اخبار مخيم البداوي

غضب ألمانيا ونفاق استثنائية “الألم اليهودي”

كتبت : لميس أندوني
21 اغسطس 2022

لن يدخل المقال في مناقشة صحة تصريح الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) في برلين، قبل أيام، أن خمسين مجزرة ارتكبتها إسرائيل تساوي خمسين “هولوكوست”، وهو قد أخطأ في إدخالنا في سجال المحرقة النازية في اليهود، ولكن الهجمة الألمانية عليه والضجّة الإسرائيلية والغربية بصدد ما قاله ليس لهما علاقة بموقف أخلاقي، وإنما بإنكار ضخامة جريمة الدولة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني.
أعي تماما أن أبناء الناجين ومن احترق أجدادُهم في أفران هولوكوست النظام النازي في ألمانيا، يبدون حساسيةً لأي مقارنة أو مماثلة، وقد عرفتُ ناجين أو أولادا لهم خلال إقامتي في أوروبا وأميركا، ولمست عن قرب حزنهم العميق من جريمةٍ لا تغتفر. ولكن؛ أن تغضب ألمانيا وإسرائيل إلى درجة المطالبة باعتذار من رئيس شعبٍ يتعرّض إلى حملة إبادة هويته وقتله بشكل يومي منذ نحو قرن، فهذه جريمة بحد ذاتها.
نعي حساسية الوضع في ألمانيا التي تحمل ذنب جريمة ارتكبها نظام حكم سابق فيها، لكننا نعي أيضا الحملة الصهيونية في ألمانيا، والتي تعتبر أي إدانة لإسرائيل أو تحرّك سلمي ضد جرائم الإسرائيليين معاديا للسامية، ومن ذلك ليس ثمة علاقة لما حدث في قناة دويتشه فيله، طرد من يعبّر عن رفضه خطيئة إسرائيل في سلبها وطناً وتشريدها شعب فلسطين الأصيل، باحترام أرواح من قضوا بالمحرقة، بل هو مؤشّر إلى معاداةٍ للشعب الفلسطيني.

الدول الغربية لا تعترف بالنكبة، وحتى التي ترفض الاحتلال غير مستعدة أن تتعامل مع إسرائيل مجرمة حرب

اتهام ألمانيا وإسرائيل الرئيس الفلسطيني باحتقار معاناة ضحايا المحرقة غير مُحِقّ، فقوله إن الشعب الفلسطيني