اليوم يعود في أحد أهم أسبابه المباشرة، إلى تراكم أزمة حركة التحرر العربية منذ عقود طويلة، وهو تراكم تتجدد فيه عوامل الهبوط السياسي والتشوه المجتمعي والتخلف العام، مع تزايد التبعية بكل أشكالها، ولكن الإشكالية الكبرى ان تضخم هذه الأزمة لم يكن ممكناً لولا ذلك القصور السياسي لأطراف حركة التحرر العربية، وقصور أحزابها وفصائلها عن قيادة عملية التغيير من أجل تجاوز الواقع الراهن.

– إن أول أسباب انتصار المشروع الصهيوني يكمن في أن قياداته أدارت الصراع بصورة شمولية، وعلى أساس إستراتيجية صراعية متقدمة، ويخطئ من يظن أن الحركة الصهيونية مجرد عصابات منفلتة، يمكن وصفها خلقياً من جانبنا بالعصابات، لكنها في الواقع قامت بدورها ووظيفتها ارتباطاً بأهدافها من النقطة التي وصلت إليها أوروبا والدول الصناعية على صعيد التطور. هذا عنوان أول، العنوان الثاني هو تركيم مكونات القوة. الموضوع الآخر، في هذا السياق، يتمثل في صوغ معايير تتلاءم مع مصلحة المشروع العليا، وهي معايير كانت تتخطى الأفراد والأحزاب، وفي ضرورة الارتقاء بالأفراد إلى مستوى حاجة الوظيفة والدور المطلوب تأديتها، وليس العكس.

– مع تعميق إيماني بضرورة وحدة الأمة العربية ككل، وأهمية ذلك لتحقيق شروط تحرير فلسطين، لا أنظر إلى الوحدة اليوم كمجرد شعار، ولا كما تمت بين سورية ومصر، وإنما من خلال عملية التراكم والتكامل، ومن خلال الوحدات الأصغر: وحدة مصر والسودان، وحدة المغرب، وحدة دول الهلال الخصيب، وحدة دول الخليج، لكن من الضروري التركيز على أهمية دور سورية فيما يتعلق بالقسم الآسيوي، وعلى أهمية دور مصر بالنسبة إلى القسم الإفريقي. جوهر الاشتراكية ألاً يقوم مجتمع على أساس الاستغلال، وفشل الأنظمة الاشتراكية لا يعني فشلاً للنظرية الاشتراكية ويجب أن يكون كل الاشتراكيين في العالم معنيين بدراسة أسباب فشل التجربة الاشتراكية الأولى.

الحكيم والموقف من أوسلو والوحدة الوطنية:
– مأساة أوسلو لا تعود إلى حدث بعينه، إنها في الواقع حصيلة تاريخية لما سبقها من مراحل، بل يمكن القول إنها حصيلة الهزائم المتراكمة عربياً وفلسطينياً، ولا أقصد بالهزائم فقط الانهزام العسكري أمام إسرائيل، بل أيضاً – وهذا هو الأهم – عناصرها الذاتية، أي الداخلية، بمعنى عجزنا عن تركيم وتأمين مقدمات الانتصار السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية، وعجزنا عن انطلاق فاعلية المجتمع العربي في كل الدول، وإبقاؤه تحت رحمة الاستلاب والخضوع وقمع الأنظمة البوليسية، فكيف يمكن تصور أن ينجح شعب في الانتصار على عدو متقدم يملك أسباب القوة كالعدو الصهيوني، ما دام ذلك الشعب لا يعرف معنى حريته الداخلية، وتسود فيه الغيبية والجهل والانغلاق على الذات، هنا تكمن مرجعية هزيمة أوسلو وغيرها من الهزائم العربية – الفلسطينية.

– الوحدة الوطنية ضرورة ملحة لمواجهة السرطان الصهيوني، شرط أن تقوم على أساس سياسي واضح، وعلى أساس ديمقراطي، وألاّ تكون تحت رحمة قيادة فردية.

– إن المرحلة السياسية الراهنة ليست ذاتها التي انطلقت منها الثورة الفلسطينية المعاصرة.. وبالتالي الشيء الطبيعي أن تختلف وسائل وأشكال النضال، وأولويات النضال وفقاً للظروف المناسبة، وعلى القيادات الفلسطينية المناضلة أن تقرأ اللوحة الدولية بكل تضاريسها كي تعرف أين موقعها في هذا الصراع الدائر على مستوى العالم.. وابتداع الأشكال النضالية المناسبة، كما عليها أن تدرك أن هذا التوازن الآن، بل الاختلال بتوازن القوى الدولية ليس إلا مرحلة سياسية قد تقصر أو تطول. فلا يجب على هذه القيادات أن تقدم على تنازلات تحت وطأة هذا العالم الأحادي القطبية.. فهو عالم ليس سرمدياً وأبدياً .. إنما عليها أن تؤسس لحركة وعي وطنية وقومية جديدة لدى الإنسان الفلسطيني والعربي، مضمونها بعث الهوية الوطنية والقومية لجهة عدم الاندماج في ما يسمى الهوية العالمية.. هذا تضليل من قبل الآخر لتسهيل مهمته في احتلال الأرض والعقل والثقافة

كلمات الحكيم قبل الرحيل:
– في النهاية أقول إن جيلنا حاول ان يقوم بواجبه بصورة جيدة، أو أقل، أو سيئة، وبالتأكيد كان في إمكانه أن يعمل أفضل، وأن يعطي أفضل، وكان في قدرته أن يتخطى بعض الأخطاء الكبيرة، لكن هذا ما حدث، ونحن مستعدون لتحمل مسؤوليتنا وتحمل محاكمة الشعب والتاريخ مهما تكن قاسية، فالهدف في النهاية ليس حماية الرأس، وإنما عدم تبديد خبرة أعوام وعقود وتضحيات لا يمكن تعويضها.

– كلمة أخيرة إلى أبناء شعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات والغرب؟ كلمتي إلى الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة.. أذكّرهم بأن الاستعمار بكافة أشكاله سيرحل عن أرضنا ولنا بالتاريخ عبرة.. لكن الأمر يحتاج أولاً إلى الوحدة، ثم الوحدة، ثم الوحدة.. وإن فلسطين هي الهدف، والهدف الراهن والاستراتيجي، فلا نجعل من خلافاتنا وصراعاتنا الداخلية على السلطة الوهمية والتي هي تحت الاحتلال مجالاً لانتصار الآخر علينا .


قالوا عن الحكيم

حكيم الثورة جورج حبش

الفارس الذي لم يترجّل
آثرتَ تُغادرُ هذا الزمنَ الجاحِد
زمنَ الأقزامِ المُنتَصرينَ براياتِ الغُرَباء
آثرتَ تُغادِرُ
كي لا تتلوّثَ بِغُبارِ النَفطِ الطافِحِ من أكبادِ الجَوعى
غادرتَ

وما وَطِئَت قَدماكَ بِساطَ الذُلّ
كي تَرعى حُرمةَ من سَقطَ مِن الشُهداء
لأنكَ منذُ بَدأتَ مَسيرةَ عَودَتِنا
وحَملتَ أمانينا
كُنتَ الصادِق
آمنتَ

بأن العودَةَ كَالبُردَةِ
لا يُمكِنُ أن نَنسُجَها بِالوَهم
آمنتَ بأنَ طَريقَ العَودَةِ مَمهورٌ بِإرادَتِنا
لا بِتَخاريفِ الجُبَناء
يومَ خَرجتَ مِن اللدِّ

كانَ صَليبُكَ من خَشبِ اللَوّزِ اليابسِ
واليَومَ تُغادِرُنا وتعودَ إلى اللدّ
وصَليبُكَ ما زالَ على كَتِفَيك
قَد أزهَرَ لَوزاً..!

آثرتَ تُغادِرُ هذا الزمَنَ الجاحِد
سافرتَ على نَهرِ دُموعك
كي تَلقى غَسان
وَكُلُّ الرُفقاءِ
الشُهداء..

لكنكَ تَبقى مَعَنا روحاً
نَتَلمَّسُ مِن فِكرِكَ صَبراً
وَصُموداً

لَيس لنا إلا أن نَصمُدَ.. كي نلقاكُم جَمعاً
عندِ حُدودِ الوَطَنِ الغالي
نَدخُلهُ فَتحاً..
وَنُقيم


الشاعر عدنان كنفاني

حكيم الثورة جورج حبش

– انصهرت شخصيته حتى النخاع في العملية الثورية ولم ينفصل عنها حتى توقف قلبه النبيل عن الخفقان، تسلح بالمناعة الثورية والصلابة المبدئية ولم تهزهما التغييرات العالمية العاصفة لصالح معسكر الأعداء، آمن بعمق بضرورة التجدد والتجديد وقاوم التحنط الفكري والمذهبي والميوعة والتحلل والسقوط في شراك العفوية والارتجال.


القائد الأسير أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية

حكيم الثورة جورج حبش

– مع مرور الأيام والسنين وجدت في الحكيم ليس فقط عمق الفكرة والشمول ولكن الاستعداد والحرص الدائم على التعلم، فإنه كان حريصاً دائماً على التعلم وكان يردد على مسامعنا دائماً قول ماوتسي تونغ: ” حتى تكون معلماُ جيداً عليك أن تكون متعلماً جيداً” وظل الحكيم يعتبر نفسه متعلماً جيداً، حتى يستطيع وحتى يكون جديراً باللقب الذي يستحقه عن كل جدارة لقب المعلم ” المعلم التاريخي”.

– إنه الفكرة والقضية والثورة في صورة رجل، اختصر المعاني كلها، وارتفع عن حدود المألوف، هذه كلمات لا فضل لي في إنشائها ولكنني أعيد قراءتها ونحن يجمعنا كما وسيظل يجمعنا الحكيم نقرأ نتعلم من سفرٍ للثورة، للعطاء، للتواضع، للإنسان، يعلمنا، كما سيعلم أجيالاً تحمل راية التقدم والعدالة الاجتماعية ورفع الظلم عن إنساننا الفلسطيني وعن إنساننا العربي وعن كل إنسان.

– علّمنا الحكيم أن الحقيقة كل الحقيقة للجماهير ولمن يجادله في هذا الشعار كان يوضح، بأنه يدرك أن أمن الثورة وضروراتها توجب التكتم أحياناً … علّمنا الحكيم أن الأخلاق بنية فكرية وسياسية ومسلكية وحذرنا من خطورة ترويج مقولة أن السياسة بلا أخلاق فإنه يفتح عمل الشيطان في كل شيء … علّمنا الحكيم الديمقراطية والتجديد، وقد جسّد الديمقراطية في علاقاته مع الجميع داخل الجبهة وخارجها، حتى أنه ابتدع مفهوم الطلاق الديمقراطي لمن وجد أنه لا يستطيع أن يستمر في الجبهة ومعها، وإحقاقاً للحق وللحقيقة وإنصافاً للحكيم فقد أراد أن يتخلى عن موقعه كأمين عام للجبهة منذ المؤتمر الخامس في 1993 ولكن إلحاحنا نحن رفاق الحكيم وتفاعله مع الانتفاضة المجيدة هو الذي أجل تنفيذ هذه الخطوة للمؤتمر السادس، إيمانه بحتمية انتصار شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية على هذه الغزوة الصهيونية وعلى كيانها في فلسطين كان راسخاً لم يهتز بالهزائم ولا بالنكسات وبكل هذا الزمن المجافي.


من كلمة الجبهة الشعبية في تأبين القائد الحكيم – ألقاها الرفيق. جميل المجدلاوي عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية

حكيم الثورة جورج حبش

– أدرك الحكيم مدى ما كان يتمتع به من إخلاص لقضايا أمته في كل مكان، ومدى ما كان يحمله من يقين لا يخالطه شك، في أن تحرير فلسطين يتوقف على تحرير إرادة الأمة.
الشاعر عبد العزيز المقالح / اليمن


– امتلك فقيدنا هيبة نضال (كاريزما) تعززت بمرور الوقت بفعل سجله النضالي حتى غدا هذا القائد محط اجماع وطني فلسطيني، وحتى من خاصموه في الفكر أو الممارسة، لم يملكوا إلا أن يسلموا بطهارته الثورية، وإخلاصه الوطني والقومي والأممي وهو الذي لم تأخذه العزة بالفكر فقرر الانتقال من الفكر القومي المطلق إلى الماركسية اللينينية، دون أن يفقد هويته وانتماءه.
عبد القادر ياسين / باحث فلسطيني مقيم في القاهرة.


– الحكيم جورج لم يغدر برفاقه، ولا رشاهم بالمناصب، ولا أغدق عليهم المال، فهو لم يكن يتدخل في الشؤون المالية نافحاً هذا امتيازات ليكسر عينه، ويستتبعه، مشترياً ذمة ذاك ليضعه تحت إبطه! عاش متواضعاً، أقرب إلى المتصوف، منسجماً مع فكره، ومع المثل التي حرص على زرعها في نفوس رفاقه.
رشاد أبو شاور / كاتب فلسطيني.


– لا شك أن ذكرى نضالات هذا الفلسطيني الجسور ستبقى ذخيرة حية لشعوب العالم المستضعفة في كفاحها لأجل الحرية والاشتراكية والوحدة والسلام العادل، وسيبقى خطابه الذي ألقاه سنة 1970 في ملتقى الفكر العربي في الخرطوم حول موضوع العلاقة بين الدولة والثورة وخلاف الشيوعيين والقوميين منارة في تحليل القوميين للحركة الشيوعية ومنارة للفكر الماركسي اللينيني في تحليل المواقف القومية، ومنارة للإثنين في تقدير طبيعة التحولات الصغرى وآثارها العظيمة، لكن الآن ماذا يقال لعزاء أمة أنجبت هذا النضال: سوى: هذا الحكيم محمولاً في نعشه .. قومي أنظري كيف تسير الجبال، فللحكيم ورفاقه الإجلال والمجد ولشعبه ولشعبنا شرف موقفه النضير.
المنصور جعفر (الحزب الشيوعي السوداني)


– ان رحيل الرفيق الكبير جورج حبش هو رحيل أحد رفاق الدرب مهما كانت أشكال اختياراتنا في منطلق حياتنا لأن الطريق الطويلة للكفاح أثبتت أن هذه الاختيارات تشترك في نفس المنبع وتحركها نفس الدوافع النبيلة من أجل عمالنا وشعوبنا من أجل الإنسانية جمعاء.
الصادق هجرس / الحزب الشيوعي الجزائري.


– ما أكثر السياسيين الذين كسبوا رهانهم فأتى عليهم الدهر بالنسيان، وما اكثر الذين حفروا في ذاكرتهم أسماء الأنبياء والأولياء والأبطال التاريخيين الذين قضوا ولم يعاينوا ثمرات نبوءتهم أو نضالهم، لم يترك الأولون ما يذكرون به على فالح فعلهم لكن الأخيرين بذروا في النفس معنى لا يزول وارتفعت مقاماتهم على حدود البشري والواقعي.

– هذا ليس نصاً في هجاء السياسيين، ولا هو نص في مديح الابطال والأنبياء والمرسلين، انه أقرب ما يكون الى البوح والاعتراف: البوح بشعور انساني تجاه فقدان معنى رفيع من معاني السياسة في تاريخنا العربي المعاصر، والاعتراف لمن أخذ معه ذلك المعنى وهو يرحل عنا بالجميل التاريخي الذي يليق بأي شريف على هذه الأرض أن يعترف لصاحبه به، وصاحبه جورج حبش: الرجل الذي يكفيك اسمه كي تعرف من هو انه الفكرة والقضية والثورة في صورة رجل اختصر المعاني كلها وارتفع عن حدود المحسوس والمألوف.
عبد الاله بلقزيز / المغرب.


– أنا في حال انسجام مع قوميتي العربية ومسيحيتي وثقافتي الإسلامية وماركسيتي التقدمية… بهذه الكلمات لخص الحكيم هويته الفكرية، ويحظى هذا التلخيص بأهمية حينما نتذكر أنه مرآة مكثفة لهوية الكثير من المثقفين السياسيين الذين كانوا براكسيس حيوي وحدوا الفكر والممارسة في عملية تاريخية معقدة، لم يكن الحكيم من حفظة الكتب ولم تبهره اللفظية الثورية ولم يكن من فصيلة انزياح الواقع أو الذي يبرر الكسل الذهني أو الهبوط العملي، وفي اشتداد الظروف أو سهولتها لم تتعوّم لديه خارطة الوطن أو تختزل، وبقي مزيجاً من رجل الفكر ورجل السياسة ومن حملة المبادئ بل وصانع مبادئ كبير، وعلى غرار ماركس (إياكم والتنازل النظري، إياكم والمساومة على المبادئ) نحت مقولته (لا ينبغي أن ينتهك التاكتيك الإستراتيجية، ولا ينبغي أن تنتهك السياسة الأيدلوجية) لأنه ( يمكن التغلب على هزيمة عسكرية ويمكن التغلب على هزيمة سياسية، أما الهزيمة الثقافية فهي أمّر وأقسى).
أحمد قطامش


– بدأ القائد الحكيم مسيرته النضالية مؤمناً بالثأر والحديد والنار غلافاً وهاجاً لوطنيته لكنه سرعان ما وحَّد في عقله وقلبه – بإخلاص شديد – الوطنية المتوهجة بالقومية المتعصبة بتأثير عاطفي من علي ناصر الدين، العربي اللبناني مؤسس عصبة العمل القومي 1933، وبتأثير عقلاني من ساطع الحصري وقسطنطين زريق بوجه خاص، وظل مخلصاً لأيدلوجيته القومية دون تعصب شوفيني حتى بدأت ملامح الارهاصات الأولى لمفهوم الصراع الطبقي تتجاور مع الصراع القومي عام 1963 وما تلاه من أعوام قبل هزيمة حزيران 1967، وقد تفاعل الحكيم في تلك الفترة – بحذره وهدوءه وعقلانيته المعهودة – مع مفاهيم اليسار والصراع الطبقي عبر القراءة المكثفة التي راكمت الانحياز – بوعي – للاشتراكية والماركسية برؤية قومية، لكن مع الحرص على تماسك بنيان الحركة بعيداً عن التفكك، وكانت هزيمة الخامس من حزيران 1967 بمثابة المهماز الفكري والسياسي للرفيق الحكيم صوب حسم موقفه النهائي لصالح الرؤية والتحليل الطبقي الماركسي للأوضاع العربية بالارتباط الوثيق بالرؤية القومية ووحدة الأمة العربية بقيادة العمال والفلاحين وكل الكادحين كأداة رئيسية تشكل روح النضال القومي وهدفه وأداته في آن واحد .. ومنذ ذلك التاريخ ظل ملتزماً وبوعي ومصداقية عالية بالمنهج الماركسي الجدلي بعد تأسيس الجبهة الشعبية التي حرص من خلالها على الوحدة الجدلية والعضوية بين الوطني والقومي برؤية ثاقبة ووعي عميق بالماركسية ومنهجها كضرورة ومنطلق فكري للنضال التحرري والنهوض القومي العربي حتى آخر نبضة من نبضات قلبه.
غازي الصوراني


– غادرتنا يا حكيم في الزمن السيء، فهل قلبك ما عاد يحتمل الاستمرار في الخفقان وسط كل هذه القلوب الميتة؟ جثة هامدة أصبح عالمنا العربي.
– الاستبداد والقمع أصبحا هما الديمقراطية، والباحث عن الحرية ارهابي ومخرب.
– الأصولية والتخلف والارهاب الفكري صاروا البديل والحل والمنادي بفصل الدين عن الدولة كافر.
– صار المدافع عن الفقراء والكادحين والجوعى جاهل بعلم الاقتصاد والعولمة والخصخصة.
– صار الاحتلال واقعاً ومطلوباً لدى البعض ومن يرفضه ويقاومه مغامر وفاشل.
– صار الزمن سيئاًً .. والأسوأ من ذلك قادم.
– لكل من عرف جورج حبش وقرأه يعلم بأنه لم يتركنا نواجه القادم الأسوأ بلا رؤيا.
نبيه الحلبي / الجولان المحتل.


– هو واضح للغاية في تحديد هدفه، ويمقت الحذلقة والمساومات، وهو يعيش هموم شعبه عن قرب، ولا يعرف الفواصل والحواجز عن الاخرين حتى عند ضرورات الحماية الأمنية للذات، من أجل الكل والقضية العادلة، وانا على ثقة تامة من أن رجلاً مثل الفقيد جورج حبش لا ينتهي دوره بمغادرة هذه الدنيا جسدياً، انه يظل ملهماً لكل الطامحين الى العدل والحرية، والى اقامة العلاقات المثمرة والصادقة البعيدة عن الانانية والمصالح الضيقة بين كل الثوريين أفراداً وجماعات.
آرا خاجادور / العراق


– مثل كل الثوار والقادة الكبار، رحل القائد جورج حبش دون أن يتراجع قيد أنملة عن كل ما آمن به وناضل من أجله، رحل جسداً، ولكن مبادئه وأفكاره التحررية والانسانية لم ولن ترحل، لأن ثائراً بحجم “حكيم الثورة الفلسطينية” لا يموت، بل يبقى خالداً في وجدان كل الثوار والأحرار على امتداد المعمورة، وبالاخص في شرقنا المناضل الوطني والطبقي ضد الاستعمار .. ضد الاحتلال الصهيوني والامبريالية العالمية وعلى رأسها الامبريالية الامريكية وحتى رمقه الاخير ظل فقيد حركة التحرر العربية والعالمية الدكتور حبش مخلصاً لما آمن به.
اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين.


– قد يغيب وجه جورج حبش عن أبناء فلسطين والامة، عن أحرار العالم المنتشرين من اليابان حتى أمريكا اللاتينية، لكن أحداً لن يستطيع أن يغيب صورة حبش المناضل والمعلم والقائد عن ذاكرة فلسطين والامة.
معن بشور / لبنان.


– لقد تربى على يد الراحل جورج حبش أجيال من المناضلين العرب الذين يسجلون له وللجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بكثير من الامتنان وقوفه الى جانب قضاياهم الوطنية كما ترك الحكيم تراثاً نضالياً مهما يمكن استثماره وتفعيله في سبيل خلق معطيات جديدة للأمة العربية في طريقها للتقدم وتحقيق أهدافها النبيلة.
جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) / البحرين


– رحل جورج حبش بالأمس، ولا شك في أن شعب فلسطين سيفقد هذا المناضل الصلب العنيد لأجيال وأجيال، وسيتحول اسمه مع الزمن الى أسطورة تتحدث مع شبيه له سيظهر وسيتابع النضال حتى تتحرر فلسطين وتسترد القدس
شفيق الحوت / قائد فلسطيني – لبنان.


– لقد كان حبش نموذجاً للثوري الحقيقي، فقد قدم لنا اجابات عن الكثير من الأسئلة التي حيرتنا ومنها كيف يمكن لشعب أعزل، بدون سلاح مواجهة جيش مدجج بالسلاح، تؤيده القوى الاستعمارية، وأجاب حبش بأن الكفاح المسلح هو الحل الجذري لمواجهة هذا الواقع شديد التداخل والتعقيد.
احمد بهاء الدين شعبان/ مصر


– ندرك أن غياب المناضل جورج حبش لا يمثل خسارة للقضية الفلسطينية فحسب بل هو مصاب جلل لكل حركات التحرر والتقدم في العالم، وفي وقت تبدو فيه الإنسانية أحوج ما تكون لزعماء من طينة الحكيم حتى يقودوا نضالها ضد الاستعمار والاستغلال والعولمة المتوحشة.
حزب الوحدة الشعبية التونسي


– على مدى ستة عقود خلت من الصراع (1948 – 2008) لم تفارق الراحل الحكيم هواجس الانتصار والعودة بالاعتماد على الأجيال الفلسطينية والعربية الواعدة.
نبيل محمود السهلي / كاتب فلسطيني – دمشق


– أعرف أن كثيراً من أهل الرأي ورجال السياسة كانوا يعودون من اللقاء مع “الحكيم” آخذين عليه تمسكه بالمواقف المبدئية المجافية لضرورات السياسة، وكان جورج حبش يستغرب اعتراضهم، ويفترض – صادقاً – أنهم مخطئون، وان التجربة – لا سيما في مواجهة إسرائيل، ومن يتهاون في حربها – ستكشف لهم مدى غلطهم، محذراً من “أنك إن لم تواجه العدو فانه سيأتيك في قلب دارك”.
طلال سلمان / رئيس تحرير جريدة السفير – لبنان


– جورج حبش هو أحد أبرز أعلام مرحلة رائعة عاشتها حركة التحرر العربي والعالمي، ومن دون أدنى شك يمكن ان يوضع اسمه مع الأسماء اللامعة في تاريخ هذه الحركة مثل جمال عبد الناصر وأحمد بن بلا وفيديل كاسترو وهوشي منة، وتشي غيفارا، وهؤلاء أعلام الحركة النضالية الزاهية في العالم كله. واليوم بوفاة جورج حبش تفقد الثورة الفلسطينية وحركة التحرر العربية واحداً من أبرز أعلامها الكبار والذي ترك بصمات خالدة على حقبات طويلة من النضال العربي منذ النكبة مروراً بكل مراحل الثورة العربية وصولاً إلى أصعب مراحل الأزمة العربية.
نجاح واكيم / رئيس حركة الشعب – لبنان


– آمن “الحكيم” بأهمية التغيير الاجتماعي، الذي يستلزم حشد طاقات نصف المجتمع المعطلة: طاقات النساء، وربط بين تحرير الوطن وتحريرهن، الأمر الذي جعله حريصاً على تكريس وجود المرأة، ضمن هيئات الجبهة كافة، وطرح قضية المرأة بعمق، منذ مؤتمر الجبهة الأول، وإفساح المجال أمام النساء، لكي يتبوآن أعلى المراتب القيادية في التنظيم.
د. فيحاء عبد الهادي


– كان علماني التفكير والسلوك … وأصولياً وطنياً، بالمعنى المعاكس لما هو رائج الآن، في الدفاع عن هويته الوطنية التي لم يجد لها معنى خارج هويته القومية

– كانت بنيته الفكرية والأخلاقية الواضحة شديدة الإحكام والتماسك والعناد، تمتع بكاريزما قيادية نادرة تستعصي على التفكيك، وحين ينزل عن المنبر الملتهب بكلماته النارية وتجلس إليه في خلوة حميمة تشعر بأنك في رفقة أب حنون أو صديق حنون.
الشاعر الفلسطيني محمود درويش


– إن قلت “الثوريون لا يموتون” نعم، أنت على حق الثوريون يحتلون كل الأمكنة في أزقة المخيمات، في معسكرات التدريب، في أقبية التعذيب، يحيون هناك في الوادي الذي لن يبقى فيه غير حجارته، جورج … الآن نطفئ كل الشموع ونستودعك … سنبكي لأن بسمتك الدافئة لن تستقبلنا يوم حريتنا”.
الأسير اللبناني سمير قنطار


– إن جورج حبش الذي نودعه اليوم سيبقى في ضمير الشعب الفلسطيني وفي وجدان الشعوب العربية واحداً من الرموز الوطنية التي يحق لنا أن نعتز بها نحن رفاقه وأصدقائه في الحركة التقدمية العربية. إن تراث جورج حبش هو تراث كبير يكمل، بمواقفه الشجاعة المتغيرة وفق الظروف والشروط التاريخية، تراث أبطال ثورة 1936 الفلسطينية، وثورة ما بعد نكبة 1948، وثورة ما بعد هزيمة حزيران في عام 1967، والانتفاضات التي ما يزال الشعب الفلسطيني يقوم بها لتحقيق أهدافه في الحرية والاستقلال واستعادة الوطن السليب.
كريم مروة


مات الحكيم…. عاشت مبادئه الثورية والأممية…عاشت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

حكيم الثورة جورج حبش

يا جماهير شعبنا وأمتنا العربية … مات حكيم الثورة.. القائد .. المفكر.. الثائر… لكن الثوريين لا يموتون أبدا..فهو القائد الذي ستتذكره الأجيال القادمة بأنه عاش ومات مناضلاً من أجل فلسطين والوحدة العربية … الثوري الذي مثَّل بالممارسة فكرا وطنيا وقوميا وأممياً ثائرا، وسطر على صفحات تاريخ فلسطين والأمة العربية مجداً ثورياً عبر مسيرة ونضال وتضحيات أبناء شعبه وأمته ورفاقه في الجبهة الشعبية التي أسسها مع رفاقه في 11/12/1967 حيث كتب بيانها الأول مخاطبا أبناء شعبه” أيها المناضلون في كل مكان على الأرض الفلسطينية … أيها العمال والفلاحون … يا فقراء شعبنا ونازحيه … أيها الطلاب والمثقفون … أيها الموظفون والتجار: هذه هي البداية ترفع فيها جبهتكم رايات الفداء والصمود والتحدي، ونحن من على أرض الكفاح المسلح لا نعدكم بالأحلام الوردية ولكن بمزيد من القتال، من الصمود، من التعبئة السياسية، ومن الدفاع عن الجماهير العزلاء ضد الانتقام”… ستظل هذه الكلمات نبراساً ووصية من وصايا حكيمنا الغائب الحاضر في عقولنا وقلوبنا.

– جورج حبش، مثَّل مدرسة فكرية وثورية … ورسم تاريخ مشرق مع قادة تعملقوا نجوماً في سماء الوطن … عشقوا فلسطين الوطن والانتماء، بمثل عشقهم لأمتهم ووحدتها في مجتمع عربي ديمقراطي تقدمي … ترفعوا عن ثقافة التعصب والحقد، وزرعوا أشجار التحرر الوطني والقومي لتنبت في صحاري قاحلة قوافل الشهداء ثمناً غالياً للانتصار الحتمي القادم.

– حكيم الثورة … القائد والمعلم جورج حبش … هو ليس آخر عمالقة النضال الوطني الفلسطيني، لكنه كان عملاقاً قومياً وأممياً من طراز خاص، كان وسيظل له حضوره البارز والمؤثر ليس على المستوى الفلسطيني، بل والعربي والعالمي، وشكل قدوة ومثالاً ونبراساً لرفاقه في الجبهة كما لكل المناضلين التقدميين والقوميين الديمقراطيين في أرجاء الوطن العربي.

– لم يكن نبياً لكنه كان قائداً ثورياً، وطنياً وقومياً وأممياً، عاش ومات عملاقاً وفياً لمبادئه في التحرر الوطني والقومي والاشتراكية والوحدة، وكما أن الناصرية ارتبط اسمها بالزعيم الراحل والخالد جمال عبد الناصر، فكذلك حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية، ارتبطتا بالرفيق القائد والمؤسس جورج حبش.

– وإذا كان لنا في الجبهة الشعبية أن نتحدث بفخر واعتزاز عن حكيمنا الرائد الشهيد، وكل أولئك الرواد الشهداء من أبناء شعبنا وأمتنا العربية، فإننا نكتفي بالقول أن جورج حبش تواجد في خضم المحطات التحررية الثورية الصاخبة لشعبنا الفلسطيني وشعوب امتنا العربية في مجابهة الاستعمار والحركة الصهيونية والنهوض القومي الناصري وتصاعد أفكار التحرر والتقدم والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية والوحدة العربية وما رافقها من متغيرات وممارسات ثورية في معظم أرجاء الوطن العربي، لكن هزيمة حزيران 67 وغياب عبد الناصر وما تلا ذلك من متغيرات وانهيارات في كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتفكك المشروع القومي العربي، وتراجع وانهيار اليسار العربي، وصعود التحالف الامبريالي الصهيوني عبر نظام العولمة الرأسمالية، الذي كرس أنظمة التخلف والتجزئة والتبعية والاستبداد في بلادنا التي باتت في مثل هذه الأوضاع المهزومة مرتعاً خصباً لانتشار وتعاظم أشكال الهبوط السياسي والاستسلام للمشروع الأمريكي الصهيوني، حيث تتابعت التراجعات ومظاهر التخلف والإحباط وخيبات الأمل في أوساط شعوبنا العربية كلها، لكن الحكيم القائد ظل بالنسبة لشعبنا وجبهتنا اسما متوهجاً لاهباً، وشعلة متواصلة التألق يكاد اسمه أن يكون مرادفاً للثورة والتحرر الوطني والنهوض القومي الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والاشتراكية والوحدة العربية، كما هو اسم للمستقبل من أجل فلسطين العربية الديمقراطية لكل سكانها.

– إن الأثر العظيم لرفيقنا القائد والمفكر القومي الأممي الثوري، لا يُقوَّم فقط بما قدمه هو بالذات من إنتاج فكري سياسي تشهد له وثائق وأدبيات الجبهة الشعبية منذ تأسيسها حتى آخر لحظة من حياته، بل يُقوَّم بالأخص – وبالقدر نفسه – بما أحدثه من أثر نوعي في عقول وقلوب رفاقه عبر مسيرة الجبهة الشعبية سواء في سلوكه الرفاقي وتواضعه الثوري ورؤيته الثاقبة ومصداقيته وإخلاصه المطلق للمبادئ والقيم التي عاش ومات من أجلها، عبر اندماجه الواعي بحاضر ومستقبل أمته الذي استطاع أن ينسج من خلالها مع كل رفيقة ورفيق في الجبهة علاقة تجلت فيها أجمل وأصدق القيم الثورية والإنسانية التي اختلطت على المستوى الذاتي بأروع وأسمى معاني الأب القائد الحاني المسئول والحامل لكل المشاعر الدافئة التي لم يجد معها كل من التقى به من رفيقاتنا ورفاقنا عند مخاطبتهم له سوى الوالد الرفيق الحكيم، وقد كان وسيظل بالفعل أباً ورفيقاً وحكيماً ملهماً ليس لرفاقه الذين عرفوه فحسب، بل لرفاقه الكادحين من شابات وشباب شعبنا وأمتنا الذين سيسهمون في تجديد وبناء الحركة الشعبية الثورية العربية من أجل تحقيق أفكار ومبادئ الحكيم الذي سيظل حياً بيننا، بريادته ونضاله وفكره، فهو فكر يجسد الانتماء للجماهير الشعبية الكادحة من العمال والفلاحين وكل الفقراء والمستغلين .. هذه الجماهير التي عاش ومات الحكيم مناضلاً من أجلها وملتحماً في مساماتها، فهي عنده صاحبة، المصلحة الأولى في التحرر والتقدم، وهي أيضاً روح المشروع القومي الديمقراطي العربي وأداته الثورية الوحيدة، لذلك كله، سيظل الحكيم ساكناً في قلوبنا وعقولنا لأن أفكاره وممارساته طوال حياته حملت الكثير الكثير من المصداقية والالتزام لزماننا ولمستقبلنا.

وفي هذا السياق نستذكر موقف القائد الراحل أثناء انعقاد المجلس الوطني عام 1988 الجزائر، فبالرغم من موافقته على قرار المجلس آنذاك بالنسبة لإعلان استقلال الدولة الفلسطينية، إلا انه أكد رفضه بأن ذلك يعني التخلي عن الهدف الاستراتيجي، ذلك إن إعلان الدولة كما قال: “جاء يشكل استجابة لشعار انتفاضة شعبنا في الضفة والقطاع وجواباً على سؤال: لمن هذه الأرض؟ فهو يوقف الهجمة الصهيونية الاستيطانية ويحد منها ويقيم لشعب فلسطين دولة هدفها حشد كافة الإمكانيات لمواصلة النضال كخطوة تكتيكية هدفها الوصول في نهاية الأمر إلى أهدافنا الإستراتيجية، موضحاً انه يمكن توظيف الشرعية الدولية لخدمة الشرعية التاريخية ويقول في ذلك “انه في الوقت الحاضر هناك شبه إجماع دولي على ضرورة أخذ الحق الفلسطيني بعين الاعتبار مع إدراكنا بان الحق الفلسطيني وفق الشرعية الدولية لا يتطابق مع حقنا التاريخي والطبيعي في أرضنا، لكنه يشكل خطوة في مصلحتنا ومن الضروري أن نستثمرها ونستفيد منها، بعد ذلك سيتضح أمام العالم وأمام الرأي العام الدولي بشقيه الرسمي والشعبي ان العدو الصهيوني لا يمكن أن يعطينا حقنا الذي اعترفت به الشرعية الدولية، وهذا ما سيمكننا من متابعة معركتنا مستندين الى الشرعية الدولية والرأي العام الدولي الرسمي والشعبي.

– وها هي الجبهة التي أسسها وبناها الحكيم، تسير على نفس مبادئه تتحدى هذا الواقع العربي المهزوم والمأزوم وتشتق الطريق صوب المستقبل، رافعة لشعار الحكيم القائد “لا يمكن ان يكون هناك ثورة دون نظرية ثورية، تركز على الفكر السياسي والرؤية الواضحة للعدو ولقوى الثورة وللواقع الاجتماعي بكل تفاصيله، انطلاقاً من الوعي والالتزام بضرورة الربط المتبادل بين النضال الوطني الفلسطيني والنضال القومي العربي، كوحدة وعلاقة جدلية واحدة، وقد تواصلت الجبهة الشعبية مع هذه الرؤية الموضوعية التي صاغها حكيمها، وهي اليوم – رغم كل ما يتبدى من أزمات أو تراجعات مؤقتة – ، فإنها ستظل رافداً نوعياً متميزاً في مسيرة التحرر القومي الديمقراطي العربي وفي مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني، بل لا نبالغ في القول إنها تمثل حتى اليوم أحد مكونات الذهنية الشعبية والوعي السياسي والاجتماعي للجماهير الشعبية الفقيرة، في وطننا العربي عموماً وفي فلسطين خصوصاً، وهو ما نعتبره في الجبهة، وفاءاً من جماهير شعبنا وأمتنا لكل شهدائنا ومناضلينا عموماً وللحكيم القائد المؤسس بشكل خاص، بما تركه لنا من إرث ثوري وطني وقومي، فقد كان فكره السياسي مرتكزاً على الوحدة العربية والمنهجية العلمية الجدلية، وقد انتشر هذا الخليط من الوطنية والاشتراكية في كل أرجاء الوطن العربي عبر دور وتأثير الحركات الثورية القومية المرتبطة بحركة القوميين العرب والجبهة الشعبية بقيادته، فما زالت الجماهير العربية تستذكر العديد من الإسهامات والانجازات الثورية التي تبلورت وتجلت عبر المحطات أو العمليات الثورية للجبهة الشعبية ضد المصالح الأمريكية، كتفجير أنابيب النفط، وزرع الألغام البحرية لشل خطوط الملاحة البحرية، واختطاف العديد من الطائرات الغربية والإسرائيلية، كل ذلك إلى جانب دور الجبهة الشعبية في تأسيس العديد من العلاقات مع الكثير من الحركات الثورية في العالم في أمريكا الجنوبية وأوروبا وفيتنام واليابان علاوة على العلاقة الرفاقية مع الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية وكل القوى الثورية اليسارية في أرجاء العالم.

– إن الجبهة الشعبية وهي تودع جسد مؤسسها وقائدها ومفكرها المناضل جورج حبش، تستذكر كلمته الأخيرة إلى أبناء شعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات قبل وفاته بأسابيع قليلة، حيث قال: “كلمتي إلى الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة … أذكرهم بان الاستعمار بكافة أشكاله سيرحل عن أرضنا ولنا بالتاريخ عبرة لكن الأمر يحتاج أولاً إلى الوحدة، ثم الوحدة، ثم الوحدة، وان فلسطين هي الهدف، والهدف الراهن والاستراتيجي، فلا نجعل من خلافاتنا وصراعاتنا الداخلية على السلطة الوهمية والتي هي تحت الاحتلال مجالاً لانتصار الآخر علينا، وأدعو الشعب الفلسطيني إلى تنظيم صفوفه، عبر الحوار الوطني الشامل والبنّاء لأخذ زمام المبادرة من العدو، والعمل على وضع الخيار الكفاحي أمام الجميع، رسالتي إلى الشعب الفلسطيني أن الدم الفلسطيني حرام حرام، ولا يجب أن يراق إلا في مواجهة العدو الأكبر”.

– أخيراً، لقد ظل حكيمنا … قائدنا وفياً طوال حياته لحبه الأول فلسطين ومدينة اللد مسقط رأسه التي ولد فيها عام 1925 وأكمل المرحلة الابتدائية في مدارسها ثم انتقل لمتابعة دراسته الثانوية في كل من مدينتي يافا والقدس، ثم تخرج من مدرسة تراسنطة في القدس، وانتقل إلى بيروت عام 1944 للالتحاق بكلية الطب في الجامعة الأمريكية، تخرج طبيباً عام 1951. . وقد كانت سنواته الدراسية في الجامعة الأمريكية أساساً لتبلور فكره الوطني وانتماؤه القومي متأثراً بأستاذه المفكر القومي الراحل قسطنطين زريق، وجاءت نكبة 1948 لتشكل بالنسبة للحكيم منعطفاً ثورياً ونقطة تحول رئيسية ظلت هاجساً طوال حياته، حيث بدأ مع رفاق له تأسيس حركة القوميين العرب عام 1951، وجاءت ثورة يوليو 1952 لتشكل مرحلة هامة جداً في حياة الحكيم السياسية كما في حياة ومسيرة حركة القوميين العرب، حيث بدأ المد القومي بالتنامي بدعم من القائد الخالد عبد الناصر وصولاً لإعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، الأمر الذي أعطى زخماً كبيراً لحركة القوميين العرب، عبر الروابط المتينة والعلاقة المتميزة بين عبد الناصر والحكيم. .. وفي العام 1973 تعرض القائد الراحل لمحاولة اختطاف حيث قامت إسرائيل بخطف طائرة ميدل ايست اللبنانية كان يفترض وجود الحكيم على متنها، لكنه نجى منها بأعجوبة نتيجة لإجراء امني احترازي اتخذ باللحظات الأخيرة قبل اقلاع الطائرة.

– وفي عام 1986 تعرض لمحاولة اختطاف ثانية عندما أقدمت إسرائيل على خطف الطائرة الليبية الخاصة التي كان على متنها من دمشق إلى ليبيا.

– وعشية انعقاد المؤتمر السادس للجبهة عام 2000 ، قرر الحكيم إعفاء نفسه – رغم رفض معظم رفاقه – من منصب الأمين العام للجبهة ومن ضغوط العمل اليومي كمسئول أول للجبهة الشعبية، حيث حدد القائد المؤسس لنفسه بعد ذلك ثلاث مهام فكرية أساسية:

* المهمة الأولى: كتابة تاريخ حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية وتجربته النضالية.

* المهمة الثانية: العمل لتأسيس مركزاً للدراسات يعنى بقضايا النضال العربي، وفي مقدمتها الصراع العربي الصهيوني، ومحرضاً على ضرورة تعمق العقل الفلسطيني والعربي في محاولة الإجابة عن أسباب الهزيمة أمام المشروع الصهيوني، رغم ما تمتلكه الأمة العربية من طاقات بشرية وإمكانيات مادية هائلة.

* والمهمة الثالثة: العمل من أجل إقامة نواة جبهة قومية هدفها حشد القوى القومية العربية من أجل التصدي لمسؤولياتها وتوحيد جهودها في هذه الظروف، وفي مقدمة مهامها في هذه المرحلة مواجهة عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني.

– إن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إذ تودع جسد ملهمها ومؤسسها المفكر القائد المناضل جورج حبش، فهي تعلن لكل جماهير شعبنا وأمتنا بأنها ستظل وفية مخلصة لمبادئه وأفكاره الثورية التي اكتسبت لدى الحكيم مضامين أبعد من معانيها ومظاهرها المتعارف عليها، لأنها مبادئ وأفكار ارتبطت بالأيدلوجية الثورية ومنهجها العلمي الجدلي بمثل ارتباطها بصيرورة حركة التحرر القومي الديمقراطي والتقدم الاجتماعي والاشتراكية، وهو ترابط جسّد التزام الحكيم الدائم بالجماهير الشعبية الفقيرة في فلسطين وكل أرجاء الوطن العربي باعتبارها صاحبة المصلحة الوحيدة في هذا الصراع ضد التحالف الامبريالي الأمريكي الصهيوني وفي الدفاع الحقيقي عن أهداف التحرر الوطني والديمقراطي. ذلك هو المسار الذي حدده القائد الراحل لنفسه ولرفاقه في الجبهة مجسداً بذلك دور المثقف الثوري الذي استطاع أن يضرب لنا مثلاً رائعاً في إقامة العلاقة الجدلية الصحيحة بين المعرفة أو النظرية وبين الفعل والنضال الكفاحي والسياسي، إنها الوحدة بين النظرية والممارسة طريقاً وضمانة وحيدة صوب تحقيق المستقبل المنشود.

نعاهدك أيها الرفيق القائد أن نسير على هدى مبادئك وخطاك رافعين شعارك الخالد ” لا عذر لمن أدرك الفكرة وتخلى عنها”.

الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين / 27/1/2008


حكيم الثورة جورج حبش

أزمة اليسار العربي ..إلى أين ؟….

بقلم القائد الراحل د. جورج حبش / 5/2/2007

لا يمكن الحديث عن أزمة اليسار العربي ، وأسباب حالة الانكفاء والتهميش التي وصل إليها اليوم دون مراجعة تاريخ هذه الحركة ، والوقوف أمام أخطائها ومنعطفاتها على مستوى التكتيك والاستراتيجيا . ولا بدّ أيضاً النظر إلى الموضوع من منظور تاريخي جدلي يدقق ويتفحّص الصيرورة التاريخية لحركة اليسار العربي ، وأهم المفاصل والمحطات التي مرّ بها ارتباطاً بالظروف الموضوعية والذاتية، الداخلية والخارجية.

إن نظرة تقويمية لحركة اليسار العربي ، تفتح باب الأسئلة حول تجارب الأحزاب اليسارية العربية . بجناحيها الشيوعي والماركسي القومي ، خاصة وأن كثيراً من القراءات لتجارب هذه الأحزاب باتت تسلّم بإخفاقها عن استيعاب ووعي حركة الواقع ، وبالتالي فشلها في تغييره . كذلك لا نستطيع التحدث عن يسار عربي دون أخذ واقع التجزئة بعين الاعتبار ، فعدم إنجاز مسألة الوحدة العربية كرّس الواقع القطري ، الذي أفرز بدوره قوى يسارية قطرية طرحت على نفسها برامج ومهمات على مستوى قطري ، أما الأحزاب اليسارية ذات التوجّهات العربية القومية فقد وجدت نفسها عاجزة عن التأثير والفعل العملي على مستوى القضايا القومية ، وانحصر جهدها في المستوى النظري ، حول إشكاليات القومية والأمة ,والعروبة, والتجزئة ,والوحدة ، وقد كُتب الكثير حول هذه القضايا من قبل مفكرين عرب يساريين ، وقوى وأحزاب ، لكن على الصعيد العملي تعمّق واقع التجزئة ، وتبخّر حلم الوحدة ، وتمزقت الهوية القومية إلى هويات جهوية مجزّأة، ولم تُنجز مهام التنمية والتحرر من التبعية للسوق الإمبريالية ، وتفاقمت المشكلات الاجتماعية التي عمّقت الفوارق الطبقية في المجتمعات العربية ، وانتشرت البطالة وتراجع مستوى التعليم والثقافة …. الخ, بمعنى آخر تجلّت أزمة اليسار العربي الذي ورث الأهداف التي طرحها ” رواد عصر النهضة ” في عجزه عن إنجاز أيّ من هذه المهام.

لقد طرح رواد عصر النهضة العربية من خلال احتكاكهم في أوروبا وتمثّل تجربتها ضرورة إجراء تحولات في الواقع العربي, تقوم على تحقيق التصنيع كأساس لتأسيس النمط الرأسمالي الذي يعني تدمير البنى الاجتماعية المتخلفة ( الإقطاع ), وهذا يعني بدوره تمثّل الفكر الذي تبلور مع نشوء الرأسمالية أعني فكر العقلانية القومية, والديمقراطية, والعلمانية ، وعلى هذا الأساس أصبحت مهام التوحيد القومي والتحديث الفكري مهمات جوهرية ، لهذا احتلت مسائل فصل الدين عن الدولة ، وتأسيس الوعي القومي ، وشكل النظام السياسي مسائل أساسية داعبت أحلام النهضويين العرب ، وبدأت ملامح هذه المسألة تظهر مع محمد علي باشا في بداية القرن التاسع عشر ، لكن هذا المشروع هُزم نتيجة تحوّل الرأسمالية العالمية إلى إمبريالية ، وبذلك قُطع الطريق على الصيرورة الطبيعية لنمو بلداننا ، مما ادخل مشروع التطور الرأسمالي في أزمة استمرت حتى أواسط القرن العشرين, حيث أصبحت الفئات الوسطى ( الريفية بشكل خاص ) أساس عملية التحويل التي طالت تدمير البنى القديمة ( الإقطاع ) وأسست لمحاولة بناء الصناعة كأساس للتحويل في إطار مشروع قومي يهدف إلى الوحدة العربية ، لكن تداخل مصالح الرأسمالية العالمية وتسابقها على نهب الدول المستَعمرة ومنها بلداننا العربية ذات البنى المتخلفة ، أوقع البرجوازية العربية في عجز منعها من إنجاز مهام التصنيع, التي استطاعت الرأسمالية في أوروبا إنجازها عبر تدمير البنى القديمة ، والنتيجة كانت عدم تحقيق أحلام النهضة ، وعجز البرجوازية عن إنجاز التصنيع الذي أدّى إلى تحوّلها إلى قطّاع التجارة والخدمات والمال والمرافق الاستهلاكية وابتعادها عن الصناعة ، وهذا ما انعكس على مستوى الوعي, والممارسة السياسية في تكريس الأزمات العميقة ، ممّا دفع بالفئات الوسطى والبرجوازية الصغيرة بعد تفاقم التناقضات إلى استخدام الجيش ( المؤسسة المستقرة الوحيدة ) كأداة انقلابية للوصول إلى السلطة في العديد من البلدان العربية, لكن هذا الخيار انقلب على أصحابه مع تطور التناقضات وانتشار الأوهام والوعي الزائف ، وهذا ما دفع القوى الماركسية التي تبنّت فكرة المشروع النهضوي في الثلاثينات, وخاصة في المشرق إلى أن تتراجع عن مقولاتها حول الوحدة القومية والاستقلال وآليات التطور ، والتنمية التي تضرب علاقة التبعية مع السوق الإمبريالية.

وكان عام 1937 هو عام القطيعة مع هذه المهمات ، ومع تفاقم إشكاليات الواقع بدأت القوى الماركسية اليسارية تتبنى مقولات الماركسية السوفيتية التي نتجت عن “الكومنترن” ، ومنها الموقف من قرار التقسيم عام 1947 الذي ترك ردود أفعال سلبية كثيرة في الأوساط الشعبية, والسياسية العربية ,والفلسطينية تجاه موافقة الحركة الشيوعية على قرار التقسيم ، وأذكر في هذا السياق الحوارات الساخنة التي كنا نخوضها مع الشيوعيين في أوساط الجامعة الأمريكية في بيروت التي كنت طالباً فيها في تلك الفترة . هذا الأمر خلّف شرخاً عميقاً في علاقات قوى اليسار وبشكل خاص بين الشيوعيين والقوميين, كان لها تداعيات سلبية كثيرة وكذلك كانت مقولة التطور اللارأسمالي ـ فيما بعد ـ التي راجت كثيراً في واقعنا في فترة من الفترات ، موضع خلاف لأنها جعلت القوى اليسارية ملحقة بالسلطات البرجوازية الهجينة الحاكمة في العديد من البلدان العربية ، حيث بدأت الدول العربية المستقلة حديثاً عن الاستعمار في الخمسينات تتطور كل منها حسب ظروفها الخاصة ، وطبيعة الأنظمة الحاكمة فيها ، التي وجدت مصالحها تكمن في تكريس مشاريع سياسية واقتصادية تخدم الطبقة السياسية الحاكمة الحديثة ، أكثر من خدمتها لتحولات اقتصادية ,واجتماعية جذرية على المستوى الوطني والقومي ، وهذا الأمر ترجم نفسه بالإثراء السريع للطبقة السياسية التي استفادت من نفوذها في الحكم حيث انتشر الفساد ، والمحسوبيات التي وسمت تلك المرحلة في معظم البلدان العربية ، وهذا ما نعنيه بتكريس واقع التجزئة من الناحية العملية , لأن التطور بات يجري وفق صيرورات قطرية ضيقة ، بمعزل عن المصالح القومية العليا للأمة العربية ، مما عمّق الشرخ والحدود الفاصلة بين البلدان والشعوب العربية … وصولاً إلى المرحلة المتردية التي تعيشها المنطقة العربية الآن ، بعد احتلال العراق وتفاقم الأوضاع في فلسطين ، والتهديدات العسكرية الأمريكية المباشرة للبلدان العربية التي أعادت المنطقة إلى مرحلة الاستعمار.

إن شمولية الموضوع ، وتعقيداته تحتاج بالتأكيد إلى دراسات تحليلية معمقة في الفكر السياسي اليساري العربي وتجاربه ، للإجابة على هذه الأسئلة المتشعّبة ، إذ من الصعوبة بمكان الإحاطة بهذا الموضوع الشائك حول دور اليسار العربي من خلال مقالة كهذه ، مع ذلك سنحاول قدر الإمكان مقاربة الموضوع بتكثيف تصوّر شامل للمسألة بأبعادها الداخلية والخارجية.

إن مسألة وعي الواقع كإشكالية ، تفرض علينا مناقشة الرؤية ، أو الرؤى التي استند إليها اليسار العربي ، وتفحّص مشكلاتها ، ليس على المستوى النظري فحسب ، وإنما على مستوى القضايا العملية التي طرحها الواقع ذاته ، والمهمات والبرامج التي انبثقت عن هذه القضايا ، كي تفضي إلى وسائل حلّها وتجاوزها ، وأعني هنا مسائل القومية : الاستقلال , التجزئة ، التحرر ، الوحدة ، التنمية وأفق التطور الاقتصادي, والاجتماعي العربي ، والمهمات الأخرى التي يحددها الواقع العربي بتعييناته ، على اعتبار أننا لا زلنا في مرحلة التحرر الوطني الديموقراطي وخاصة في فلسطين والعراق ، حيث يفرض علينا واقع الاحتلال مهمات إضافية أساسية تتعلق بمواجهة الاحتلال ودحره .. مثل هذه المهام تتطلب أوسع مشاركة شعبية ، من قِبل جميع القوى الاجتماعية والطبقية الفاعلة ، التي عليها أن تنتظم في أطر جبهوية عريضة ، هي الصيغة الأكثر فعالية لإنجاز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية ، التي يندرج ضمنها مواجهة الاحتلال ، والتحرر من التبعية ومحاربة التجزئة ، والوحدة, وإنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية, وكل هذا يجب أن يرتبط بفهم عميق لمسألة الديموقراطية التي تتجاوز مسألة الحريات السياسية فحسب ، إلى مسألة تحصين البلدان العربية ضد التهديدات الخارجية المحتملة من خلال الإصلاح الداخلي الذي يستدعي أوسع صيغ التحالف الوطني العريض ، والمشاركة الشعبية في القرار السياسي, والاقتصادي, والاجتماعي الفاعل ، الذي يعني ضمناً إعادة المجتمع إلى دائرة الفعل ، بعد أن غُيّب طويلاً.

السؤال الذي يطرح نفسه دوماً في هذا السياق : لماذا أخفقت البرامج التي طرحها اليسار العربي في تحقيق التحولات المطلوبة على أرض الواقع ؟! ولماذا لم يصبح اليسار العربي قوة تغيير حقيقية ؟! ولماذا بدأ هذا اليسار بالضعف بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية؟!

أعتقد أن أهم المشكلات التي أدّت باليسار العربي إلى أزمته ، وبالتالي إلى عدم إنتاج وعي مطابق لحركة الواقع العربي ، هو اعتماده بالدرجة الأولى على استعارة مقولات نظرية جاهزة ، أنتجتها الأحزاب الماركسية العالمية… وإسقاطها على واقعنا ، دون النظر في متطلبات هذا الواقع وإشكالياته . وذلك على اعتبار أن هذه الأحزاب قد حققت في حينه بعض الانتصارات والتحوّلات في بلدانها ، ثم تبيّن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية ، أن هناك ضرورة لإعادة النظر في كل التجربة الاشتراكية ودراستها ، خاصة وأن أصوات كثيرة تعالت بعد ذلك معلنة ” موت الماركسية “. لكن السؤال : أية ماركسية هي التي ماتت … هل هي ماركسية ماركس وانجلز ؟! أم الماركسية ـ اللينينية ؟! أم الماركسية الستالينية التي تعبّر عن الحقبة السوفيتية ؟! وما هي العلاقة بين الأنظمة الشيوعية التي تداعت وبين فكر ماركس؟!

إن السمات السلبية التي رافقت تجربة البلدان الاشتراكية ، لم تنجُ منها أيضاً بعض الأحزاب الشيوعية واليسارية التي لم تصل إلى السلطة ، بما في ذلك الأحزاب اليسارية العربية, وبالتالي بات من المشروع السؤال عن علاقة هذه السلبيات التي طبعت الأحزاب الشيوعية واليسارية عموماً بطابعها , وبين التراث النظري الماركسي باعتباره مرجعية تلك الأحزاب.

لقد سال الكثير من الحبر في نقاش تلك الأسئلة المحورية ,وقد اختلف المفكرون الماركسيون واليساريون عموماً حول تقييم هذه المسألة ، ومن جهتي, يهمني التأكيد في هذا السياق : إن انهيار الأنظمة الشيوعية التي كانت نتاج النظام الستاليني الشمولي ، لا يعني أن البديل هو الديموقراطية البرجوازية أو الليبرالية الجديدة كما يدعو البعض ، بل إنَّ البديل الحقيقي هو الديموقراطية الاشتراكية التي تعني ضمناً ليس الديموقراطية السياسية فحسب ، بل الديموقراطية بمفهومها الأوسع والأشمل, وبأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وهذا ما كانت تفتقده تجارب بلدان المنظومة الاشتراكية . إن الديموقراطية الغربية أو الليبرالية الجديدة ، ستظل خادعة طالما أنها لم تتحْ حيزاً واسعاً للاعتراف بالمنتجين كفاعلين سياسيين على مستوى الرقابة والقرار ، وبالتالي سوف تظل ديمقراطيتها ناقصة وشكلية.

إن تطور العولمة في صيغتها الأكثر وحشية ” الأمركة ” خلق نوعاً من الحراك الاجتماعي الجديد على مستوى العالم … وقد بدأت حركة العولمة البديلة التي تضم في داخلها على المستوى العالمي أطيافاً واسعة من القوى والأحزاب اليسارية, وحركة أنصار البيئة, وهيئات المجتمع المدني ، تناضل بأشكال مختلفة من أجل بلورة صيغ فاعلة للمواجهة ، لكن للأسف ، لا تزال القوى الاجتماعية والحركات السياسية وهيئات المجتمع المدني في بلداننا العربية عاجزة أيضاً عن الانخراط في الحركة العالمية المناهضة للعولمة والأمركة .. لأنها لا تزال جنينية وغير متبلورة بشكلٍ كافٍ لتقوم بالجهد المنوط بها في سياسة هذه الحركة العالمية.

اليسار والوحدة العربية
شغلت قضية فلسطين والوحدة العربية حيّزاً هاماً من اهتمامات الحركة الشيوعية العالمية (الكومنترن ), والحركة الشيوعية المحلية منذ أواخر عشرينات القرن الماضي، وإذا عدنا إلى الوثائق الصادرة عن كونفرنس مشترك جرى بين الحزبين الشيوعيين السوري والفلسطيني عام 1931 ، وخاصة الوثيقة التي نُشرت بعنوان ” مهمات الشيوعيين في الحركة القومية العربية ” سوف نذهل لمدى مقاربة التحليل الماركسي الثوري الذي تنطوي عليه هذه الوثائق ، لنبض الشارع العربي آنذاك ، رغم بعض الأخطاء في تشخيص ( طبيعة الحركة والطبقات الاجتماعية ) ” لقد اتخذت الأحزاب الشيوعية في فلسطين وسورية ومصر ، سنة 1929 وبعدها بناءً على توجيهات الكومنترن وتحت قيادته ، موقفاً واضحاً لا لبس فيه ولا تحايل ، في النقطة الجوهرية : تأييد الحركة القومية الرامية إلى الاستقلال والوحدة القومية ـ المعادية للإمبريالية ـ ضد الحركة الصهيونية .. الحليفة المتقدمة للقوى الإمبريالية وأداتها في المنطقة العربية “.

لقد ميّز لينين تمييزاً صارماً بين القومية المظلومة والقومية الظالمة ، وفرض على الأحزاب الشيوعية في أوروبا تأييد الأولى وشجب الثانية … وقد أكدّت أدبيات تلك المرحلة ” أن الوحدة العربية وقضية فلسطين هما قضيتان من قضايا النضال العالمي المناهضة للإمبريالية ، من قضايا الثورة الاشتراكية في العالم . أنهما القضيتان النوعيتان للنضال المناهض للإمبريالية في الوطن العربي ، وقد درج الماركسيون على القول أنهما فرع من الكل.

“…. إن هذا الموقف الواضح من قضيتي فلسطين والوحدة العربية ، هو تجلٍّ للعلاقة بين الخاص والعام بين قضيتي الوحدة وفلسطين والنضال العنيد ضد الإمبريالية العالمية, الذي تجسّد بشكل خاص في واقع الفترة التي تبنّت فيها الحركة الشيوعية العالمية والمحلية قضية الوحدة وفلسطين بشكلٍ لا لبس فيه ، لأن تلك الفترة كانت فترة صدام كبير بين الاتحاد السوفيتي, والأممية الشيوعية من جهة, وبين العالم الرأسمالي الإمبريالي في ظرف الأزمة الاقتصادية العالمية وبناء الاشتراكية السريع في الاتحاد السوفيتي من جهة أخرى.

ولقد تغيّر هذا الموقف مع تطور الأحداث و تغيّر الظروف ، إذ بدأت الأحزاب الشيوعية تغيّر مواقفها هذه كانعكاس لتغيير مواقف الكومنترن ، من هذه القضايا ، رغم أن الإمبرياليات العالمية قد عملت بشكل حثيث على تمزيق الجسد الحي للشعوب العربية ، وأبقت الدول العربية في حالة من التجزؤ الإقطاعي ، وحرمت هذه البلدان من مقومات التقدم والنمو الاقتصادي والسياسي المستقل ، وكذلك عملت على تجميد ديناميات التوحيد القومي السياسي وخلق الحدود للبلاد العربية ، وساعدت على زرع الكيان الصهيوني في فلسطين قلب الوطن العربي ، وهكذا تحوّلت البلدان العربية حتى بعد استقلال بعضها إلى ملحقات دولُ المتروبول ، دولاً مستقلة شكلياً إلا أنها تابعة للسوق الإمبريالية من الناحية الفعلية ( زراعية ومنتجة للمواد الخام ) ، وهذا ما أفضى إلى بطء تشكّل طبقات المجتمع الرأسمالي ونمو عناصر السيادة القومية التي راحت تنمو بشكل عشوائي وغير منتظم ، وهذا ما سهّل التحالف بين الإمبريالية التي كانت تعمل على تأمين مصالحها ونهب شعوبنا ، وبين القوى الإقطاعية الرجعية العربية و الكومبرادورية التي سيطرت على السلطات في البلدان العربية, وجعلتها قواعد لسياسة الاغتصاب الإمبريالية العدوانية.

هذا الوضع خلق نقيضه فيما بعد ، مع عملية المد العربي التحرري ، وبدأت الطبقة العاملة الناشئة حديثاً وأحزابها ونقاباتها بالإضافة إلى حركة الفلاحين والبرجوازية الصغيرة تلعب دوراً فاعلاً في هذه العملية التحررية وقادت الأحزاب اليسارية بجناحيها الشيوعي والقومي الماركسي, بالإضافة إلى قوى اليسار الأخرى هذه العملية ، التي انضوى بعضها ضمن أحزاب الاشتراكية الدولية ، ومن هنا صار علينا أن نميّز ما بين أجنحة قوى اليسار, وأدوارها حسب الأحداث, والمراحل التاريخية التي مرت بها ، وبين القوى اليسارية الأكثر راديكالية والتي تبنّت مواقف وسياسات أكثر استقلالية ، لكن هذه القوى ظلت أيضاً عاجزة عن تحويل برامجها إلى إنجازات فعلية على أرض الواقع, وعاشت بالتالي أزمة من نوع جديد هي أزمة عدم القدرة على الفعل في الواقع … وعلى المستوى الفلسطيني تعتبر حركة فتح بهذا المعنى ضمن اليسار الاشتراكي الدولي … وكذلك حزب العمل الإسرائيلي ، ومن المعروف أن الاشتراكية الدولية وأحزابها لا تختلف في الغرب عن البرجوازيات الحاكمة إلا ببعض البرامج الاجتماعية الإصلاحية ، وهي تضم طيفاً واسعاً من القوى غير المتجانسة … ومن هنا لا يمكن أن ننظر لليسار الإسرائيلي إلا باعتباره يساراً صهيونياً معادياً لمصالحنا الوطنية والقومية ، عمل على تنفيذ المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين طوال العقود الماضية ، كذلك نجد أنفسنا على خلاف مع الكثير من أطروحات يسار فتح أبو عمار الذي ينضوي أيضاً ضمن حركة الاشتراكية الدولية ، ويجسّد عملياً مصالح الفئات البرجوازية الفلسطينية التي استفادت بعد أوسلو من السلطة وحوّلتها إلى أداة للفساد, و المحسوبيات, والإثراء السريع وغير المشروع للفئات المستفيدة منها على حساب مصالح شعبنا الذي يواجه أعتى أشكال الاحتلال التي أفرزها عالمنا المعاصر ، وهو الاحتلال الصهيوني الاستيطاني الذي يريد أن ينفي شعباً بأكمله ويحل مكانه على أرضه وثرواته وتاريخه … وإذا عدنا إلى نقطة البدء ، نرى أن إشكاليات الواقع … تقتضي على ضوء المنهجية الجدلية التاريخية إعادة النظر في الكثير من القضايا وتحليلها تحليلاً معمقاً للوصول إلى وعي مطابق لإشكاليات الواقع يفرز على المستوى النظري برامج للخروج من هذه الأزمة المستعصية ، وعلى المستوى العملي التكتيك الملائم لإنجاز مهام تلك البرامج, وهذا يقتضي من اليسار العربي والفلسطيني مراجعة كاملة لكل المناهج والبرامج والمهمات المطروحة علينا, للخروج بفهم جديد يعيدنا إلى دائرة الفعل المؤثر في حركة الواقع .. على مستوى الاستراتيجيا والتكتيك الصحيح الملائم لظروف المرحلة الراهنة.

المطلوب فتح أوسع حوار بين أجنحة اليسار العربي ، لإعادة تحليل وتركيب كافة القضايا التي تواجه واقعنا العربي ، من أجل نهوض حركة اليسار العربي مجدداً … ومن جهة أخرى تقتضي الأزمة المستعصية في الواقع العربي عموماً فتح باب الحوار أيضاً بين مختلف التيارات والحركات الفاعلة على اختلاف مشاربها الفكرية والأيديولوجية : الماركسية, والقومية, والإسلامية المتنورة ، إذ رغم الاختلاف على المستوى الإيديولوجي مع التيار الإسلامي فنحن نميّز بين التيار الإسلامي المقاوم للمشروع الإمبريالي الصهيوني, وبين التيار الظلامي الاستئصالي التكفيري الذي يرفض الحوار ويعتبر نفسه البديل المطلق لكافة التيارات الأخرى الفاعلة في الواقع العربي.


حركـة القومييــن العــرب

حكيم الثورة جورج حبش

وفاءً للقائد القومي العربي الراحل جورج حبش وعهداً لمواصلة مسيرة النضال القومي التحرري والديمقراطي التقدمي من أجل إقامة مجتمع عربي اشتراكي موحد خالٍ من الاستغلال قائم على المبادئ الديمقراطية والإنسانية

حكيم الثورة جورج حبش

إلى القائد الحكيم جورج حبش … الراحل من المكان … الباقي في عقول وقلوب رفاقك وفي عقول وقلوب جماهير الكادحين في فلسطين والوطن العربي … لك العهد أن نبقى أوفياء لمسيرتك النضالية وفي القلب منها رسالتك ورؤيتك القومية من أجل بناء مجتمع عربي اشتراكي وحدوي ديمقراطي … تلك الرسالة التي تجسدت في حركة القوميين العرب التي بادرت إلى تأسيسها مع رفاقك عام 1953 … تلك الحركة التي كانت وما زالت – فكرتها – تمثل الأداة الضرورية التي يمكن ان تتوحد فيها ومن خلالها الأهداف والآليات النضالية الوطنية والقومية ضد التحالف الامبريالي / الصهيوني، انطلاقاً من صحة مقولتك الخالدة، أيها القائد الحكيم، من أن الصراع مع العدو هو صراع عربي – صهيوني، وانطلاقاً من تلك الرؤية من ناحية ومن الحاجة الملحة لإعادة تأسيس الحركة القومية العربية الاشتراكية من ناحية ثانية، وتأكيداً لهذا الوفاء الملتزم بالتواصل مع فكر القائد الراحل ومبادئه، تقدم الدائرة الثقافية تلخيصاً مكثفاً لنشأة وتطور حركة القوميين العرب التي أسسها القائد جورج حبش مع مجموعة من رفاقه، انطلاقاً من قناعتنا الموضوعية بأن “حركة القوميين العرب” مثلت كفكرة وكإطار تنظيمي تجسيداً لضرورة تاريخية لم تكتمل عناصرها الموضوعية في سياق التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي العربي في تلك المرحلة، رغم صوابية الهدف والرؤية والرسالة القومية ورغم عمق الإخلاص وجسامة التضحيات التي رافقت مسيرتها، لكن حركة القوميين العرب، رغم ذلك، استطاعت بفضل وعي وإرادة قيادتها وكوادرها ومبادئها القومية الوحدوية أن تفرض ذاتها وتنتشر في معظم أرجاء الوطن العربي، بحيث شكلت ظاهرة متميزة في التاريخ السياسي العربي الحديث، لكنها ظاهرة لم تكتمل أو تحقق مشروعها النهضوي القومي لأسباب خارجة عن إرادتها، وهي أسباب لا تنحصر في الدور الاستعماري والامبريالي والصهيوني فحسب، بل أيضاً في عمق تبعية وتخلف النظام العربي الذي عزز استمرار واحتجاز تطور مجتمعاتنا العربية عبر تحالف شخوص وأدوات النظام الحاكم أو الطبقة السائدة من القوى الرجعية والبيروقراطية والبرجوازية الرثة مع العدو الامبريالي الصهيوني، ومن ثم تكريس مظاهر التبعية والخضوع السياسي والاقتصادي لحساب التحالف الامبريالي الصهيوني، خاصة بعد اتفاقية “كامب ديفيد” وما تلاها في “أوسلو” “ووادي عربة” وصولاً الى كل أشكال التطبيع مع دولة العدو الإسرائيلي في ظل السيطرة غير المسبوقة لنظام العولمة الأمريكي على ثروات ومقدرات شعوبنا العربية، الأمر الذي يفرض على كافة القوى الطليعية الديمقراطية عموماً واليسارية خصوصاً، النضال المشترك من أجل إعادة وإحياء الفكر القومي العربي بمضمون يساري تقدمي إنساني وديمقراطي وبلورة إطاره التنظيمي لنشر وتفعيل الفكرة القومية النهضوية، كفكرة توحيدية لكل شعوبنا العربية واستنهاضها لمقاومة كل أشكال السيطرة الامبريالية الصهيونية وأدواتها الطبقية والسياسية في النظام العربي عبر نضال تحرري قومي وديمقراطي لتحقيق أهدافنا في تأكيد الذات الجماعية القومية بالمعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي في دولة واحدة هي الدولة العربية الاشتراكية الديمقراطية.

تلك هي الدروس والعبر التي نستخلصها من تجربة ونضال القائد الراحل جورج حبش ومن تجربة ونضال حركة القوميين العرب.

فمنذ تأسيسها في 11/ ديسمبر/ 1967 لم تتنكر الجبهة الشعبية لمسيرتها ومنطلقاتها القومية كما عبرت عنها وجسدتها حركة القوميين العرب، الإطار الأم للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فبالرغم من اندماجها شبه الكلي في مسيرة الكفاح والنضال الوطني الفلسطيني من أجل التحرر والعودة وتقرير المصير، إلا أنها ربطت صيرورة ذلك النضال ومستقبله، بصيرورة ومستقبل النضال القومي التقدمي للحركة الثورية على المستويين العربي والأممي، انطلاقاً من إدراكها بأن حركة التحرر القومي تتطلب إحداث تحولات هامة في مسيرتها، يقوم على بناء نظام اشتراكي لدولة الوحدة العربية بما يمكن جماهير العمال والفقراء والمثقفين من خوض معركة بناء الأساس المادي للاشتراكية وتحويل أجهزة الدولة إلى أداة ضاربة في يد الجماهير الكادحة بعد وعيها وإيمانها بالفكرة التوحيدية القومية والتفافها حولها، وفي هذا السياق نستذكر قول رفيقنا الشهيد غسان كنفاني حينما أكد على أن “الساحة العربية (بلدان المحيط العربي خصوصاً ليست جبهة ضرورية فحسب وإنما هي جبهة فلسطين الوحيدة، وان كل شهيد فلسطيني نفقده على الحدود مع إسرائيل، قبل تغيير أوضاع تلك الساحة ثورياً، هو هدر سيحاسبنا عليه التاريخ”، يفسر ذلك ويؤكده مؤتمر شباط 1969 (المؤتمر الثاني للجبهة الشعبية) على شعار “هانوي العربية كقاعدة ثورية تحدث التلاحم بين الثورة الفلسطينية والثورة العربية” انطلاقا من أن “إستراتيجية العمل العربي الثوري تتطابق في خطوطها العريضة مع إستراتيجية العمل الثوري الفلسطيني”.

لقد أكد مؤتمر شباط انه لم يبق في الجبهة سوى الفرع الفلسطيني لحركة القوميين العرب ومنظمة أبطال العودة، من هنا “أصبحت الصورة الجديدة، صورة تطابق شبه تام بين الحركة من ناحية وبين الجبهة من ناحية ثانية، ففكر الجبهة السياسي هو فكر الحركة كاملاً دون أي نقصان، وتكوينها إلى حد بعيد هو تكوين الحركة… وإذا كان التطابق حاصلاً بين الفكر من ناحية والتكوين من ناحية ثانية، فان أي تمييز استراتيجي محدد بين الحركة والجبهة لا يعود قائماً” وبالتالي لا يبقى هناك أي أساس للتمييز ما بين “الحركة” و”الجبهة”، من هنا تبنى مؤتمر شباط خط “انصهار تنظيم الحركة في الساحة الفلسطينية ضمن تنظيم الجبهة” وفق شعار “الحركة في خدمة الجبهة وليس الجبهة في خدمة الحركة” وبهذا المعنى أصبحت “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” حزباً يمثل الفرع الفلسطيني وفق الإستراتيجية السياسية والتنظيمية التي أقرها مؤتمر شباط.

إن قراءتنا لهذه الدراسة عن تاريخ ومسيرة نضال حركة القوميين العرب، الحركة الأم لجبهتنا الشعبية، لا يستهدف فحسب استخلاص الدروس والعبر، بل يستهدف أيضاً، إعادة بناء حزبنا/ جبهتنا وتفعيل دورها الطليعي في فلسطين، انطلاقاً من المحددات السياسية والفكرية والتنظيمية للحركة الماركسية القومية العربية، الكفيلة وحدها بخوض النضال التحرري والديمقراطي القومي لتغيير وتجاوز هذا الواقع العربي المهزوم، وتحقيق أهداف جماهيرنا العربية في مجابهة العدو الصهيوني وإقامة فلسطين الديمقراطية لكل سكانها في إطار دولة الوحدة العربية والمجتمع الاشتراكي العربي الموحد.

الدائرة الثقافية المركزية / نيسان 2008


حركة القوميين العرب … مسيرة نضال

حكيم الثورة جورج حبش

بداية المسيرة :
وحدات التاريخ/ القصة: وحدة الزمن: يبدأ في آذار 1949، حين تم تشكيل “كتائب الفداء العربي” وينتهي في حزيران 1970، حين تم تكريس “تصفية” حركة القوميين العرب شكلاً ومحتوى واسماً، وبالتالي فنحن حيال ثلاثة عقودٍ ونيِّف من الزمان المضطرب والمثير في حياة العرب الحديثة ووحدة المكان، حيث المشرق العربي بما في ذلك الجزيرة العربية الطبيعية، برهاناته العاصفة في العقود الثلاثة التي خلت، هو مسرح تطورات هذا التاريخ/ القصة وأفعاله وأحداثه وانفعالاته وأفكاره وتجربته الدرامية المرّة ودماء ضحاياه.

ووحدة الحدث: فلسطين ووحدة العرب وتحررهم، وأن يكون لهم رأس في العالم.

الظهور الأول لـ “حركة القوميين العرب”

“كتائب الفداء العربي”
رُغم أن وثائق “حركة القوميين العرب” لا تُشير من قريب أو بعيد إلى صلتها بـ “كتائب الفداء العربي” فإنه يمكن اعتبار “الكتائب: بمثابة الظهور الفعلي الأول لـ “الحركة”، إذ ليست “هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل” التي نشطت “الحركة” خلف واجهتها في الطور التأسيسي سوى امتداد عميق لـ “كتائب الفداء العربي” التي كان “مقاومة الصلح مع إسرائيل من ابرز أهدافها، ويفسر ذلك أن “الحركة” ركَّزت في طورها التأسيسي على “مسألة العنف” أو “بناء منظمة كفاحية مسلحة تقارع العدو من خلال العنف”، فينتمي شعار “الثأر” الذي تبنته “الحركة” في إطار منظومتها الرمزية الثلاثية: وحدة، تحرر، ثأر إلى العقلية القومية الفدائية لـ “الكتائب”.

فممن تشكلت “الكتائب”؟ وكيف؟ وما أبرز عملياتها؟
تشكَّلت “كتائب الفداء العربي” في اجتماع توحيدي انعقد في بيروت (آذار 1949) من اتحاد ثلاث “مجموعات” قومية فدائية شابة، هي مجموعة بيروت التي قادها كل من جورج حبش وهاني الهندي، وكانت تضم عدداً من النشطاء القوميين في جمعية “العروة الوثقى” في الجامعة الأمريكية ببيروت، والمجموعة السورية التي كان نقطة بيكارها جهاد ضاحي طالب الحقوق في الجامعة السورية بدمشق، وكان معظم أعضائها من طلاب الجامعة السورية، والمجموعة المصرية التي قادها الفدائيان المصريان المحترفان: حسين توفيق ابن وكيل وزارة الدفاع المصرية يومئذ وعبد القادر حفيد أحمد عرابي.

كان للدكتور قسطنطين زريق بوصفه مستشار جمعية العروة الوثقى، الدور الأبرز والفعال، الذي ارتبط إلى حد بعيد ببروزه كأحد أهم المفكرين القوميين العرب الشباب في أواخر الثلاثينات، إذ أصدر زريق عام 1939 كتابه الأول “الوعي القومي” الذي سيغدو مرجعاً تكوينياً من مراجع أجيال عديدة من القوميين العرب.

كان زريق في البداية ينتقي أعضاء الحلقة ويصطفيهم، إذ انه وهو المؤمن بنظرية النخبة قد طمح إلى أن يلعب مستفيداً من وضعه كمستشار للجمعية، دور مرشد للشباب القومي، إذ رأى في الحلقة التي شكلها في إطار “الجمعية” نواة لحركة قومية عربية لا بد لها أن تتشكل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبهذا المعنى كان زريق على وعي “حركي” مسبق بإمكانية تسييس حلقته القومية الثقافية وتطويرها إلى نواة حزب قومي، وقد دعا علناً وبوضوح عام 1948 إثر النكبة الشباب القومي إلى تشكيل هذا الحزب.

كان المناخ الفكري والأيدلوجي لهذه الحلقة في النصف الأول من الأربعينات شديد التأثر بالنظرية التاريخية الألمانية، ومن هنا كانت الحلقة مُسلّمة بان لكل أمة خصائص تاريخية تنفرد بها عن الأمم الأخرى، وبان للأمة العربية رسالتها المنبثقة من تلك الخصائص، والواقع أن مفهومي شخصية الأمة العربية ورسالتها هما من المفاهيم المركزية في “الوعي القومي” لزريق، وقد تأثر بهما عفلق لاحقاً لا العكس.

تأثر زريق بمفهومه عن شخصية الأمة ورسالتها بالرومانسية الألمانية التي تقول بأن لكل أمة رسالة يعينها الله أو القدر أو التاريخ، وان الأمة توجد لكي تحقق هذه الرسالة.

وفي ضوء واقع التجزئة القومية العربية إلى دول، حرص زريق على تقديم درس الوحدة الأوروبية في ضوء النموذجين الألماني- البروسي والايطالي، وكان بسمارك وغاريبالدي وماتزيني يحضرون روحياً في نقاشات الحلقة إلى جانب فيخته ونيتشه وشبنغلر وبرغسون.

ووسط هول “الكارثة” لم يتأخر الأستاذ –المرشد عن توجيه “الحلقة” إذ لن ينتظر يوم 30 /10/ 1948 حين تم طرد آخر فصائل “جيش الإنقاذ” (جيش المتطوعين العرب) من الجليل الأعلى، واستكملت النكبة دورتها المأساوية الأولى، لينتهي الفصل الدرامي الأول من المواجهة العربية –الإسرائيلية عام 1948، بل سيبادر في آب من العام نفسه إلى نشر كتابه “معنى النكبة” الذي سيشكل بدوره مرجعاً تكوينياً لأجيال عديدة من القوميين العرب.

وربما كان زريق أول من استخدم كلمة “النكبة”، ففي هذا الكتاب الخطير بكل المعايير، يطرح زريق بوصفه مرشداً قومياً عربياً، تحليلاً عميقاً للكارثة يهدف إلى تحديد طريق “محاربة الصهيونية واستئصال جذورها والتغلب التام عليها” ويرى أن المعركة ضد الصهيونية “لا تتم في معركة واحدة بل تتطلب حرباً مديدة الأفق، بعيدة الأجل وان السبيل إلى الغلبة التامة النهائية عليها هو تبدل أساسي في الوضع العربي وانقلاب تام في أساليب التفكير والعمل والحياة بكاملها، فما أحرزه الصهيونيون، لم يكن بسبب تفوق قوم على قوم، بل يعود إلى تميز نظام على نظام، سببه أن جذور الصهيونية متأصلة في الحياة الغربية الحديثة، بينما نحن لا نزال في الأغلب بعيدين عن هذه الحياة متنكرين لها، مستنتجاً بحق أن الخطر الصهيوني لا يتصدى له ويرده إلا كيان عربي قومي متحد تقدمي، ولا يتم ذلك إلا بانقلاب أساسي في الحياة العربية، وبانقلاب أساسي في نظم العيش.

يمكن القول باختصار أن زريق ربط بوضوح “رد الخطر الصهيوني” بتحقيق” الوحدة العربية”، وهو ربط أساسي في وعي “الكتائب” وفي “حركة القوميين العرب” عموماً، وهو يشير إلى الوحدة العربية باسم “كيان عربي قومي متحد” وتصور زريق “الحرب المديدة الأفق” من اجل استئصال جذور (الصهيونية) والتغلب التام عليها” بقيام مثل هذا الكيان –كيان الدولة القومية الحديثة، التي تحقق “انقلاب” المجتمع العربي من أوضاع العصور الوسطى حسب تعبيره إلى أوضاع العصر الحديث، وبناء المجتمع القومي الصناعي العلماني التقدمي، أي انه ربط إستراتيجية تلك الحرب بما يمكن تسميته بالحداثة وفق مفهوم القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين لها.

ويحدد نقطة الانطلاق لها بمبادرة “الفئة المختارة المبدعة” من الأمة التي حققت الانقلاب في صميمها على حد تعبيره بـ “تشكيل” أحزاب ومنظمات محكمة تقوم على عقيدة صافية موحدة، وترتبط بولاء صحيح متين، تخضع كافة نزعاته له، وان تبرز إلى الوجود الزعامة الحقيقية، وان تُولِّد أولئك الأفراد الذين يبنون الدول ويخلقون الأمم ويصنعون التاريخ، وظهر الأستاذ –المرشد في ذلك وكأنه يدل الحلقة على الطريق، ويعطي إشارة البدء لتحولها إلى “منظمة محكمة”.

ومن هنا أخذت “الحلقة” القومية في بيروت –ومن ابرز شخوصها د. جورج حبش- تتحول بسرعة، كما باتت توصف في الجامعة الأمريكية، تحت وطأة آثار النكبة وضغوطاتها المأساوية، من حلقة قومية أيدلوجية تربوية تقتصر على الدور التكويني، إلى نوع من إطار “لتشكيل منظمة قومية فدائية سرية شبه عسكرية تأخذ على عاتقها “قطع رؤوس الخونة”.

واتصلت الحلقة من خلال جورج حبش رئيس جمعية “العروة الوثقى” بالأستاذ –المرشد زريق وفاتحته بأمر تشكيل منظمة فدائية سرية، فاختارت شكل حركات الشباب على الطريقتين الألمانية والايطالية في القرن التاسع عشر، وأعادت إنتاجه في شكل منظمة قومية طلابية فدائية سرية شبه عسكرية، تعبد فكرة الأمة، وترى الأمة قدراً والوحدة مصيراً، وتعتبر طريق الوحدة طريقاً وحيداً لاستعادة فلسطين.

كان هاني الهندي طالب العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية، مهندس التعارف والاتصال واللقاء ما بين المجموعات الثلاث: البيروتية والسورية والمصرية، وفي الجامعة الأمريكية تعرف على عصبة “القوميين” الثمانية الذين سيؤسسون بعد حلِّ “الكتائب” “حركة القوميين العرب”، وشكَّل هاني الهندي لاحقاً في قيادة “الحركة” أحد أطراف الرباعي القيادي المتماسك الذي كان أقرب إلى قيادة داخل القيادة، وهذا الرباعي هو: جورج حبش، وهاني الهندي ووديع حداد وأحمد الخطيب.

النواة المُؤَسِّسة:
تألفت النواة القيادية المؤسسة لما سيعرف لاحقاً باسم “حركة القوميين العرب” من ثمانية طلاب قوميين، على أهبة التخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت، كانوا جميعاً من نشطاء جمعية “العروة الوثقى” وقيادييها، ومن “مريدي” حلقات قسطنطين زريق ونبيه أمين فارس.

كان أهم شيء اتفقت عليه النواة هو اختبار بناء ما يمكننا تسميته بـ “أخوية” قومية سرية، تُكثِّف بحد ذاتها مجتمعاً قومياً نخبوياً مصغراً، لا نجد تعبيراً مناسباً عنه أفضل من تعبير “مجتمع المؤمنين”.

تميزت هذه “الأخوية” القومية تبعاً لذلك، بما يتميز به أي “مجتمع مؤمنين” أي بالمسلكية الطهرانية، والسمو القومي الروحي، والتزمت الإيماني، والانضباط التام، فكانت أدق تفاصيل الحياة الشخصية من زواج أو سفر تحتاج إلى قرار جماعي، وتعبيراً عن ذلك بقي جورج حبش في بيروت صيف عام 1951 رغم تخرجه نزولاً عند قرار النواة، ووصل تزمت “الأخوية” حداً أنها تحت هول كارثة فلسطين كادت أن تعتبر الضحك جريمة، وقد روى لنا جورج حبش كيف أن النواة كانت تنظر إلى مسرات الحياة اليومية الاعتيادية نظرتها إلى إثم يرتكب ورأت فيها “ضحكاً في المأتم، وسفهاً في المصيبة، وتهتكاً في الذل، وقهقهة في العار! أناشيد غرام مبتذلة رخيصة!! وفخفخة فارغة مخرِّبة مجرمة! مآدب وحفلات وسكر وفجور! كأن شيئاً في دنيا العرب لم يقع.

فمن هو مرشد “القوميين العرب” في طورهم التأسيسي؟

المرشد الروحي: من قسطنطين زريق إلى علي ناصر الدين:
يذهب بعض الدارسين إلى أن دور زريق أهم مما يوصف به عادة وانه وَجد في “الحركة” الوعاء الملائم لتجسيد أفكاره.

وكان زريق على وعي حركي مُسبق بضرورة تحول حلقته القومية-الأيدلوجية إلى حلقة سياسية منظَّمة ودعا بُعيد النكبة مباشرة الشباب إلى تشكيل “منظمة مُحكمة” لـ “استئصال الصهيونية” تقوم على عقيدة صافية موحدة، وترتبط بولاء صحيح متين، تخضع كافة نزعاتها له وتولد أولئك الأفراد الذين يبنون الدول ويخلقون الأمم ويصنعون التاريخ وتعمل بوصفها الأداة التي توحِّد نزعات الأمة، وتصلِّب عودها، وتبعث روحها و”تصهرها كلها في قالبٍ واحد، وتُخرجها امةً موحَّدة النزعات، متماسكة الأجزاء، تقف في وجه الأحداث كتلة واحدة.

وقد اعترفت الحركة طوال طورها القومي التقليدي بسلطة زريق المعنوية، فكان على كل مرشح لعضويتها أن يدرس كتابيه الهامين: “الوعي القومي” (1939) و”معنى النكبة” (1948) جنباً إلى جنب مع كتب ساطع الحصري.

وفي هذا السياق اتصلت النواة التي تُحكم سيطرتها على جمعية “العروة الوثقى” عام 1951 بعلي ناصر الدين (1892-1974) فاختارت دون تردد منهجه العاطفي المؤثر منهجاً تاماً لها، ويتلخص هذا المنهج في الترسيمة التالية التي تشكل الوحدة الباراديغمية المولدة لكل أفكار ناصر الدين في المحاضرة وهي: “أن شيئاً واحداً بعينه، يمحو العار، وليس يمحوه أي شي على آخر، على الإطلاق هو الثأر”.

لقد غذَّى ناصر الدين فكرة النواة عن تصميم “الحركة” في شكل مجتمع عقائدي مُصَغَّر، يقوم على شكل “الأخوية” أو “مجتمع المؤمنين” أي على نموذج الحارس القومي الذي يفني في الأمة كما يفني الصوفي في الله.

وكانت النواة المؤسٍّسة تعتبر السلوك القومي الطهراني وفق فهمها المثالي لها أبرز ما يميزها عن البعث واحد دوافع فكرة “الحركة” نفسها، ويعني السلوك الطهراني هنا أن يَهبَ العضو نفسه بشكل مطلق للعمل القومي، ويفسر ذلك تهيب عناصر الجيل الأول في الحركة حتى من مشاهدة فيلم سينمائي، أو من أية شبهة توحي بانغماسهم بمغريات الحياة اليومية، وكان ذلك تدريباً لاهوتياً صعباً إذا ما عرفنا أن معظم الجيل الأول كان من أبناء “الذوات” و”العائلات” الذين ولدوا أساساً في بيئات “مترفة” قادرة على تلبية الملذات.

حققت النواة خلال الفترة الفاصلة ما بين صيف 1951 وأوائل عام 1954 ثلاثة نجاحات مهمة نسبياً بالنسبة لها، في لبنان والكويت والأردن.

ففي لبنان تمكنت النواة من السيطرة على جمعية “العروة الوثقى” في بيروت – الجامعة الأمريكية وضمان استمرارها كـ”جمعية قومية” في حين أسس أحمد الخطيب مع عدد من الشخصيات القومية في الكويت النادي الثقافي القومي .

أما في الأردن ففتح الدكتور جورج حبش حال عودته في أوائل عام 1952 عيادة شعبية في شارع الملك طلال في عمَّان تقدم خدماتها الطبية بشكل شبه مجاني لأبناء المخيمات، ثم لحق به الدكتور وديع حداد اثر تخرجه حوالي منتصف العام وانضم إلى عيادة حبش.

وتشكيل فرع حركة القوميين العرب عام 1953، وكان أهم عمل للفرع الجديد هو إصداره مجلة “الرأي” التي تم ترخيصها باسم الدكتور أحمد الطوالبة (أردني) .

لَعِبَت مجلة “الرأي” دوراً أساسياً في التعبير عن تطور “الحركة” في طورها الأول، وكانت هذه المجلة توزَّع مجاناً في الضفة الغربية، وشنت حملة قاسية ضد حلف بغداد ودعاة الأحلاف والنفوذ البريطاني في الأردن، مما دفع السلطات الأردنية إلى إيقافها عن الصدور في آب 1955 بعد ثمانية شهور فقط من ظهورها، ولكنها صدرت مرة ثانية في دمشق بعد ثلاثة شهور تحت الاسم ذاته، حيث دعت إلى إسقاط “الحكم الرجعي” في الأردن، وتولى هاني الهندي عضو النواة المُؤَسِّسة للحركة رئاسة تحريرها.

بعد مؤتمر عمَّان عام 1954 بقليل الذي تقرر فيه تأسيس فروع لـ “الحركة” في الأقطار العربية، تشكلت لجنة رباعية مؤلفة من الدكتور جورج حبش وحمد الفرحان ومن عضوين آخرين، وقد صمَّمت هذه اللجنة مبادئ الحركة التنظيمية وبنيتها الهرمية.

تمَّ على هذه الشاكلة نقل الفكرة إلى عمل وتشكيل “الحركة” كتنظيم قومي مركزي، فترك حامد الجبوري (عراقي) وصالح شبل (فلسطيني) عمَّان حيث كانا يساعدان جورج حبش على بناء “الحركة” في الأردن، وأسسا بشكل جنيني فرعاً عراقياً للحركة عام 1955 في حين عاد نُشطاء “الحركة” في جمعية “العروة الوثقى” إلى عرينهم في “الجمعية” وبدؤوا بمحاولة استيعاب “منظمة الشباب القومي العربي” في كلية المقاصد البيروتية التي كان يرأسها محمد كشلي، أما احمد الخطيب في الكويت فأسس فرعاً صلباً سيلعب دوراًَ استراتيجياً في الحياة السياسية في الكويت خصوصاً وفي الخليج والجزيرة العربية عموماً، بينما عاد هاني الهندي إلى دمشق وتولى تحرير “الرأي” التي أخذت تصدر منها إثر عمان.

واجهات “الحركة” في الطور التأسيسي:
عملت “الحركة” خلال طورها التأسيس، من خلف عدة واجهات، أهمها: جمعية “العروة الوثقى” في الجامعة الأمريكية ببيروت، والنادي الثقافي العربي، وهيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل.

المؤتمر التأسيسي الأول: الشباب القومي العربي
بعد أسابيع قليلة من فشل العدوان الثلاثي على مصر، كرّست “الحركة” التزامها بالتوجهات الجماهيرية التحررية التي ستحمل اسم “الناصرية”، فبادرت النواة المؤسسة إلى عقد المؤتمر الأول لـ”الحركة” في 25 كانون الأول 1956 ببيروت، وكان هذا المؤتمر في حقيقته اجتماعاً قيادياً مصغراً، غير أن “الحركة” تعتبره بمثابة مؤتمره الأول.

أقر المؤتمر لأول مرة حمل اسم تنظيمي محدد يميّز “الحركة” سياسياً كحزب مستقل عن الأحزاب القومية الأخرى، وأصدرت “اللجنة التنفيذية القومية” المنبثقة عن هذا المؤتمر “بيانها إلى الشعب العربي” دعت فيه إلى رفع شعار “وحدة مصر وسورية والأردن”.

عملت هذه اللجنة كقيادة قومية جماعية لـ”الحركة”ن وتألفت من أحد عشر عضواً هم: جورج حبش (فلسطيني) ووديع حداد (فلسطيني) وصالح شبل (فلسطيني) وحامد الجبوري (عراقي) وهاني الهندي (سوري) وأحمد الخطيب (كويتي) والحكم دروزة (فلسطيني) ومصطفى بيضون (لبناني) وثابت المهايني (سوري) ومحسن إبراهيم (لبناني) وعمر فاضل (ابن مغترب عربي في الكاميرون).

ويشير الدكتور حبش إلى أن اسم “حركة القوميين العرب” قد تم إقراره في المؤتمر الأول (25 كانون الأول 1956 في بيروت)، حمل هذا الاسم في عموم التنظيم القومي فحملت “الحركة” اسم “حركة القوميين العرب”.

كان الفكر التنظيمي لـ”الحركة” من الناحية الإجرائية أو العملية هو فكر قيادتها المؤسسة، من هنا كان هذا الفكر محكوماً بمفهوم هذه القيادة للحارس القومي الحديدي، الذي يفنى في الأمة، كما يفنى الصوفي في الله، ويفسر ذلك أنها لم تُعنَ بـ”الكمية” حسب تعبيرها بل بـ”النوعية”، فحاولت أن تبني في إطارها المخصوص مجتمعاً مكثّفاً قائماً بحد ذاته، لا نجد وصفاً أدق له من وصف “مجتمع المؤمنين” أو مجتمع “الأخوية” العقائدية.

وفي هذا المنظور رأى بعض “القوميين” أن “حركتهم” كانت تعلم “الأخلاق”، كدرس ثابت من دروسها، والواقع أن عضو “الحركة” بالنسبة للمجتمع، كان في فهم القيادة المؤسسة اقرب إلى “الكاهن” بالنسبة للمؤمنين الكثالكة، فما كان يصح له أن يكون فاسقاً أو منحرفاً،فكادت المسلكية الشخصية وأخلاقياتها أن تكون درساً يُعلمّ ويراقب وتُصحّح تمارينه وتعطى له العلامات التي تتدخل في تحديد مستوى كفاءة العضو.

بهذا المعنى قامت “الحركة” على نظام الطاعة، وهو ما عبرت عنه نظريتها التنظيمية التي حملت اسم “المركزية المرنة”.

وبينت “الحركة” أن “المركزية المرنة” “اقرب بطبيعة الحال إلى المركزية” يحكمها نظاما السرية والطاعة.

ولا تختلف “المركزية المرنة” هنا من الناحية الإجرائية عن التطبيق الإجرائي الفعلي لمبدأ “المركزية الديمقراطية” في الأحزاب الشيوعية.

فكما هو الأمر في الحزب الشيوعي تقريباً، كان عضو “الحركة” يُعزل على مختلف المستويات، وكان على كل عضو أن يكتسب اسماً حركياً مستعاراً، وإلا يسعى لمعرفة أية تفصيلات تتعلق بحياة مسؤوله، فمكان عمل هذا المسؤول وعنوان منزله واسمه الصريح هي كلها أمور يجهلها أعضاء المرتبة التي يكون مسؤولاً عنها، كما أن شخصية المسؤول باسمه الحركي هي محور ترتيب اللقاء أو الاجتماع، ولان هذا الأمر مخالفة لطبيعة الإنسان بوصفه إنسانا، فان “الحركة” كانت تستدرك ذلك، بإلحاحها على “تمويت” العضو لأي معرفة له بالمسؤول عنه، وبضرورة التعود على مخاطبته باسمه الحركي وليس باسمه الحقيقي، أي بشكل تتحول فيه إجراءات السرية إلى عادة، ومن هنا نشأ في “الحركة” ما يمكن تسميته بعبادة السرية التي تكتنف إلى الآن كثيراً من الأعضاء رغم حل “الحركة” وموتها كصيغة تنظيمية.

الهرم التنظيمي:
كانت “حركة القوميين العرب” هرماً تنظيمياً تراتبياً، تحكمه العلاقات العمودية، وتخضع فيه القيادات أو المراتب الدنيا إلى القيادات أو المراتب العليا، وبموجب تلك البنية الهرمية التي تقوم على المركزية الإدارية التنفيذية، عُزل الأعضاء عمودياً وأفقياً عن أية علاقات أو معلومات لا تعتبرها “الحركة” ضرورية للمرتبة التي هم فيها، فكان الهرم التنظيمي يتدرج من “الخلية” إلى “الرابطة” فـ”الشعبة” فـ”قيادة الإقليم” فـ”لجنة الإدارة” (المكتب السياسي لاحقاً) فـ”اللجنة التنفيذية القومية” فـ”المؤتمر القومي”.

1- الخلية:
تُعتبر “الخلية” الوحدة الأساسية في “الحركة”، إذ أنها صلة الوصل ما بينها وبين الجماهير، وتتألف كل “خلية” من ثلاثة إلى سبعة أعضاء وفق تنظيم جغرافي (خلايا الأحياء) أو مهني (خلايا العمل)، وتجتمع كل “خلية” أسبوعياً، وتناقش جدول أعمال مقرر يتضمن البريد الوارد (الخطي أو الشفهي) من المراتب العليا، وجوانب سياسية وفكرية وتنظيمية، ومالية، وما تم انجازه من عمل خلال الأسبوع المنصرم وخطة الأسبوع القادم.

كان عضو “الخلية” وهو ما يعادل العضو العامل يقود “الحلقات” أو “الأنصار” ويخضع هؤلاء “الأنصار” أو “الأصدقاء” إلى مرحلتين هما: مرحلة ما قبل التركيز ومرحلة التركيز.

وتشمل مرحلة ما قبل التركيز دراسة ما يتم ترشيحه للعضوية دراسة كاملة من مختلف الجوانب، وزجه في المجالات العملية التابعة للحركة مباشرة أو جزئياً، سيما منها الأندية الثقافية، ثم تأتي مرحلة التركيز التي تقوم على مخطط مدروس ومتكامل يتم بموجبه إشراك العضو المرشح في مجالات معينة أو تكليفه ببعض المهام وتوجيهه ومراقبته من دون أن يطلع على أي سر من أسرار الحركة، وكانت “الحركة” تقوم أحياناً بتكليفه بمهام وهمية للتأكد من مدى دقة تنفيذه لها وجاهزيته.

ومن هنا كانت “الحلقة” نوعاً من “مصفاة” أي يعبر منها عدد من المنتسبين المؤقتين، ويتم تنظيم من تثبت كفاءته منهم، وافترض بمدة الاختبار أن تكون ستة أشهر إلا أنها قد تطول عملياً إلى ما هو أكثر من ذلك.

والواقع أن عضو الخلية كان يتعلم آليات الاتصال، وكيفية استغلال مهرجان، وكيفية تنظيم الأعضاء المرشحين وفق نشرات داخلية وتوضيحية يتم نقاشها في الخلايا بشكل منتظم، ويعد بذلك كي يكون إداريا حزبياً من نوع خاص في مجال مرتبته.

2- الرابطة:
وتتكون من ثلاثة إلى سبعة أعضاء تعينهم الشعبة، وقد تكون رابطة جغرافية (في حي أو قرية أو عدة أحياء أو قرى أو ناحية) أو مهنية (في مؤسسة أو شركة أو معمل أو عدة شركات) وتنفذ خطط “الحركة” في مجال عمل مرتبتها، وتقود عمل “الخلايا”.

3- الشعبة:
وتعادل نوعاً من قيادة الفرع، غير انه يوجد في محافظة واحدة أكثر من شعبة.

وقد اعتمدت “الحركة” في بعض الأقطار على سياسة تنظيم “وجوه” بارزة في المحافظة أو المدينة ووضعها في الصدارة أي في موقع الشعبة، غير انه لم يكن ضرورياً أن تكون هذه الوجوه رغم وظيفتها الرسمية على دراية تامة بتفاصيل العمل، فكان هناك أحيانا أشبه ما يكون بجهاز خاص في كل شعبة.

4- قيادة الإقليم:
وتضطلع بوظائف قيادة قطرية لـ”الإقليم” أو “القطر”، ويتم تعيينها من قبل اللجنة التنفيذية القومية، وقد نصت بعض التعديلات التنظيمية اللاحقة على أن يكون مسؤول الإقليم معيَّناً من قبل المؤتمر الإقليمي.

5- لجنة الإدارة:
وتعتبر بمثابة مكتب سياسي منبثق عن اللجنة التنفيذية القومية، تضم المتفرغين الذين يقودون العمل في عموم التنظيم القومي، وينفذون قرارات “اللجنة التنفيذية”.

6- اللجنة التنفيذية القومية:
وهي بمثابة قيادة قومية لـ”الحركة” تميزت بهيمنة رباعي: الدكتور جورج حبش والدكتور وديع حداد والدكتور أحمد الخطيب وهاني الهندي عليها، الذين مثّلوا القيادة المؤسسة لـ”الحركة”، وقد ظلت هذه القيادة مسيطرة على “الحركة” حتى مؤتمر 1963.

ومنذ أواخر الخمسينات، قسمت “اللجنة التنفيذية” أعمالها بين ثلاث لجان:

أ‌- المكتب السياسي: وهو (لجنة الإدارة سابقاً).

ب‌- اللجنة الفكرية:

ت‌- اللجنة المالية:

7- المؤتمر القومي:

اعتبر المؤتمر القومي أعلى سلطة في “الحركة”ن وكان يجتمع دورياً مرة في السنة.

الأطوار الأيدلوجية الثلاثة:
يُمكن القول في منظور التطور الأيدلوجي لـ: “حركة القوميين العرب”، من ظهورها الجنيني في آذار 1949 تحت اسم “كتائب الفداء العربي”، أن الخطاب النظري “الحركي”، قد مرّ بثلاثة أطوار أيدلوجية متميِّزة، هي الأطوار القومية التقليدية، والاشتراكية العربية، والماركسية.

أخذت “الحركة” بدءاً من عام 1959 على وجه التحديد، تواجه من داخلها أول تحد أيدلوجي وسياسي لتكوينها القومي التقليدي، وذلك اثر تقرير “اللجنة الفكرية” التي كان يترأسها محسن إبراهيم .

كان هذا التقرير في مختلف وجوهه، انقلاباً أيدلوجيا وسياسياً، طرح إعادة النظر جذرياً ببنية الخطاب القومي التقليدي لـ”الحركة” وبمنطلقاته النظرية – السياسية، فطالب باستبدال شعار “الثأر” بشعار أساسي من نوع “تحرير فلسطين”، ونقض مطابقة الحركة ما بين اليهودي والصهيوني، ورفض نظرية المرحلتين مؤكداً على التشابك بينهما، وأكد على ضرورة إعادة النظر بمبدأ الوحدة بأي ثمن، وجعل الموقف من الوحدة رهناً بمضمونها السياسي، ومن هنا يمكن اعتبار هذا التقرير نوعاً من إرهاص مبكر بالطور الاشتراكي العربي الذي ستدخله “الحركة” اثر الانفصال السوري.

وكان من ابرز معالم هذا الإرهاص عام 1959، هو إدانة “الاتحاد الهاشمي” من دون تردد ووصفه بـ”الاتحاد المزيف” الذي جاء، رداً وحدوياً، ممسوخاً على البناء الوحدوي السليم، والذي قام بقيام الجمهورية العربية، وتكتلاً رجعياً للوقوف في وجهها، وما هو المهم هنا ليس إدانة هذا “الاتحاد” وحسب، بل الأساس النظري – السياسي الجديد الذي يطلق منه، إذ تحدد “الحركة” لأول مرة بوضوح أن “للوحدة العربية الحقيقية طريق واحد: ذلك هو طريق الشعب، وهدف واحد: ذلك هو مصلحة الشعب”، فتربط ما بين “التجزئة والاستعمار” وتؤكد أن “الوحدة العربية بحد ذاتها ثورة تحررية كبرى، وان كل خطورة وحدوية تتضمن طاقة تحررية معينة”، وبهذا المنطلق الأيدلوجي – السياسي الجديد حددت “الحركة” موقفاً حاسماً من اتحاد ولايات جنوب الجزيرة العربية أو ما سمي بـ”اتحاد الإمارات” وأصدرت في تشرين الأول 1959 وثيقتها المهمة “اتحاد الإمارات المزيف” مؤامرة على الوحدة العربية”.

كان فرع “الحركة” في اليمن حين أصدرت وثيقة “اتحاد الإمارات المزيف” قيد التأسيس، إذ تمكنت قيادة إقليم “الحركة” في مصر، من تنظيم عدة روابط طلابية عربية، في “الحركة”.

وكانت أول دورة إعداد قيادة “الحركة” لعدد من الخريجين بهدف إعدادهم لتأسيس فروع لـ”الحركة” في أقطارهم، هي الدورة السرية التي أجرتها في دمشق عام 1959 وحاضر فيها جورج حبش والحكم دروزة وهاني الهندي وغيرهم.

لا تصدر أهمية هذه الوثيقة عن إدانة “اتحاد الإمارات” بقدر ما تصدر عن انطلاقها من مبدأ وحدة اليمن الطبيعة وتحررها في إطار الوحدة العربية، وتشمل الطبيعة وفق ذلك إقليم اليمن (بشماله وجنوبه)، وجنوب الجزيرة العربية، بما فيه مسقط وعمان وساحل عمان المسمى حالياً بالإمارات العربية المتحدة.

من هنا طرحت الوثيقة “وحدة قوى النضال الشعبي في اليمن المحتل وفي إقليم اليمن جنوبه وشماله، وفي جنوب الجزيرة والخليج، في وحدة نضالية متماسكة”، ويفسر ذلك تفسيرها الرمزي لهذه الوحدة بشعار “وحدة نضالية متماسكة من عدن إلى البحرين”.

أما العنصر المهم، فيتحدد في تركيز الوثيقة على: “توضيح الأساس القومي العربي والإطار القومي العربي للمعركة التي تخوضها في هذا الجزء من الوطن العربي”، ومن هنا فإنها تعتبر معركة اليمن المحتل والجنوب الكبير عامة، جزءاً لا يتجزأ من معركة الوحدة العربية الشاملة”، فـ”ليست أبداً معركة إقليمية محلية، أنها جزء من معركة قومية شاملة”، “تخوضها الأمة العربية ضد الاستعمار والتجزئة والاغتصاب اليهودي”.

مفاجأة الانفصال:
فاجأت حركة 28 أيلول 1961 الانفصالية قيادة الجمهورية العربية المتحدة، ووجدت “حركة القوميين العرب” نفسها وسط الصراع، ورغم تواضع قوتهم التنظيمية في سورية عشية الانفصال، فان نواتهم الصلبة التي لم تحل نفسها، فقد تمكنت من التحريض على بعض التظاهرات احتجاجاًَ على الانفصال.

كانت التظاهرات المنظمة الوحيدة في الأيام الأولى هي التظاهرة التي حرض عليها “القوميون العرب”، وشكل الفلسطينيون قوامها.

كانت “حركة القوميين العرب” في مختلف الوجوه، أهم منافس حزبي وسياسي للبعث في كل من العراق وسورية، عشية حركتي 8 شباط و 8 آذار 1963، ففي العراق توسعت خلايا “الحركة” عشية ثورة 14 تموز 1958 إلى أكثر من 5000 عضو خلية وآلاف من أعضاء الحلقات عشية حركة 8 شباط 1963، في حين أن عدد الأعضاء العاملين (تنظيم الفرق) في البعث صبيحة 8 شباط هو 980 عضواً عاملاً وعدد الأنصار (التنظيم الحلقي) هو 30,000 نصيراً.

من هنا شكلت “الحركة” عشية 8 شباط، قوة يحسب حسابها، ففي بغداد مثلاً كان الطابع العام للرصافة وفيها الاعظمية بعثياً في حين كان الطابع العام للكرخ “حركياً”، توسعت خلايا “الحركة” خلال الانفصال بشكل مذهل، ووصل عدد أعضاء خلاياها عشية 8 آذار إلى عدة آلاف.

تكيفت “حركة القوميين العرب” بسرعة مع الوقائع الجديدة، فأعلنت في 17 آذار 1963 برنامج “وحدة اتحادية” يقوم على شعار: “وحدة اتحادية جدية بين الجمهورية العربية المتحدة والعراق” حلَّ مكان شعارها السابق: “وحدة سورية ومصر أولا ثم العراق”.

ويتكلم برنامج “الحركة” لغة جديدة، لم يألفها الخطاب القومي التقليدي لـ”الحركة”، فتبنى “البرنامج” مبادئ “الوحدة الاتحادية” وأكد على تأسيس الوحدة على الإيمان بالدور التاريخي الحاسم للجماهير المنظمة، وإطلاق حرية التنظيمات الحزبية والنقابية الملتزمة بالاتجاه القومي الاشتراكي وحجب الحرية عن القوى الرجعية والشعورية واللا قومية، والسير بنضال الجبهة القومية الممثلة لتحالف الجماهير في طريق انجاز الثورة.

وتصور “البرنامج” صيغة الدولة الاتحادية، على أساس دولة واحدة ذات سيادة قومية واحدة ورئاسة واحدة، تمثل فيها الخارجية والدفاع والأمن القومي والسياسة الاقتصادية والمالية والتربوية والثقافية وقوانين العمل شؤوناً اتحادية، وتخضع السلطة التنفيذية الاتحادية إلى رقابة هيئة تشريعية منتخبة، يتحقق فيها تمثيل ديمقراطي حقيقي.

برزت “حركة القوميين العرب” بفضل كفاءتها التنظيمية والدعاوية، بوصفها من ابرز ممثلي مفهوم “الجبهة القومية”.

الالتحام بالناصرية:
لم يستطع البعث أن يدرك عمق التغيرات البنيوية التي عصفت بـ”حركة القوميين العرب” بعد الانفصال وحوَّلتها من “أخوية” قومية تقليدية نخبوية ومغلقة، تضم بضع مئات من أبناء “العائلات” إلى منظمة طليعية صلبة ذات حضور جماهيري وسياسي تضم الألوف من أبناء الفئات الوسطى والعمالية .

تمكنت “الحركة” خلال فترة الانفصال من استيعاب الألوف من أبناء الفئات الوسطى والعمالية فرأت شرائح واسعة منها في “الحركة” إطارا تنظيمياً متماسكاً وصلباً للعمل الفعال ضد الانفصال، تفتقد إليه التكتلات الناصرية الأخرى، التي كانت بالفعل رخوة وغير متجانسة.

ترتبط الصياغة النظرية لراديكالية “حركة القوميين العرب” باللجنة الفكرية (الثقافية) للحركة التي كانت تُمثل إلى جانب لجنة الإدارة (المكتب السياسي لاحقاً) واللجنة المالية، اللجان المركزية الثلاث التي يتفرع إليها عمل اللجنة التنفيذية القومية، وهي بهذا المعنى هيئة سرية مرتبطة بالقيادة القومية مباشرة، وتعمل كمجلس أيدلوجي استشاري.

وتتمثل أهمية التقرير الذي رفعته “اللجنة الفكرية” إلى القيادة القومية عام 1959 في انه أول بادرة من بوادر المراجعة النقدية للبنية القومية التقليدية لـ”الحركة”، إذ طرح لأول مرة أسئلة تطال الصلاحية النظرية لمفاهيم “الحركة”، وفي مقدمتها نظرية “المرحلتين” التي “تفصل” ما بين مهام مرحلة “النضال القومي” (في سبيل الوحدة والتحرر والثأر) وبين مهام مرحلة “النضال الاجتماعي” (في سبيل المجتمع الاشتراكي الديمقراطي)، فأكد على الترابط ما بين المرحلتين.

ففي ضوء الدروس المستخلصة من تجربة “الانفصال” المرة، لا تعود “الثورة العربية المعاصرة” هنا “ثورتين” “منفصلتين” بل ثورة واحدة مركبة، تتمثل بالمضمون الطبقي الاشتراكي للقومية العربية، وبذلك لا يمكن الفصل المرحلي ما بين “القضية السياسية” و”القضية الاقتصادية”، وتعني “القضية الاقتصادية” هنا “القضية الاشتراكية.

وفي إطار ذلك لا يمكن بناء الاشتراكية من دون اشتراكيين، ومن دون حزب اشتراكي يحوِّل الجماهير من قوة اشتراكية بالقوة إلى قوة اشتراكية بالفعل، إذ لا يمكن بناء الاشتراكية دون العزل السياسي للطبقات المستغلّة، وبذلك تتكلم الحركة لأول مرة في أدبياتها عن رجعية طبقية داخل المجتمع القومي نفسه، بعد أن كانت تحصر صفة الرجعية بالعمالة للاستعمار.

وبكلام آخر، إذا كان المفهوم التقليدي لـ”الحركة” يقوم على “الفصل” ما بين النضال القومي والنضال الاشتراكي في مرحلتين “مستقلتين”، فان مؤدّى التحليل الجديد هو الربط العضوي ما بينهما، فتصبح قضية الوحدة هنا قضية الجماهير الشعبية الكادحة لا قضية كل طبقات الأمة، ويحقق النضال القومي وحدته واشتراكيته في آن.

الطريق إلى فلسطين عبر عمان: (البحث عن فيتنام شمالية)
كان تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية أخطر تحدٍ واجه الملك حسين وقد عارضت أجهزة الملك في البدء عقد المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس، ثم وافقت على عقده على أن تكتب عبارة القدس –المملكة الأردنية الهاشمية وليس فلسطين.

في أيار عام 1965 انعقد المؤتمر الفلسطيني الثاني في القاهرة، وبمناسبة انعقاد هذا المؤتمر أعدت “قيادة العمل الفلسطيني في حركة القوميين العرب” مذكرة مطولة، تطالب فيها بتحويل منظمة التحرير الفلسطينية إلى منظمة ثورية تقوم على تنظيم شعبي يستوعب المنظمات الثورية الفلسطينية العاملة والتنظيمات الشعبية المهنية وينظم من هو غير منظم من الفلسطينيين، ويتسلح بتنظيم عسكري يقوم على جيش نظامي وجيش شعبي، وتنبثق أجهزته القيادية على مختلف مستوياتها عن طريق الانتخابات.

انتهزت الحركة الطريق المسدود فعلياً ما بين الملك والمنظمة، وطالبت الشقيري بان تشق المنظمة طريقها خارج مؤتمرات القمة ببناء التنظيم الشعبي والتشكيلات الفدائية، وإقامة حوار حقيقي مع المنظمات الفلسطينية.

تحرير عمان “الأردن أولاً والأردن آخراً”:
لم يكن الملك مخطئاً في تقدير خطورة ما أسماه بـ”العناصر الحزبية المتطرفة” من قوميين وعرب وبعثيين على استقرار كيانه ومصيره، إذ ما أن عادت الحرب العربية الباردة بين المعسكرين الرسميين العربيين “الراديكالي” و”المحافظ” حتى أخذت هذه العناصر تطرح “تحرير عمان” أولا، بل ستقرر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في 25/10/1966 دعمها “بكل ما أوتيت من قوة وعزم لكل التحركات الشعبية في الأردن التي تقف الآن للحكم القائم بالمرصاد”، وذهب غسان كنفاني إلى “أن ساحة الأردن ليست جهة ضرورية فحسب، وإنما هي جبهة فلسطين الوحيدة” وان كل شهيد فلسطيني نفقده على الحدود مع إسرائيل، قبل الانتهاء من حكاية الأردن هو هدر سيحاسبنا عليه التاريخ، وكل فدائي –كي نكون أكثر حسماً يخطو نحو الحدود مع إسرائيل الآن لا يكون قد خطا نحو طريق الفداء الحقيقي، فـ”الطريق إلى عمان هو ثلثا الطريق إلى تل أبيب” ومن هنا “لا ينبغي أن يكون هناك أي اعتراض على وحدة الضفتين، بل على العكس فان إرادة التغيير يجب أن تنطلق من تكريس هذه الوحدة.

إن حركة القوميين العرب ربطت منظورها بـ”تغيير جذري في النظام الأردني” يزيل “الجدار الأردني أمام فلسطين” ويحول الأردن إلى “فيتنام شمالية تعتبر الحرب حربها جملة وتفصيلاً” كما يحول الفلسطينيين إلى “فيتكونغ”.

نشوء حركة القوميين العرب في شمال اليمن
إذا ما استثنينا “الاتحاد اليمني” الذي تمركزت وجوهه في القاهرة، وحاول أن يشكل هيئة معارضة للإمام، فان القوى السياسية الحديثة المنظمة في اليمن المستقل (شمال اليمن) عشية إسقاط الإمامة، وإعلان الجمهورية، كانت محصورة في ثلاث تنظيمات.

وهذه التنظيمات هي الاتحاد الديمقراطي الشعبي الذي تألف من الشيوعيين، أما التنظيم الثاني فكان البعث وعلى رأسه محسن العينين وتأسس في شمال اليمن عام 1958 في حين تأسس في الجنوب عام 1956، وكان له نفوذ تنظيمي وسياسي مهم في المؤتمر العمالي بعدن، أما التنظيم الثالث، فكان حركة القوميين العرب.

بات متفقاً عليه أن الخلية الأولى لحركة القوميين العرب قد تشكلت في منطقة الشيخ عثمان عام 1959 بعدن، ثم نشأت بعد قليل خلية مماثلة في شمال اليمن، غير أن الحركة سرعان ما بدأت تنافس النفوذ العمالي للبعث في مؤتمر عدن العمالي الذي كانت جل قيادته وعماله من شمال اليمن، فتمكنت خليتها في شمال اليمن من السيطرة إبان حكم الإمامة على نقابة العمال الوحيدة في شمال اليمن، وبفضل هذه السيطرة تمكنت الحركة في تعز من تشكيل لجنة شعبية استولت على المدينة عشية إعلان الجمهورية في 26 أيلول 1962.

ومثلما حققت الحركة نجاحاً مهماً بتنظيم سياسي مجرب في صفوفها هو قحطان محمد الشعبي احد القادة المؤسسين لـ”رابطة الجنوب العربي”، فإنها نظمت في الشمال وإبان حكم الإمامة وجهاً، اجتماعياً وعائلياً وثقافياً بارزاً هو عبد الكريم الارياني، وكان لتنظيم الحركة في الشمال والجنوب يومئذ قيادة إقليم واحدة.

ومن خلال الطلاب الحركيين إلى كلية صنعاء العسكرية تشكل نفوذ الحركة في أسلحة الصاعقة والمظلات والمدفعية، وظهرت أهمية هذا النفوذ إبان حصار صنعاء عام 1968.

وفي ضوء نموذج الثورة الجزائرية أدخلت حركة القوميين العرب عنصراً جديداً على الفكر السياسي اليمني “الحديث” هو عنصر الكفاح المسلح كأسلوب وحيد لتحرير اليمن الطبيعية وتحقيق وحدتها، فانفردت عن سائر القوى اليمنية بتبني هذا العنصر، وتقصد به الحركة حرب عصابات متكاملة تنطلق من اليمن المستقل (المملكة اليمنية) كإقليم –قاعدة في ثورة متصلة تشمل كافة مناطق جنوب الجزيرة والخليج العربي في معركة واحدة وهو ما يتطلب “جبهة نضالية قومية تديرها قيادة قومية مخلصة” وتجعل مصلحة المعركة هي الأساس الأول والمقياس الأول للعمل.

كانت “الحركة” في عام 1960 قد طرحت مشروع “التجمع القومي”، ويعكس هذا المشروع وبشكل واضح وجهة نظر حركة القوميين العرب أكثر من أي فصيل آخر، وقد تطور هذا المفهوم، في آذار 1961، بإعداد دراسة عن واقع الحركة التحررية في إقليم اليمن وسبل العمل “لبناء حركة ثورية تحررية سليمة”، وقد قدم قحطان الشعبي يومئذ وثيقته التي تتمحور حول تكوين “جبهة قومية” تكون إطار الوصول “إلى تنظيم ثوري واحد”، وتضم “فقط كل العناصر القومية المخلصة” و”تستبعد بالطبع العناصر العميلة ودعاة الانفصالية.

وفي 19 آب 1963 وبدعم من الجمهورية العربية المتحدة، تم تشكيل قيادة “الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل” من 12 عضواً، بينهم ستة ممثلين لحركة القوميين العرب وستة ممثلين لقطاع القبائل.

في مطلع عام 1964 نقلت الجبهة عملياتها إلى داخل عدن، واستهدفت المؤسسات الحكومية وبيوت الضباط الانكليز ونواديهم، وتصفية المخبرين وضباط المخابرات، فقد اتسعت الجبهة في عدن نفسها، وأنهكت الانكليز وحطمت فعالية جهاز أمنهم السري بتصفية الجبهة للمخبرين وضباط المخابرات على مدى عام 1965، ومهاجمة الأهداف الانكليزية والحكومية الاتحادية، وبلغ مجموع العمليات عام 1965 وفق المعطيات الانكليزية 286 عملية، وظهر مع نهاية هذا العام أن كل شيء تقريباً قد أفلت من قبضة الانكليز وفي 22-25 حزيران منه، عقدت الجبهة القومية مؤتمرها القطري الأول في مدينة تعز.

كان مؤتمر الجبهة القومية أول مؤتمر يعقده فرع من فروع حركة القوميين العرب، اثر مؤتمر شباط القومي للحركة في شباط 1965 في بيروت، إذ اقر هذا المؤتمر لأول مرة في تاريخ الحركة، “نقل مركز الثقل من المركز إلى الأقاليم”.

فأصبح بالتالي لفرع الحركة في جنوب اليمن (الجبهة القومية)، مؤتمر قطري أو إقليمي، وما يعادل لجنة مركزية ومكتباً سياسياً، وذراع عسكري ميليشياتي هو الجيش الشعبي وذراع ضارب هو الفدائيون، وميثاق وطني.

عبر الميثاق من الناحية الأيدلوجية عن الترابط ما بين النضال ضد الاستعمار البريطاني وضد الحكام الإقطاعيين من سلاطين وأمراء ومشايخ وبرجوازية استقلالية، وكان هذا التعبير صيغة راديكالية في شروط اليمن عن الربط الذي أخذت تقيمه حركة القوميين العرب ما بين النضال القومي والنضال الطبقي، والتأكيد على المضمون الطبقي لشعاراتها القومية.

من هنا انتقلت عمليات الجبهة القومية من عمليات إنهاك إلى مواجهات والتحام مباشر في عدن نفسها، وخوض معارك الشوارع ضد الدوريات والمشاة، والجديد في هذه العمليات هو وضعها في إطار عصيان مدني سياسي، فعرضت الجبهة القومية عضلاتها بقوة في إضرابي 19 ك2 و8 شباط 1967.

توجهت الجبهة القومية هذه الإستراتيجية بالاستيلاء في 20 حزيران 1967 على حي كريتر في عدن، والاحتفاظ به لمدة أسبوعين، وشكل هذا الاستيلاء عنصراً حاسماً في تحويل الجبهة نحو المرحلة الأخيرة في إستراتيجيتها وهي إسقاط عدن انطلاقا من إسقاط السلطنات الواحدة تلو الأخرى وتدمير الحكومة الاتحادية، وتم هذا الاستيلاء في ظل السخط الحاد على الهزيمة التي ألحقتها إسرائيل بالعرب في 5 حزيران 1967.

كان الانكليز يدركون الضعف السياسي والإداري للحكومة الاتحادية، إلا أن انهيارها بهذا الشكل وتساقطها الذريع كان فيه كثير من المفاجأة، والواقع أن الجيش الاتحادي في الأطراف لم يقاوم الجبهة القومية حين شرعت بإسقاط السلطنات بل ساعدها ضمناً، وعزا جعفر عوض وعبدالله الخامري ذلك إلى التنظيم السري للجبهة داخل الجيش الاتحادي، وأدى ذلك إلى اعتراف بريطانيا رسمياً في 6 ت2 بالجبهة القومية ممثلاً شرعياً وحيداً لشعب جنوب اليمن، واعترف جيش الاتحاد بالجبهة، وكان ذلك يعني بدء بريطانيا لمفاوضات الاستقلال ومغادرة البلاد.

الثورة العُمانية وتطوراتها 1959-1975
أدى اندلاع الحرب العربية الباردة بين المعسكر القومي التقدمي العربي بقيادة الجمهورية العربية المتحدة والمعسكر الرجعي بقيادة المملكة العربية السعودية اثر ثورة 26 أيلول 1962 في اليمن، إلى الإجهاز التام على الوفاق المصري –السعودي ضد بريطانيا، وفي سياق تلك الحرب، تمكنت حركة القوميين العرب، لا سيما فرعها النافذ والنشيط في الكويت –حيث توجد نسبة مهمة من العمال العُمانيين، الذين ينحدر معظمهم في الحقيقة من قبيلة المهرة في ظفار من صياغة برنامج سياسي راديكالي لـحكومة المنفى العُمانية، إذ تم في أيلول 1963 تشكيل جبهة تحرير عُمان، وحددت برنامجها السياسي بتحرير عمان داخلا وساحلا من الاستعمار البريطاني، واعتبارها جزءا لا يتجزأ من الوطن العربي الأكبر الممتد من الخليج إلى المحيط، وتنظيم الكفاح الشعبي في عمان بما ينسجم مع هذه الأهداف، والعمل لإقامة دعائم الجمهورية العربية العمانية.

جبهة تحرير ظفار:
قرر فرع الخليج والجزيرة العربية لحركة القوميين العرب، في اجتماع داخلي انعقد عام 1964 في الكويت التحضير لشن الكفاح المسلح في منطقة ظفار، وبهدف إقامة جسر يصل بين الكفاح المسلح في جنوب اليمن وبينه في عمان والخليج العرب.

أخذت الحركة تسرب كوادرها المدربة إلى مسقط وصلالة عاصمة ظفار إلا أن أجهزة السلطان وجهت في نيسان وايار1965، ضربة استباقية، واعتقلت ما يزيد على الستين مقاتلاً في مسقط وصلالة، ثم اعترضت سفينة حربية إيرانية في شهر أيار من هذا العام شحنة أسلحة في طريقها إلى ظفار واستولت عليها.

سحبت الفصائل الثلاث كوادرها من المدن إلى الجبال وعقدت في الأول من حزيران 1965، في وادي نحيز في المنطقة الجبلية الوسطى من ظفار المؤتمر التأسيسي لـ “جبهة تحرير ظفار” وانبثق عن المؤتمر لجنة تنفيذية مؤلفة من 18 عضواً، كان بينها يوسف علوي احد قادة الجمعية الخيرية الظفارية ومحمد احمد الغساني (حركي) وهو من سكان صلالة عاصمة ظفار وسيمثل هذان الكادران لاحقاً الجناحين المتصارعين في الجبهة (التحق يوسف علوي بأجهزة أمن السلطان ثم أصبح وزيراً للخارجية).

يثير بيان إعلان الكفاح المسلح (9 حزيران 1965) في ظفار، أسئلة عن الهوية الأيدلوجية السياسية لـ”جبهة تحرير ظفار”، إذ تميز هذا البيان بلغته القومية المشرقية الصرفة، التي تعيد إنتاج البلاغة القومية الأيدلوجية للخطاب الحركي المشرق.

المؤتمر الإقليمي الأول لفروع الخليج والجزيرة العربية:
انعقد في سياق هذا التجذير اليساري، في 30/ 12/ 1967 في بيروت، أول مؤتمر إقليمي من نوعه لفروع حركة القوميين العرب في الخليج والجزيرة العربية (السعودية، الكويت، البحرين، قطر، عُمان الداخل، وعُمان الساحل)، وشارك في المؤتمر مراقبون عن الجبهة القومية في جنوب اليمن (عبد الله الاشتر) ومندوب “حركي” من جبهة تحرير ظفار ومندوباً كويتياً يمثل قيادة الإقليم في الكويت.

وناقش المؤتمر على مدى ثلاثة أيام “مستقبل الحركة الثورية في الخليج” وتحدد هدف المؤتمر على المستوى التنظيمي من خلال المشاورات التي سبقته بتشكيل قيادة مستقلة لإقليم الخليج والجزيرة العربية عن قيادة الكويت.

تبنى المؤتمر الاشتراكية العلمية والكفاح المسلح لتحرير المنطقة وإسقاط الأنظمة العشائرية، واعتبر الخليج والجزيرة من الناحية التنظيمية إقليماً واحدا، شكل له مكتبين سياسيين:

1- مكتب سياسي للخليج يشكل القيادة الفعلية الداخلية للخليج .
2- مكتب سياسي يكون القيادة الفعلية لجميع مناطق العمل داخل السعودية .

مؤتمر “حمرين” وتحويل جبهة تحرير ظفار إلى الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل:
انعقد هذا المؤتمر في السياق الذي تواترت فيه المؤتمرات اليسارية لفروع حركة القوميين العرب، ولا سيما منها المؤتمر الرابع للجبهة القومية (آذار 1968) في جنوب اليمن ومؤتمر دبي الاستثنائي (23 تموز 1968 واستغرقت أعمال هذا المؤتمر عشرين يوماً (من 1-20 1968) في وادي حمرين في المنطقة الوسطى من ظفار وحضره 65 مندوباً يمثلون جبهة تحرير ظفار، ومراقب عن الحزب الشيوعي الصيني، في حين انشق عنه الانفصاليون الظفاريون بقيادة يوسف بن علوي.

وكان أهم قرار اتخذه المؤتمر إعادة بناء الجبهة على أسس راديكالية جديدة، هو تغيير اسم “جبهة تحرير ظفار” ذي المضمون القبلي الانفصالي إلى اسم الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل.

وشهدت أعوام 1968،1970 تكثيفاً كمياً ونوعياً لعمليات الجبهة، سقطت فيها ظفار برمتها في أيدي الجبهة، باستثناء العاصمة صلالة هنا بالنسبة لريفها تشبه ما كانته عدن بالنسبة لريفها، غير أن قاعدتها الحصينة كانت هنا معرضة للهجمات، وللضحايا أحياناً، وفي الأماكن المحررة أقامت الجبهة الشعبية نوعا من إدارة جمهورية عسكرية، إذ عبأت القادرين على حمل السلاح اما في جيش التحرير الشعبي أو في الميليشيا، ووجدت في المحافظتين الخامسة والسادسة من جنوب اليمن قاعدة مأمونة لمشافيها ومدارسها ومنشآتها الخدمية.

تم انقلاب القصر في 23 تموز 1970، ورحل سعيد بن تيمور وأصبح ابنه قابوس سلطاناً، كما أصبح شقيقه طارق بن تيمور رئيساً للحكومة.

استوعب السلطان عدداً كبيراً من معارضيه بما فيهم كوادر أساسية في الجبهة، أما بقية المعارضين فعقدوا عام 1993 مؤتمراً في المنفى، قرروا فيه شطب كلمة التحرير من اسم الجبهة، وتسميتها باسم جديد هو “الجبهة الشعبية الديمقراطية العمانية”.

أثر هزيمة 5 حزيران 67 على قيادة الحركة:

موضوعات 5 حزيران:
أربكت الطبيعة الفاقعة للنكسة حركة القوميين العرب، ولم يتم تجاوز هذا الارتباك إلا في الاجتماع القيادي الموسع الذي عقدته اللجنة التنفيذية القومية للحركة (أواخر تموز 1967) وأصدرت فيه أول تقرير رسمي يتضمن تحليلاً طبقياً للنكسة، حمل عنوان “الثورة العربية أمام معركة المصير” وعرفت اشكالياته باسم “موضوعات/5/حزيران”، كان هذا التقرير وفق مفهوم التقرير في الحركة متفقاً عليه ما بين فريقي القيادة المركزية الراديكالي والتقليدي إلا انه وفي سياق الصراع الداخلي الحاد ما بينهما، حاول كل منهما أن يستملكه أيدلوجيا وسياسياً وتنظيمياً، إلا أن جورج حبش يعتبر نفسه مسؤولاً عن هذا التقرير، إذ يؤكد حبش من خلالها أن اللجنة التنفيذية القومية قد وضعت تقرير تموز 1967 أساساً، كي تضع حداً نهائياً لنمط مقالات محسن إبراهيم التي تعكس إستراتيجية “الالتحام بالناصرية” وما خلفته تلك الإستراتيجية من ربط ذيلي للحركة ودورها بالإستراتيجية الرسمية للجمهورية العربية المتحدة وخنق كل المبادرات التي كانت تحاول تجاوز هذا الإطار.

التحليل الطبقي للنكسة: (موضوعات 5 حزيران):
ناقشت الوثيقة (تقرير تموز 1967 الذي أعده جورج حبش) ما سمته بـ النكسة العسكرية في حول الأيام الستة، ورأت أن النكسة لا تكمن في الهزيمة العسكرية بقدر ما تكمن في اضطرار حركة الثورة العربية إلى إيقاف الحرب مع إسرائيل عند حدود جولة الأيام الستة وعدم المضي فيها بحيث تتحول إلى حرب شاملة ضد الاستعمار بكل قواعده ومصالح كل القوى المرتبطة به.

أولاً:
فسرت الوثيقة عجز قيادة الثورة العربية عن ذلك، بتكوينها الطبقي والأيدلوجي والسياسي البرجوازي الصغير، فحكم هذا التكوين مواجهتها “المتقطعة” و”المتذبذبة” لإستراتيجية الاستعمار الجديد الهجومية بقيادة الولايات المتحدة.

ثانياً:
من هنا استنتجت الوثيقة نظرياً في ضوء تحليلها الطبقي للنكسة، انه إذا كانت البرجوازية الصغيرة، قد أدت دورها إبان مواجهة الاستعمار القديم على حد تعبير الوثيقة فإنها “لم تعد مؤهلة لممارسة دور القيادة على رأس الحركة الثورية العربية في هذه المرحلة الجديدة من نضالها” فقد كانت “حرب التحرر الوطني الطويلة النفس مع الاستعمار” تتطلب إحداث تحولات هامة في مسيرتها، يقوم على بناء نظام اشتراكي، قادر بالتصنيع الثقيل على حماية استقلاله الاقتصادي، وتوسيع إطار الديمقراطية، السياسية الشعبية لتمكين جماهير الطبقة العاملة والعناصر المثقفة الملتزمة بالاشتراكية العلمية أساساً من خوض معركة بناء الأساس المادي للاشتراكية وعلى تحويل أجهزة الدولة إلى أداة ضاربة في يد الجماهير الكادحة تلتزم بأيدلوجية الطبقة العاملة.

ثالثاُ:
يتطلب ذلك ضرورة انتقال مقاليد القيادة إلى الطبقات والفئات الاجتماعية الكادحة الأكثر جذرية والملتزمة بـ الاشتراكية العلمية أيدلوجية الطبقة العاملة وتحت هذه القيادة سوف يكون على البرجوازية الصغيرة وكل العناصر والقوى الوطنية والتقدمية أن تسهم بدورها في معركة التحرر الوطني.

رابعاً:
وفي إطار محايثة التقرير ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فانه يربط مهام معركة التحرر الوطني الراهن بـ إزالة العدوان بالدخول في مرحلة الصدام النهائي الحاسم، مع الاستعمار الجديد، وجر هذا الاستعمار إلى تفجير الحرب الشاملة معه وخلق أكثر من فيتنام واحدة بإتباع أسلوب الكفاح الشعبي المسلح والعنف الثوري المنظم وتحقيق وحدة القوى الثورية العربية قطرياً وقومياً.

خامساً:
من هنا دعا التقرير على المستوى العالمي إلى تعميم نموذج الثورة على الغرار الفيتنامي في العالم الثالث.

مشروع التجذير اليساري للحركة:
شكل تقرير تموز الأساس النظري لإعادة بناء حركة القوميين العرب وتجذيرها يسارياً، من هنا أقرت اللجنة التنفيذية القومية في أوائل كانون الثاني 1968 برنامج التطور الديمقراطي الذي يحدد آليات ووظائف عملية إعادة البناء اليسارية تلك، ويقوم هذا البرنامج على أربع نقاط:

1- طرح موضوعات 5 حزيران على جمهرة الأعضاء في كل الأقطار لاستثارة حوار واسع حولها في صفوفهم.

2- التقدم انطلاقاً من تلك الموضوعات بصوغ تحليل طبقي سياسي للأوضاع القطرية المتنوعة واستخراج برنامج يحدد مهمات النضال الوطني الديمقراطي وأساليب الكفاح المتطابقة مع الظروف الموضوعية السائدة في كل قطر.

3- التقدم عملياً على طريق ممارسات سياسية طبقية جديدة متناقضة للممارسات السياسية السائدة التي كان يفرزها التكوين الطبقي الأيدلوجي البرجوازي الصغير للحركة.

4- الانطلاق عبر ذلك كله نحو تصفية البنية التقليدية للحركة وإحداث عملية فرز تنظيمي حاسمة في صفوفها، وتأهيل الاستقطابات اليسارية للتحول إلى فصائل ماركسية لينينية جديدة.

لم يطرح برنامج التطور الديمقراطي الداخلي إذن حل حركة القوميين العرب، بل إعادة بنائها تنظيمياً في نوع من فيدرالية تنظيمية قومية، ملتزمة أيدلوجياً بـ الاشتراكية العلمية أيدلوجية الطبقة العاملة.

أقرت القيادة هذا البرنامج، الذي يعني فعلياً إحداث فرز تنظيمي وأيدلوجي قطبي في الحركة ما بين العناصر التي تقبل التجذير اليساري للحركة والعناصر التي تتحفظ على ذلك أو لا تقبله، وفي هذا الصدد، نشير إلى دور القيادة المؤسسة –جورج حبش خصوصاً- التي تؤكد أنها هي أصلاً المسئولة عن صياغة موضوعات 5 حزيران التي يجب أن يعاد بناء الحركة وفقاً لها.

لذلك فإن الوفاء الحقيقي للقائد الراحل … الحكيم جورج حبش من ناحية وتجسيد الالتزام الذاتي والموضوعي بمبادئ التحرر القومي والثورة الاشتراكية الديمقراطية في كل أرجاء وطننا العربي من ناحية ثانية يتطلب من كافة الرفاق اليساريين الديمقراطيين في بلدان الوطن العربي عموماً ورفاقنا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خصوصاً، أن لا نتواصل مع مسيرة القائد الراحل وأفكاره ومبادئه الثورية التقدمية الوحدوية فحسب بل أيضاً نجسد بوعي وعبر الممارسة الروح والأخلاق الرفاقية الثورية التي تحلى بها القائد الحكيم وحرص على ان يكون حزبنا / جبهتنا حضناً دافئاً تضم كل رفاقنا استناداً والتزاماً واعياً مخلصاً للأخلاق الثورية والعلاقات الرفاقية الديمقراطية لضمان تقدم وانتشار حزبنا، كمنطلق رئيسي بما يمكننا من تحقيق مقومات النهوض لحزبنا على طريق تحقيق واستعادة دوره الطليعي ليس في فلسطين فحسب بل لكي نعيد معاً تأسيس وبناء الحركة القومية الاشتراكية العربية كإطار تنظيمي وسياسي وفكري يلتحم بالجماهير الشعبية الفقيرة في فلسطين وكل أرجاء هذا الوطن العربي لتحقيق أشواقها وأهدافها في التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية وبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد.


سؤال الماركسيـة والدور النضالي المستقبلي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

حكيم الثورة جورج حبش

إن المعرفة بالنسبة لرفاقنا في الجبهة الشعبية لا تتوقف عند المعرفة الأولية التي تتشكل في الأذهان عن طريق الحواس فحسب، بل علينا أن نحاول دوماً إدراك الأشياء، وكل الموجودات من حولنا سواء في المجتمع أو في الطبيعة والكون، إدراكاً عقلانياً يمكننا من فهم الأسباب التي تحول دون تطور مجتمعنا الفلسطيني ومجتمعاتنا العربية وتقدمها، وصولاً إلى معرفة السبل الكفيلة بتجاوز هذا الواقع. وهنا تتجلى الأيديولوجيا بما هي مفهوم جراحي يستطيع الناس من خلالها أن يعوا حقيقة الصراع وأن يشتركوا في مباشرته. وبالتالي، فإن المعرفة التي ندعو إلى امتلاكها ووعيها هي المعرفة المشغولة بالعلم والاستكشاف المرتكز إلى العقل والتجربة، وتخليص البحث المعرفي من سلطة السلف وقدسية الأفكار وجمودها، كمدخل لابد منه لتحرير الواقع العربي من حالة التخلف والتبعية والخضوع، وتحرير فكرنا العربي من حالة الجمود والانحطاط. ونحن ندرك أن اعتماد العقل أداةً وحيدة للتحليل، والعقلانية كمفهوماً يستند على المنهج العلمي الجدلي، سيدفع بفكرنا العربي صوب الدخول في منظومة المفاهيم العقلانية التي تقوم على أن للعقل دوراً أولياً ومركزياً في تحليل الواقع والتحكم في صيرورة حركته.

الدائرة الثقافية المركزية / نيسان 2008

تمهيد في محاولتنا الإجابة على سؤال: ما الماركسية؟ نشير بداية إلى أن الماركسية ليست سلسلة أو منظومة من الإحكام و الطروحات العلمية فحسب، بل هي عملية نقد و نقض للمجتمع الرأسمالي، تستند على التحليل العميق لأسس هذا المجتمع/النظام و تناقضاته الداخلية، ما يعني ان الانفصال عن الماركسية هو انفصال عن مساحة كبيرة من الحقيقة الموضوعية التي يسعى حزبنا/جبهتنا إلى بلورتها و ترسيخها.

وبالتالي فان الوعي بالماركسية، و التمسك بها كنظرية اجتماعية، و رؤية شمولية للعالم، لا يعني تكرار الاحكام العمومية لها بشكل معزول عن الصراع ضد العدو الصهيوني/ الامبريالي من ناحية، او عن الأوضاع الاجتماعية والصراع الطبقي من ناحية ثانية، بل يعني المشاركة الفعالة في النضال التحرري و الديمقراطي العام، و في النضال الفكري لكل مرحلة من مراحل تطور مجتمعنا الفلسطيني و مستقبله، ارتباطا بمسار الحركة التاريخية للمجتمعات العربية و الإنسانية في نضالاتها من اجل بناء المجتمع الاشتراكي الذي تتجلى فيه مفاهيم الحرية و الديمقراطية الشعبية و العدالة الاجتماعية

على أن تقدم و نجاح المسار النضالي لحزبنا او غيره من الأحزاب اليسارية، مرهون بتوفر شرطين أساسين مترابطين، الأول: وعي العضو الحزبي بالمنطلقات الفكرية و التنظيمية و السياسية للحزب بما يعمق الدافعية الذاتية و من ثم الالتزام الحقيقي بتلك المنطلقات و الدفاع عنها و النضال من اجل تحقيقها. والثاني: قدرة الحزب على بلورة و تطبيق السبل الكفيلة ببناء و تكوين المناضل الماركسي في صفوفه.

وعلى هذا الطريق فان التفاعل الايجابي بين العامل الذاتي (العضو) والموضوعي (الحزب) عبر قراءة ووعي منطلقات الحزب (الفكرية و التنظيمية و السياسية) و متابعتها و الحوار حولها وإغنائها، يشكل عاملا رئيسيا من عوامل وحدة الحزب و تقدم حركته و توسعه على الصعيدين التنظيمي والجماهيري. وفي هذا السياق تبرز الهوية الفكرية الماركسية لحزبنا باعتبارها حجر الزاوية في منطلقاته، و بناء على ذلك قامت الدائرة الثقافية المركزية للجبهة بصياغة هذه الورقة التي تسعى إلى الإجابة على سؤال: ما الماركسية؟ بمثل ما تسعى إلى إثارة النقاش والحوار المعمق من رفاقنا وصولاً إلى التفاعل المنشود بين العضو والحزب عبر العلاقة الجدلية بينهما، التي تقوم على عمق الوعي و الوضوح، و عمق الالتزام، وعمق الدافعية الذاتية و قوتها، التي تجسد في النهاية مقياسا لقوة الحزب و دوره المستقبلي المرهون بالخروج من الأزمة الراهنة عموماً، وأزمة الهوية الفكرية خصوصاً، التي باتت اليوم أزمة عامة تطال كافة أحزاب و فصائل وقوى الماركسية العربية، مما يجعل من مهمة مجابهة هذه الأزمة و تجاوزها من أهم المهمات أو القضايا في جدول نشاط حزبنا/جبهتنا و كافة أحزاب اليسار العربي.

و في هذا الجانب، نشير إلى أن احد أهم الإجابات على هشاشة وضعف الحركات الماركسية العربية وتراجعها تكمن في أن الأحزاب والفصائل الماركسية واليسارية عجزت –وما زالت- لأسباب ذاتية عن امتلاك المعرفة الحقيقية بحركة وتطور واقع بلدانها التاريخي والاجتماعي الطبقي والاقتصادي بكل مكوناته وتراكماته من ناحية، كما عجزت عن امتلاك المعرفة العميقة بالماركسية ومنهجها ومصادرها وتجددها من ناحية ثانية.

ويبدو أن هذه الظاهرة من القصور والعجز، ما زالت سمة أساسية من سمات أحزاب وفصائل اليسار الماركسي العربي حتى اللحظة، رغم الضرورات السياسية والتنظيمية التي تفرض مزيداً من تراكمات وتجدد الوعي بالواقع والنظرية معاً لمجابهة السيطرة الامبريالية الصهيونية من جهة وتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية من جهة ثانية.

وبالتالي علينا أن نعترف أن معرفتنا الحقيقية بالماركسية هي معرفة محدودة، سطحية، ولا شك أن هذه المعرفة المحدودة هي امتداد لمحدودية معرفتنا النظرية العامة التي ساهمت بدورها في حجب الماركسية وعدم إدخالها وتفاعلها في ثقافتنا الوطنية والقومية العامة، علاوة على اكتفائنا بتبني الماركسية على الورق والرايات، ولم نستطع –حتى اللحظة- البدء بتفعيل الحوار الفكري المنهجي المعمق حولها، الأمر الذي أغلق الباب على الحوار الموضوعي الداخلي في حزبنا حول قضاياها ومكوناتها المتنوعة المتجددة، واليوم ونحن نسعى الى إعادة قراءة الماركسية ومنهجها، والاهتمام بمتابعة بعض موضوعات الإنتاج الفكري العالمي والعربي الذي أسهم في إغنائها وتطويرها، فإننا نهدف من وراء ذلك إلى تعميق الوعي بها في هيئات ومراتب وكوادر حزبنا، بما يمكننا من التحليل الموضوعي وسبل التغيير المطلوبة لواقعنا –الفلسطيني والعربي- بكل مكوناته وجوانبه السياسية والمجتمعية على ضوء امتلاكنا –بهذه الدرجة أو تلك- للمنهج المادي الجدلي والوضوح النظري المعرفي بالماركسية وحقائقها ومصيرها وأزمتها ودلالاتها في مجتمعنا وفي عصرنا، وفي كل الأحوال فإن تساؤلاتنا وإجاباتنا – حول الواقع والنظرية – ستكون بالضرورة محدودة بحدود معرفتنا أو طبيعة التزامنا (الشكلي أو النوعي) بهذه النظرية ومنهجها، في هذه المرحلة بالذات، التي تتبدى فيها الهيمنة والعدوانية الهمجية للتحالف الامبريالي الأمريكي/ الصهيوني بأبشع صورها، في ظل حالة غير مسبوقة من التبعية والخضوع للقوى الطبقية البيروقراطية والكومبرادورية الحاكمة في بلادنا، وهي أوضاع مؤقتة، لكن زوالها ومن ثم انتصار القوى اليسارية مرهون بوعي والتزام هذه القوى بمضمون الماركسية وتطبيقاتها على واقعنا، و من ثم تفعيل دورها الطليعي في الالتحام بالجماهير و قيادتها صوب تحقيق أهداف و طموحات هذه الجماهير التي رغم طول انتظارها وعظيم تضحياتها تتحفز بشوق كبير لمواصلة النضال من اجل تحررها ومن اجل الخلاص من كل أشكال الظلم والاضطهاد تحت رايات اليسار في فلسطين وكل أرجاء الوطن العربي.

الماركسية منهج حي وليست عقيدة جامدة :
لم تكن نشأة الماركسية في أواسط القرن التاسع عشر بداية الفكر الإنساني التقدمي، ولم تدّع لنفسها أنها نهايته وختامه، فقبل نشأة الماركسية عرفت البشرية وأبدعت حصيلة واسعة وغنية من الأفكار والنظريات والعلوم في شتى المجالات، شكلت تراثاً لأي إبداع مادي أو روحي في مسار الحضارة الإنسانية المتطورة في المجرى التاريخي لها، وزينة كل ما هو إنساني وتقدمي وإيجابي وعلمي فيه، وبعبارة أخرى، فقد شكلت الماركسية نتاجاً طبيعياً لتطور فكر البشرية. ولذا فهي –كما قال لينين لاحقاً- ليست انعزالية.. ليست عقيدة جامدة. بل فكراً حياً ومبدعاً حيث أعطت الردود على المسائل التي طرحها فكر البشرية التقدمي (الذي سبقها)، حيث نشأت كاستمرار مباشر وصريح لأفكار أعظم ممثلي الفلسفة والاقتصاد السياسي والاشتراكية، وكان عليها كي تتطور أن تعطي الردود على المسائل الجديدة التي يطرحها هذا الفكر، وتطرحها الحياة المتطورة باستمرار، وأن تبقى وريثاً لكل ما يبدعه العقل البشري. وبالفعل استطاعت الماركسية أن تحيا وتتطور وترتقي –رغم كل التعرجات والمنحنيات- بخطى ملموسة واسعة وعديدة من الآراء والأفكار والمفاهيم والمقولات والنظريات والمناهج العلمية المنسجمة، التي شكلت بمجموعها نظرة جديدة للعالم وطريقة خلاقة ومبدعة لدراسة وفهم الظواهر والعمليات المختلفة في الطبيعة والمجتمع والفكر الإنساني. وبهذا غدت الماركسية – في بداية القرن العشرين- سلاحاً جباراً وأداة نضالية تغييرية ثورية في أيدي الطبقات والفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة في التقدم الاجتماعي وخاصة الكادحين وفي مقدمتهم الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء وشرائح واسعة من البرجوازية الصغيرة.

فعلى الصعيد الفلسفي صاغت الماركسية الديالكتيك المادي، الذي شكل ثورة حقيقية في المعرفة والتفكير، وأسّس بلورة منهج علمي لا غنى عنه في دراسة وتحليل وتفسير الظواهر والعمليات في الطبيعة والمجتمع والفكر والتأثير عليها. وتميز الديالكتيك الماركسي بعلميته وثوريته ومنطقه الخلاق، مما سمح له بالتجلي كوحدة عضوية متناغمة بين الجدلي والتاريخي، فاكتسب وجوده الملموس في الفهم المادي للتاريخ، وبهذا أصبح قادراً على الكشف عن القوانين الموضوعية لعملية إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية وقوانين تطور التاريخ البشري ودور الجماهير الحاسم فيه، وكذلك تبيان جدل العلاقة بين مستوى تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، والتي على أساسها تحدث الثورات الاجتماعية ناقلة المجتمع من تشكيلة إلى أخرى.

وعلى أساس هذا المنهج المادي الجدلي التاريخي استطاعت الماركسية أن تكشف عن الجوهر الاستغلالي البشع للرأسمالية وأن تنتقد شرورها، وأن تبين محدوديتها التاريخية وتعلل حتمية زوالها، وذلك على أساس الصياغة المبدعة لقانوني القيمة والقيمة الزائدة، اللذان سمحا بالكشف عن آليات وبشاعة الاستغلال في نمط الإنتاج الرأسمالي وتناقضاته الداخلية.

أما على صعيد الفكر السياسي، فقد أرست التأسيس لنظرية علمية عن الاشتراكية كبديل للمجتمع الرأسمالي، وكشفت عن مستقبل نشأة المجتمع الاشتراكي وبناء المجتمع اللاطبقي لصالح الطبقة العاملة وجماهير الفقراء والكادحين ولصالح كل القوى ذات التوجه التقدمي، أي أنها طرحت ذاتها كأيديولوجيا للتغيير الثوري.

وهكذا، فإن الماركسية شكلت منظومة فكرية متكاملة ومترابطة عضوياً لحصيلة واسعة من النظريات والمفاهيم والمقولات والأحكام والقوانين المنسجمة مع موضوعها وفق منهج علمي محكم يقوم بالاستناد إلى الواقع الملموس إلى جانب استشراف المستقبل.

لكننا، وبالرغم من هذه الوحدة وذلك الترابط وضرورة أخذهما بعين الاعتبار في دراسة الماركسية، إلا أننا نستطيع أن نميز في الماركسية مستويات، كالمنهج المادي الجدلي التاريخي، والمفاهيم والمقولات والقوانين المرتبطة به، وتلك المرتبطة بالنظريات الفلسفية والاجتماعية العامة في دراسة وتحليل الطبيعة والمجتمع والفكر اليساري والتغيير الاجتماعي، ومجموع الأفكار والاستنتاجات والتعليلات الفكرية الأكثر ملموسية وتفصيلية والأكثر تعييناً وقرباً من ميدان التطبيق العملي.

ولا يعني هذا التمييز فصلاً تعسفياً، أو عزلاً للنظرية عن المنهج، فمكونات الماركسية مترابطة فيما بينها، والمنهج يقوم على أساس التعميمات النظرية من منظومة المفاهيم والمقولات والقوانين، لذا فإن التمييز هذا ليس إلا تسهيلاً للدراسة والمعالجة، وخاصة لجهة الوقوف على العناصر الأكثر ثباتاً والأقل تغيراً، كالمنهج والتعميمات النظرية الأكثر تجريداً، وعلى تلك الأقل ثباتاً والمتغيرة بشكل أسرع، كالأفكار والتحليلات الأكثر ملموسية وتفصيلية والأقرب للتطبيق العملي. وفي إطار هذا التمييز نستطيع القول بأن المنهج هو الأكثر ثباتاً على الرغم من اعتماده على المقولات والمفاهيم النظرية العامة، ذلك أن المفاهيم والمقولات مرتبطة دوماً بالحركة التطويرية التاريخية وفق هذه المرحلة أو تلك، وبالتالي يجب أن تؤخذ دائماً بارتباطها بالبشر ونشاطهم المادي كما يقول ماركس.

وتمييزنا للمنهج العلمي الجدلي ينبع من إيماننا بأنه الطريق الذي يؤدي بنا إلى الهدف، وفق أسس ومضامين النظرية الماركسية، ويستند هذا الفهم على كون المنهج هو الذي جعل ويجعل الماركسية دليلاً ومرشداً للعمل وليست عقيدة جامدة، فالمنهج الجدلي هو منهج علمي ينظر إلى الأشياء والمعاني في ترابطها بعضها ببعض، وما يقوم بينها من علاقة متبادلة، وتأثير كل منها في الآخر، وما ينتج عن ذلك من تغيير. إن المنهج الجدلي ينظر إلى الأشياء عند ولادتها ونموها وانحطاطها. هكذا تتعارض الجدلية في كل ناحية من نواحي الحياة مع الميتافيزيقا أو الغيب، لأن المنهج الجدلي لا يقبل أو يعترف بأي حالة سكون أو ثبات أو جمود أو مطلق أو فصل بين مختلف جوانب الحياة أو الواقع، بل يرى في السكون جانباً نسبياً من الواقع أو من الحركة، فالسكون –كما أشرنا من قبل- هو في كل الأحوال شكل من أشكال الحركة، أما الحركة الدائمة المتصلة فهي المطلق الوحيد في كل الأحوال. من هنا فالماركسية تظل موضوعيا محدودة بالظروف التاريخية التي أنتجتها، و هي بهذا المعنى تشكل محطة نوعية ثورية في مسار تطور المعرفة الإنسانية المتغير و المتجدد وفق متغيرات الحياة الاجتماعية و تجددها الدائم، و على هذا الأساس فان الحفاظ على الماركسية و متابعة رسالتها الإنسانية لا يكمن في الدفاع اللاهوتي أو الدوجمائي عن تعاليمها، وإنما بالنقد الدائم لأفكارها و تجديدها ارتباطا بمعطيات الممارسة الاجتماعية، فهذه الممارسة هي المنطلق و المعيار لصحة الأفكار، إذ أن الماركسية و منظومة المعارف التي طرحتها لا تشكل هدفا بحد ذاتها، و إنما هي الأداة والوسيلة العملية لقراءة الواقع و تغييره، وهذا الموضوع يمثل، من وجهة نظر ماركس نفسه، المنطلق الأول و الأخير في صياغة الأفكار التقدمية.

انطلاقاً من هذا الفهم فقد قدمت الماركسية عبر منهجها المادي الجدلي حلاً مبدعاً لعلاقة الفكر بالواقع، علاقة النظرية والمعرفة بالممارسة والتطبيق العملي، فصاغت مفهومها العلمي لنسبية المعرفة الإنسانية باعتبارها عملية اجتماعية تاريخية، أي جزء من الممارسة، وباعتبار الممارسة في ذات الوقت هي أساسها ونقطة انطلاقها وهي هدفها، حيث أن المعرفة تتكون و ترتقي عبر الطريق الديالكتيكي من التأمل الحي إلى التفكير المجرد ومنه إلى الممارسة. وبهذا فإن الماركسية أعلنت الممارسة والتطبيق العملي معياران دقيقان لصحة أو عدم صحة الفكر والنظرية وتعبيرها عن القيمة الموضوعية.

وبالانطلاق مما تقدم فإن حزبنا/الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يرى في المنهج المادي الجدلي التاريخي جوهر النظرية الماركسية وهو الشيء الأكثر ثباتاً فيها والذي يتضمن في شموليته منهج التحليل الطبقي العلمي والمقاربة الإنسانية العميقة والرؤية العلمية للكون والعالم وتناقضاته.

وإذ يتمسك حزبنا بالمنهج المادي الجدلي ويسعى لتمثله في الممارسة العملية، فإنه ينطلق في ذلك من كون الماركسية هي نظرية التغيير والحركة، وأن منطق المنهج المادي الجدلي التاريخي ينسجم كل الانسجام مع الطبيعة الموضوعية للظاهرات والعمليات الخاضعة لجدل التغير والحركة، سواء في واقعنا الفلسطيني أو العربي أو الإنساني العام.

لذلك علينا أيها الرفاق التأكيد، منذ البداية، إننا أحوج ما نكون إلى توفر الحد المقبول من الإطلاع على الماركسية ومنهجها، وقبل كل شيء أن نكون مالكين للوعي المطلوب لكل جوانب واقعنا الراهن، الوطني التحرري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي وتركيبه الطبقي بوضوح كبير، مدركين أن الماركسية ليست كل ما قاله (ماركس) فهي لم تتشكل دفعة واحدة، بل تمت وتحددت عبر خبرة طويلة من المعرفة الفلسفية والعلمية والممارسات الداخلية والعملية. فالماركسية هي ثمرة أوضاع تاريخية واجتماعية وفكرية محددة، عبر تطورها منذ ماركس وإلى يومنا هذا…فما هي الماركسية إذاً؟ و كيف يصبح الإنسان ماركسياً؟

نبدأ بتعريف الماركسية كما ورد في العديد من مصادرها ومراجعها الرئيسية التي عرفت الماركسية بأنها:علم القوانين الطبيعية التي تتحكم في سير وتطور المجتمع الإنساني، وهي بهذه الصفة علم لا يقل دقة عن سائر العلوم الطبيعية، ولذلك أطلق عليها مؤسسها “كارل ماركس” اسم الاشتراكية العلمية تمييزاً لها عن سائر النظريات الاشتراكية التي سادت في زمانه( نقصد بالنظرية هنا المعنى الذي يفيد أن الماركسية مجموعة القوانين و المقولات والفرضيات…الخ)، كذلك فان المكون الأساسي للماركسية، ونقصد بذلك المادية الجدلية (الديالكتيكية) و منهجها، سمي علم العلوم أو علم الحركة بمختلف أشكالها و صورها، والماركسية هي علم تطبيق المادية الجدلية على تاريخ المجتمع البشري بجميع مراحله وأنماطه المختلفة من حيث النشؤ والتطور بين هذا المجتمع أو ذاك، أما المكونات الأخرى للماركسية (التطور الاجتماعي و الاقتصاد و الفلسفة و الاشتراكية) فهي ليست سوى تطبيق للمادية الجدلية على المسيرة التطورية لمجتمعاتنا العربية أو لأي مجتمع من المجتمعات في انتقالها من نمط إلى نمط آخر

ولذلك فان الشرط الأول من شروط تكوين الكادر الماركسي في حزبنا، كما في كل الأحزاب اليسارية، هو الإيمان الواعي بان الماركسية علم، و هذا ما يفتقر إليه الكثير من الرفاق ليس في حزبنا/جبهتنا فحسب بل في كل الأحزاب اليسارية العربية وغيرها، رغم إقرار هذه الأحزاب و التزامها بالماركسية و منهجها رغم إقرار هذه الأحزاب وبصورة موضوعية صحيحة بأن الماركسية ترتبط بالقوى التي تعبر عن الطبقات الفقيرة من العمال والفلاحين الفقراء، وهنا تتجلى أهمية إدراك و وعي الماركسية كشرط أساسي لتكوين الإنسان الحزبي الماركسي، فإذا كانت الماركسية علم كسائر العلوم كالطب أو الهندسة، فان هذا يفترض تأهيل العضو الحزبي أن يدرس علم الماركسية و قوانينها و مقولاتها لكي يصبح ماركسيا و لكي تصبح الماركسية كيانا لدى العضو في حزبنا كما هو علم الطب الذي أصبح كيانا لدى الطبيب، فكما يجابه الطبيب في كل مريض حالة جديدة يؤهله علمه أن يشخص الحالة المرضية و يصف لها العلاج المناسب، كذلك الأمر يجابه الماركسي ومن ثم الحزب بالمعنى الجمعي خلال نضاله اليومي والاستراتيجي حالات جديدة تؤهله الماركسية التي أصبحت كيانا له أن يشخص الحالة أو التطورات والمتغيرات ويضع لها الحل المناسب، وهو حل مرتبط بدراسة الماركسية كشرط لابد من استكماله لنشؤ وبناء عضو الحزب الماركسي، إذ لا يمكن أن يصبح ماركسياً من لم يدرس الماركسية في سياق نضاله والتزامه ببرنامج الحزب وأهدافه الوطنية والديمقراطية، عبر ارتباطها الوثيق بالبعدين القومي والإنساني، و هذا هو الفرق بين دراسة العلوم الطبيعية كالطب و بين دراسة علم الماركسية، فمن المفروض أن العضو الحزبي يتعلم الماركسية من خلال ممارستها في نضاله داخل الحزب وخارجه، لمتابعة مستجداتها و تطورها من ناحية وبتوجيهات الحزب عبر عملية التثقيف النظرية والعملية من ناحية ثانية، من اجل بناء و خلق الكوادر الحزبية القوية فكريا و تنظيميا ونضاليا، وإلا فان الكوادر الضعيفة ستظل تعكس ضعفها ورخاوتها على مجمل هيئات الحزب وقواعده

السمات الرئيسة للماركسية:
تتميز الماركسية عن غيرها من الأنساق النظرية والفلسفية السابقة بأمور ثلاثة:

الأول:- أنها تستمد عناصرها ومعطياتها وبالتالي قوانينها من الدراسة العلمية العينية الملموسة للواقع الاقتصادي والاجتماعي الفكري والصراعي (الطبقي) في فلسطين والوطن العربي والعالم.

الثاني:- هو أنها ليست مجرد نظرية معرفية علمية تستمد هدفها من الدراسة العلمية الموضوعية وإنما تتضمن كذلك موقفاً موضوعياً كنظرية لتغيير الواقع تغييراً جذرياً لإقامة واقع مغاير يتخلص فيه الإنسان من الاضطهاد الوطني والطبقي ومن الفقر والقهر والاستغلال، وتتفجر فيه إنسانيته الإبداعية وتتوفر له الحرية الحقيقية.

الثالث:- الممارسة العملية تتم وفق هذه المعرفة، وهي شرط لها، وهي مصدر أساسي في الوقت نفسه لهذه المعرفة. إلى جانب ذلك فإن الماركسية معنية بثلاث لحظات في ديالكتيك إنتاج الهوية الاجتماعية الطبقية:

-اللحظة الأولى: هي التعليم والتربية في استخدام المنهج الديالكتيكي المادي في التفسير التاريخي والاجتماعي، وهي تشمل قراءة التراث الماركسي الكلاسيكي قراءة متبصرة ونافذة.

-اللحظة الثانية: هي إنتاج العلم التاريخي والاجتماعي بالخصوصية بواسطة العمليات الفكرية التي تعلمها سابقاً، أي إعادة إنتاج النظرية الاجتماعية والتاريخية هنا عندنا نحن العرب في سياق العصر الراهن.

-اللحظة الثالثة: هي إعادة إنتاج الفكر الماركسي لهويته الطبقية وأشكاله وأدواته الميكروية الجديدة (مناهج متخصصة في حقول معينة من العلوم الإنسانية والطبيعية) وفي هذه اللحظة تنشغل النظرية بمسألة قضايا التنظيم وبناء الحزب السياسي وفق أشكال مناسبة وفعالة بما تضمنته من بناء تصورات وأيدلوجيا للتغير الاجتماعي التاريخي. اللحظات الثلاث متداخلة ومترابطة، أي لا يتم وعيها كلحظات منفصلة ميكانيكياً.

و في هذا الجانب، نشير إلى الماركسية في علاقتها بالأحزاب الشيوعية العربية في ظل ما يمكن تسميته بتبعية هذه الأحزاب للمركز في موسكو قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث كان يجري اعتناقها، كما ترد في الكتب والكراريس المؤلفة (والمطبوعة غالباً) في الاتحاد السوفيتي، عبر علاقة كانت قائمة على التبعية العمياء لموسكو آنذاك دون أي فرصة للنقد أو المراجعة والاجتهاد، الأمر الذي راكم حالة من الجمود في أوساط الحركة الشيوعية العالمية والعربية، أدت إلى عجز أطراف هذه الحركة عن التفاعل الخلاق مع واقعها المحلي (القطري والقومي) وخصوصيته من حيث التطور الاجتماعي والثقافي.

لكن انهيار المنظومة الاشتراكية أوجد تحوّلاً عميقاً، ليس في السياسة والجغرافيا السياسية فقط، بل وبالفكر كذلك، حيث انقلب بعض «المدافعين الأشداء” إلى «أعداء» أو رافضين، وشتّامين لكل ما يمت للاشتراكية بصلة، حتى «المجددين الماركسيين»، عمموا الرفض والتشكيك، وتأكيد قيم الرأسمالية كنمط اقتصادي اجتماعي، في سياقها الليبرالي و”ديمقراطيتها”.

ولاشك في أن انهيار المنظومة الاشتراكية يفرض التشكيك والشك، وبالتالي يفرض البحث والدراسة والتقييم لتجربة الاشتراكية ، وبالتالي جعل الشك عنصراً أساسياً في رؤيتها، وهل لازالت قادرة على أن تكون «الأساس النظري» للمشروع القائم على نفي الرأسمالية؟

لابد من الإشارة أولاً، إلى أن «معنى» الماركسية التي ترّسخت في وعينا (أو التي وصلتنا) يحتاج إلى تحديد، وبالتالي هل أننا نناقش الماركسية ونصدر الأحكام بحقها من داخلها فعلاً؟ أم أننا نقوم بكل ذلك انطلاقاً من «الوعي» الذي تشكل لدى أحزاب اليسار العربي والعالمي في إطار تلك الحالة من التبعية الميكانيكية للمركز في موسكو، حيث أن كل ذلك يؤسس لـ«طريقة في التفكير» تصبح هي أساس وعي الظواهر؟ فالماركسية حسب ما تعرّف هي منهج وقوانين ونظريات، فهي طريقة في التفكير أولاً، وهي منظومة قوانين ومفهومات تشكل آليات النشاط الذهني الضروري لكل بحث، وخصوصاً لكل بحث في واقعنا الفلسطيني والعربي، إنها منهجية وعي (تفسير وكشف) يكون الواقع هو ميدانها الأساسي، من أجل وعي الصيرورة الواقعية ذاتها، وهذا يعني بالنسبة لنا في الجبهة أن نجعل من الواقع محل بحث مستمر، مما يجعل كل ما هو محدّد مسبقاً محل تساؤل، سواء من أجل إعادة الإنتاج أو من أجل النفي أو الاغناء. وصيرورة «الموت والحياة» هذه هي التي تحكم الماركسية، مما يجعل اليقين موضع شكّ مستمر، و الشكّ مجال الوصول إلى اليقين. هذه العملية تستلزم الواقع حكماً، ولن تكون ممكنة أو مفيدة دونه، وهي تتأسس على الجدل المادي.

النقطة الأولى إذن، لكي نستطيع وعي الاشتراكية ووعي الماركسية، تتمثل في امتلاك الجدل المادي، وهي الخطوة الضرورية من أجل إعادة بناء التصورات والأفكار، فالماركسية هي «فلسفة» التفسير، أي أنها منهجية تسمح بتفسير الواقع، ولكنها في تفسيرها هذا توصل إلى ضرورة التغيير، مما يجعل التأسيس النظري يرتبط بالتأسيس العملي، وليكون التأسيس النظري عملاً أولياً في سياق تأسيس حركة اجتماعية فاعلة، تسعى لتحقيق التغيير، عبر الأحزاب الماركسية العربية عموماً، وحزبنا/ جبهتنا خصوصاً، انطلاقاً من إدراكنا لطبيعة ومفهوم الحزب الذي هو شكل «الاتحاد» بين فئات مثقفة وفاعلي (أو ناشطي) الحركة الاجتماعية (المحددة في العمال والفلاحين الفقراء أساساً)، الأمر الذي يفرض مزيداً من الوحدة الجدلية بين عنصري الوعي والتنظيم من ناحية، وبلورة رؤية تحويل الواقع وتحديد الهدف العام الذي نسعى إليه وتأسيس الحلم المستقبلي أو المجتمع العربي الاشتراكي الموحد من ناحية ثانية، وعلى طريق النضال من أجل تحقيق هذا الهدف العظيم فإننا نعتقد أن إعادة وضع الصراع العربي الصهيوني، كصراع ضد النظام الامبريالي الرأسمالي هو أحد أهم الشروط المطلوبة لنجاح نضالنا ضد الحركة الصهيونية ودولتها، باعتبارها قاعدة وشريكاً أساسياً في حماية المصالح الامبريالية في بلادنا، وهذا يفرض أن نعود إلى الماركسية لكي نواصل النضال عبر عملية صراع طويلة سنخوضها حتماً ضد الرأسمالية، سواء في بلداننا أو مع الرأسمالية المتوحشة التي تزحف علينا من الخارج. إذاً سنبدأ من موضوع ما هي الماركسية؟

ربما يكون السؤال مفاجئاً لأن اعتقاداً ساد بأننا نعرف ما هي الماركسية، حيث كانت رائجة وكانت «أفكارها» منتشرة كما الهواء، وبالتالي واضحة بسيطة وسهلة وليست بحاجة إلى قراءة أو دراسة أو بحث لأنها لدى العديد من رفاقنا من العاديات، وبالتالي يكون السؤال ما الماركسية نافلاً بما أنها بسيطة وسهلة وواضحة… ولكن انهيار المنظومة الاشتراكية شكك بهذه المسألة وقلب التفكير باتجاهات أخرى، ولهذا سنبدأ بمناقشة هذه المسألة.

سنلمس أولاً، أن الماركسية السوفيتية هي الماركسية التي راجت وبالتالي فنحن إزاء صيغة للماركسية تبلورت في الاتحاد السوفيتي، وهذه الماركسية هي أحد أهم المراجع التي وصلتنا في الغالب، وبالتالي كانت تجيب على كل شيء وتحلل كل شيء انطلاقاً من واقع ومصالح الاتحاد السوفياتي بصورة شبه أحادية لم تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الأنماط الاجتماعية الاقتصادية المتنوعة والمختلفة السائدة في البلدان العربية او بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، رغم أن الماركسية في هذه البلدان –كما في البلدان الصناعية- كانت تعاني من مشكلة تحديد ذاتيتها قبل ذلك، وربما كانت هذه المسألة قد نشأت منذ ماركس، وهو الأمر الذي دفع أنجلس بعد وفاة ماركس إلى محاولة التوضيح والتمييز، وكان في أساس الإشكالية موقع الاقتصاد في مجمل الماركسية، ونحن هنا نلمس إشكالية أخرى حكمت الماركسية، سابقة للإشكالية التي حكمتها بعد انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا وقيام الاتحاد السوفياتي، فقد أشار إنجلز إلى قول ماركس المتكرر دائماً: أبلغوا هؤلاء أنني لست ماركسياً، حينما لمس الميل نحو الاقتصادوية في الماركسية. لقد دخل في نقاش طويل لتوضيح موقع الاقتصاد في مجمل التكوين الماركسي (البنية الماركسية)، ولجأ إلى التأكيد على أن الاقتصاد هو المحدد في التحليل الأخير، ولكنه ليس المحدِّد وحده. وهذه فكرة هامة وحاسمة ونعتقد أنها مدخل السؤال: ما الماركسية. فإنجلز يشير إلى دور الوعي والسياسة والأخلاق والثقافة في الصيرورة الواقعية، ولا يكتفي بالتأكيد على دور الاقتصاد. ولكنه يقول أن الاقتصاد هو المحدِّد في التحليل الأخير بمعنى أن الماركسية تنطلق من كل ذلك وليس من الاقتصاد وحده، رغم أنه المحدِّد في التحليل الأخير.

لذا يصبح طرح السؤال ما الماركسية ذو أهمية وله معنى. فنحن هنا أمام هدف يتمثل في تحديد مسافة بين الماركسية السوفيتية، وبين ماركسية ماركس أنجلس وآخرين. كما نحن أمام هدف تحديد ماهية ماركسية ماركس بالذات وماذا أضاف ماركس. وربما هذا المدخل هو الذي يجعلنا نحدد ما الماركسية، لأن إضافة ماركس هي الحاسمة، والتي أسست معلماً مثّل اتجاهاً فكرياً أسمي بالماركسية، وربط جملة مفاهيم بماركس. فماذا أضاف ماركس؟

البحث في الاقتصاد كان قد بدأ فأصبح رائجاً قبل ماركس، من آدم سمث إلى ريكاردو إلى آخرين، فما الذي جعله يتسمّى بماركس؟ لقد نقد ماركس الاقتصاد السياسي، الذي كان إنجليزياً نتيجة اهتمام الإنجليز بهذا البحث تحديداً، وتوصل إلى قوانين أصبحت جزءاً من علم الاقتصاد، حتى غير الماركسي، وبدا نتيجة تركيز ماركس على الاقتصاد بأن الماركسية تساوي الاقتصاد، فاختزلت في قوانين مبسّطة. ومن هنا نشأ التصور القائل بنظرية الانعكاس، بمعنى أن الوعي هو انعكاس الواقع، وبالتالي فالاقتصاد أولاً ومن ثم يأتي الوعي والحركة الاقتصادية أولاً ومن ثمَّ تأتي الحركة السياسية والاجتماعية العامة. لكن كيف توصّل ماركس إلى نظريته حول فائض القيمة ورؤيته لتشكل النمط الرأسمالي؟ خاصة وان البحث في الاشتراكية وصراع الطبقات سبق ماركس، من الاشتراكية الطوباوية إلى مجمل الاشتراكية التي نقدها ماركس في البيان الشيوعي. فما الذي حوّل الاشتراكية من طوباوية إلى علم؟ وبالأساس ما الذي جعل ماركس يقول بنهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية؟ ـ فالفلسفة هي بحث في التجريد ووصلت مع هيغل إلى شكلها الأكمل حيث بلور الجدل، وحين أوقف ماركس هيغل على قدميه كما يقول هو، أنهى الفلسفة الكلاسيكية الألمانية كلها، وأسس لتحول الفلسفة إلى أداة تحليل أو منهجية أو طريقة في التفكير، ونقصد هنا الجدل، ليسمى مع ماركس الجدل المادي.

وهذا يوضح الرابط الذي نريد أن نشير إليه منذ البدء بين الجدل ومجمل المفاهيم والتصورات التي طرحها ماركس، فماركس لم يستطع أن يصل إلى قانون فائض القيمة أو يحلل النمط الرأسمالي دون أن يمتلك الجدل، وبالتالي دون أن يخلّص الجدل الهيغلي من مثاليته، ويحّوله إلى جدل مادي. حيث عبره استطاع أن يحلل التكوين الرأسمالي ويسير خلف الفكرة التي كان الاقتصاد السياسي قد بدأها حول البحث في فائض القيمة أو الربح ليصل إلى النتيجة التي وصل إليها. وهو عبر ذلك أيضاً استطاع أن يدرس الميل البشري للعدالة وتأسيس يوتوبيا، وأن يربطها بالسيرورة الواقعية، ليطرح ملامح إنتقال البشرية إلى تكوين جديد، أطلق عليه اسم الاشتراكية.

من هنا نعتقد أن البحث في الماركسية يجب أن يبتدىء من البحث في الجدل المادي. ولاشك أن هذه مسألة فلسفية كبيرة تحتاج إلى دراسة وبحث معمق، ولكننا لا نستطيع أن نؤسس رؤية للواقع وفهماً لصيرورته، وفهماً للمستقبل، دون أن نصل إلى هذه النقطة بالذات، أو دون أن يصبح الجدل هو الطريق التي تحكم نشاطنا الذهني في فهم الواقع.

بالطبع فان قناعتنا بأن الماركسية هي أيديولوجيا الطبقة العاملة، لا يتنافى مع ذلك، لأن تأسيس رؤية أو وعي لطبقة معينة هي الطبقة العاملة في صراعها من أجل انتصارها يفترض الاستناد إلى الرؤية الماركسية. وهنا نستطيع التمييز بين الماركسية كأداة للمعرفة، وبالتالي يكون الجدل في عمقها، وبين الماركسية كأيديولوجيا تعبر عن مصالح طبقة محددة في ظرف معين ولحظة معينة، وبالتالي انطلاقاً من الجدل المادي الذي يسمح لنا بفهم الواقع نستطيع أن نؤسس التصورات التي تعبر عن هذه الطبقة في صيرورتها، والذي يسمح لأن يؤسس وعيها بما يجعلها قوة فاعلة في المجتمع.

من هذا المنطلق نرى أننا بحاجة إلى العودة إلى الماركسية، العودة إلى ماركس أصلاً، وأن نعي ما هي الماركسية، وأن نعرف ما هو الجدل المادي.

اننا نعتبر أن الجدل هو الأساس الذي استند إليه ماركس واستطاع التوصل الى قوانين وافتراضات أصبحت مكلمة لهذا المنهج، أو أصبحت جزءاً منه، ونحن هنا لا ننفي أن في الماركسية قوانين علمية (مثل فضل القيمة، البنية التحتية والبنية الفوقية، تقسيم المجتمع إلى بنى اقتصادية اجتماعية سياسية، مفهوم نمط الإنتاج، طبيعة السلطة)، لكن مجمل هذه المنظومات لا يمكن أن تصبح أداة تحليل إلا عبر ربطها بالجدل، فالجدل يفعل عبر تفاعل كل هذه المستويات، وعبرها كلها نستطيع فهم حركة المجتمع، وليس عبر التركيز على عنصر فيها أو إهمال عنصر آخر.

لهذا حين يطرح السؤال: ما الماركسية؟ نستطيع ان نجيب بوعي ووضوح أن الماركسية هي في الأساس منهجية في التحليل، هو الجدل المادي. لهذا أشرنا إلى أن البحث في الاقتصاد، وتصور ماركس في الاشتراكية، الصراعات الطبقية، كلها تبلورت عندما أمسك ماركس بمنهجية هيغل (الجدل)، وعمل على تحويله من الجدل القائم على الفكرة، إلى الجدل المادي.

وحينما نحدد أن الماركسية هي الجدل، فإننا نشير إلى أن الجدل المادي تبلور مع ماركس وبالتالي فإن نقله نوعية في الفكر البشري كانت قد تحققت. وهنا يجب أن ندرس صيرورة تطور الفلسفة منذ نشوئها وكيف أنها في هذه اللحظة فقط أصبحت فكراً مادياً، وفي هذه اللحظة تبلور منهج جديد يتجاوز منطق أرسطو الذي حكم العقل البشري منذ أرسطو إلى هيغل، وأسس لأن يصبح هناك آلية في البحث مختلفة عما كان سائداً. هذه المنهجية هي التي أسست كل تصورات الماركسية، بل هي التي أسست الماركسية.

ومن هنا نستطيع أن نقول أن ماركس وضع حجر الزاوية كما قال لينين ذات يوم، ولم يبحث في كل شيء ولم يجب على كل شيء، ولم يكن قادراً على أن يكون دقيقاً عندما يجيب على بعض الأشياء.

فالماركسية من هذه الزاوية هي طريقة البحث التي أتت مع ماركس، والتي أسميت الجدل المادي، التي عززها العلم وأكد على صحتها. هناك إضافات، توسيعات، نعم، هناك فائدة كبيرة يمكن أن نستفيد منها من البحوث العلمية في فهم الجدل، نعم، ولكن لازال الجدل المادي هو المنهجية التي تحكم التطور، وهو المنهجية العلمية، لهذا لا نلمس أن في البحث الفلسفي الحديث من حاول أن يؤسس منهجية أخرى، عدا المنهجية الوضعية التي أدت إلى التفكيكية وإلى نشوء التخصّص، وبالتالي تفكك البحث وتجاوزه لطابعه الشمولي إلى الجزئي عبر البحث في كل فرع منفرداً وهذه الفروع كلها استفادت من الماركسية، و«سرقت» منها، عدا ذلك لم تتأسس منهجية أخرى مع الإشارة إلى أن هذه المنهجيات هي منهجيات جزئية، تخصصية، وليست منهجية شاملة (عامة) كما هو المنهج الجدلي الماركسي، الذي ينطلق من فهم الملموس، صيروراته، تناقضاته، حركته، ولا ينطلق من بحث المجرد.

في ضوء ما تقدم، فإن الماركسية تقف من حيث جوهرها ضد أمرين: ضد التجريد المطلق من ناحية، وضد التجريب البرغماتي من ناحية أخرى، وبالتالي ضد أي فكر عقائدي جامد غير نقدي وغير علمي، وضد أي ممارسة تقوم على هذا الفكر.

من هنا فإن المنهج المادي الجدلي، يعني معرفة الأشياء والوقائع كما هو تحققها الفعلي لا في تصوراتها الوهمية ولا في جزئياتها المنعزلة، وإنما في علاقاتها وتشابكاتها التي تتخذ أشكالاً مختلفة، فالماركسية بقدر ما هي نظرية متكاملة، إلا أنها في الوقت نفسه منهجاً علمياً متكاملاً أيضاً.

هذا الدور الذي ينطلق من رؤية وقوانين نظرية علمية ومحددة، تجسدها قوانين ومقولات ومنهجية المادية الجدلية أو الماركسية، أن كل شيء يتحقق وفق قوانين محددة، أو وفق علل محددة، وهذا ما يمكن تسميته بالحتمية العلمية، التي تتميز في أنها لا تستدعي إلا الأسباب والعلل الفاعلة والشروط المحددة في التجربة والأسباب المحددة لها، وهي أسباب إنسانية واجتماعية وتاريخية وموضوعية أساساً، ولعل من أبرز هذه القوانين المعبرة عن العلل والأسباب الفاعلة هي قوانين الصراع الطبقي والعلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، والدور المحدد للطبقة العاملة وكل العاملين الأجراء المنتجين والكادحين في بلادنا.

إن الوعي بهذه القوانين وهذه العوامل والعلل الموضوعية في التاريخ – كما في واقعنا الفلسطيني والعربي الراهن- وتأسيس الفاعلية الإنسانية لحزبنا عليها هو الذي ينتج تحقيق الحرية الحقيقية، لهذا لا سبيل إلى القول بحتمية قدرية في الماركسية. إن جوهر نظرية ماركس هو أبعادها العملية والفلسفية والسياسية العملية التي تتضافر لتحقيق ثورة جذرية في التاريخ عبر دور رئيس للطبقة العاملة وجموع الكادحين والفقراء المضطهدين، وهي ثورة ضرورية وممكنة في وقت واحد، بل لعل إمكانيتها مرتبطة بأساسها الضروري في بلادنا، المتمثل في ذلك الدور البشع الذي تمارسه الامبريالية وحليفها الصهيوني الذي يقوم على اغتصاب أرضنا واحتجاز تطورنا واستغلال فائض القيمة لشعوب بلدان وطننا العربي من ناحية وعلى الملكية الفردية لوسائل الإنتاج في إطار التحالف البيروقراطي الكومبرادوري الطفيلي التابع في بلادنا من ناحية ثانية، وبالتالي فان مجابهة هذا الواقع والنضال من اجل تغييره مهمة أولى ورئيسية لحزبنا/ جبهتنا وكل القوى الماركسية في وطننا العربي من اجل تحقيق انتقال جماهيرنا الشعبية من فضاء الضرورة والاستغلال إلى فضاء الحرية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية، والانتقال بالتاريخ من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية.

حينما نقول بأنه ليس وعي الناس هو الذي حدد وجودهم، وإنما العكس إن وجودهم هو الذي يحدد وعيهم، فان القراءة الموضوعية لهذا النص، تكشف منذ بدايته أن إنتاج الناس لوجودهم الاجتماعي هو الذي يفضي إلى تحقيق علاقات مستقلة عن إرادتهم الفردية، وفي هذا السياق يقول (ماركس) بوضوح « إن الناس هم الذين يصنعون التاريخ » ولقد فسر ذلك بقوله « حتى الآن فعلوا ذلك بغير وعي خاضعين لقوى اقتصادية واجتماعية لا يفهمونها ولكنهم قادرون الآن – في ظل الصراع الرأسمالي- على الوعي بها » هذه في تقديرنا هي القيمة الثورية التاريخية الأساسية للماركسية، التي تتجلى في رفضها القطعي للرؤية القدرية للتاريخ، وهذه النتيجة مرهونة بدور العامل الذاتي، أو الحزب، ودرجة الوعي بالواقع والنظرية في آن واحد من ناحية وقدرته على الانتشار والتوسع في أوساط جماهير الفقراء والكادحين من ناحية ثانية، لأنه بدون هذا الدور الطليعي النشط في أوساط هذه الجماهير –خاصة في بلادنا- سيبقى تفسير كل أشكال الاضطهاد والظلم والعدوان تفسيراً مثالياً أو قدرياً من قبل القطاع الأوسع من الجماهير الفقيرة، بما يوفر كل الفرص للقوى الليبرالية الانتهازية ولقوى اليمين الديني والعلماني وشرائحه الطبقية في السلطة وفي المجتمع أن تظل قادرة على التحكم في وعي هذه الجماهير وهنا تكمن أهمية أو دور حزبنا –وكافة قوى اليسار في وطننا العربي- في القيام بدورها الطليعي المطلوب لتجاوز الواقع المأزوم والمهزوم، في تحقيق أهداف الجماهير الشعبية الفقيرة في التحرر والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والوحدة.

أيها الرفـاق… إننا ندرك جميعاً أن هذا المسار النضالي الطليعي لحزبنا، لا يتم بشكل ميكانيكي قدري، وإنما بالوعي العميق بالنظرية والواقع الذي يُمكِّنكم وحده من السيطرة على الشروط الموضوعية وتحقيق الانتصار.

وفي هذا السياق نشير إلى أن ماركس لم يقدم برنامج عملي للتحول الاشتراكي وإنما قدم خطوط عامة، ولقد استطاع (لينين) – من بعده- أن يقود عملية الثورة وأن يحققها باقتدار في مواجهة الضرورات العملية والفكرية والتنظيمية التي فرضتها الأوضاع الخاصة والدولية آنذاك، وكانت له إبداعات فكرية وعملية عديدة مثل: نظرية قيام الاشتراكية في بلد واحد، ونظرية أضعف الحلقات، ونظرية الثورة الثقافية، ونظرية حق تقرير المصير… نظرية الثورة والعدالة… نظرية بناء الحزب…. الخ.

واليوم في عصرنا الراهن، عصر العولمة الأمريكية، وانهيار المنظومة الاشتراكية، وتراجع اليسار العالمي، وتفكك وتراجع اليسار العربي، وانتشار الإسلام السياسي، وما رافقه من إعادة إنتاج التخلف، وسيادة مفاهيم الليبرالية الرثة والهبوط السياسي – غير المسبوق- على الصعيد الوطني والقومي، فإن الحاجة تبرز إلى الاشتراكية وإلى الفكر الماركسي أكثر بما لا يقاس من الحاجة إليها في عهد ماركس أو لينين. ذلك أن الحكم على الاشتراكية والفكر الماركسي لا يكون بما أصاب التجربة السوفييتية الاشتراكية من انهيار، وإنما الحكم الصحيح على الاشتراكية والماركسية يكون عبر ما تعانيه الرأسمالية العالمية اليوم من عجز عن تقديم حلول للمشكلات الأساسية للواقع الإنساني من ناحية، وببشاعتها وبشراستها العدوانية والاستغلالية إزاء شعوب العالم الثالث عموماً وشعوب أمتنا العربية خصوصاً من ناحية ثانية، وهي شراسة فاقت أساليب النازية في همجيتها، تجسد وتدلل على عمق أزمة نظام الامبريالية الأمريكي المعولم، ليس عبر تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في بنيتها الداخلية فحسب، بل بسبب استنهاض وصعود الثورة الاشتراكية المتجددة في فنزويلا والبرازيل وبيرو وغيرها من بلدان أمريكا اللاتينية، وهو استنهاض يؤشر بوضوح وثبات على إمكانية انتصار الاشتراكية في صراعها الحتمي مع الرأسمالية، بمثل ما يؤكد أيضاً أن الاشتراكية والماركسية تبرز اليوم كضرورة ما تزال تتطلع إليها هذه الأوضاع التي تزداد تردياً في حياة شعوب العالم و شعوب بلادنا العربية عموماً وشعبنا العربي الفلسطيني خصوصاً، الذي يتعرض مشروعه الوطني الديمقراطي في هذه المرحلة لأبشع أشكال العدوان والغطرسة الصهيونية من ناحية ولأبشع صراع داخلي بين قطبي اللحظة الراهنة، التيار الأصولي أو مشروع نظام الإسلام السياسي وهويته والتيار اليميني المتنفذ في حركة فتح، بحيث بات هذه الصراع – رغم تشكل حكومة القطبين- مدخلاً لمزيد من تراكمات الإحباط واليأس في أوساط واسعة من جماهير شعبنا، ما يفرض على حزبنا/ جبهتنا، أن تتحمل مسئوليتها والخروج من أزمتها الفكرية والتنظيمية صوب ترسيخ العلاقات الرفاقية الدافئة وفق برنامج حزبنا من ناحية وحماية وتعميق هويتنا الفكرية الماركسية من ناحية ثانية، بما يمكننا من استعادة دور الجبهة الطليعي في أوساط الجماهير وقيادتها صوب تحقيق أهدافنا التحررية الوطنية والديمقراطية في إطار النضال التحرري والديمقراطي على المستويين القومي والإنساني، الذي سترتفع فيه رايات المستقبل…رايات الماركسية الكفيلة عبر جماهيرها وطليعتها المنظمة، بتجاوز حالة الهبوط والهزيمة السائدة في واقعنا الفلسطيني والعربي في هذه المرحلة.

وهكذا نعود إلى البداية متسائلين: هل ما تزال الماركسية كما قال بها (ماركس) هي نفسها لم تتغير وعلينا أن نرفع راياتها؟

ونجيب بوضوح أن الماركسية ما تزال تحمل من المصادر النظرية والتوجهات المنهجية ما يجعلها أساسية في مرجعيات فكرنا وهويتنا ونضال حزبنا من اجل التحرر والتقدم والعدالة الاجتماعية والاشتراكية، وخاصة فيما يتعلق باستنادها إلى البحث العلمي إلى جانب رؤيتها النظرية الفلسفية، المادية الجدلية، فضلاً عن الطابع النضالي للماركسية من أجل الانتقال بالمجتمعات البشرية من مرحلة الرأسمالية المعولمة إلى مرحلة الاشتراكية، التي ترتفع مجدداً راياتها اليوم في أمريكا اللاتينية …وغداً في بلادنا، كما في العديد من بلدان آسيا وأفريقيا، سترتفع رايات التحرر والاشتراكية بفضل نضال القوى اليسارية الثورية فيها، لا سيما وان الظروف الموضوعية في كل هذه البلدان باتت مهيأة لان يبدأ اليسار الماركسي فيها دوراً متجدداً سيجعل منه قوة حقيقة خلال السنوات القادمة إذا ما تم تفعيل دوره الطليعي الملتزم بالأسس النظرية والتنظيمية الثورية في أوساط الجماهير الفقيرة التي ستصنع معه وعبر قيادته مستقبلها الواعد، الخالي من كل أشكال العدوان والاضطهاد والاستغلال والمعاناة.

أيها الرفـاق… نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى منظومة جذرية من القيم الفكرية والتنظيمية والسياسية التي تكرس هويتنا الماركسية آخذين بعين الاعتبار –وبوعي- أن ديالكتيك التطور يبتعد عن العقائد الجامدة، ويتجاوز الرؤية النظرية الشكلية المبسطة والوعي العفوي، اليوم تحتاج بلادنا إلى الرفاق القادرين على التفكير ديالكتيكياً، الرفاق الذين همهم مصالح الجماهير، انطلاقا من إيمانهم بالمستقبل…الرفاق الذين يوفقون بين المعرفة النظرية والتحرك، والطريق إلى ذلك، إلى هذه النظرية، هو طريق التطور في إطار يجمع كل من التراث القومي والتراث الماركسي عبر علاقة مترابطة وجدلية، وفق رؤى متجددة، فالماركسية هي الطريق إلى الحضارة الأوروبية، إلى التراث الغربي، إذا نظرنا إليه لا كرفوف للسوبر ماركت، وإنما كثروة حقيقية من التجربة السياسية والثقافية والاجتماعية بكل تناقضاتها، ففي الوقت الذي نحافظ فيه على هويتنا، يجب أن نتجاوز الرؤية القومية الشوفينية المنغلقة، تجاوزاً إيجابياً بمعنى الترابط مع الآخر العالمي في سياق الهدف الإنساني الأسمى. الماركسية وحدها هي التي تساعدنا على ذلك. حان الوقت لرفض الأثر المخدر لضغوطات او مغريات اللحظة الراهنة وخطابها السياسي الهابط، وأفكارها وكلماتها الليبرالية أو الأصولية ورموزها وعلينا أن نختار إما أن نكون مع النخب الحاكمة ضد الشعب، أو مع الجماهير الشعبية ضد كل شيء يحول بينها وبين الحياة الخالية من الاضطهاد والاستغلال والمعاناة.


حكيم الثورة جورج حبش

فيلم جورج حبش من انتاج مؤسسة ياسر عرفات

الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

مقالات ذات صلة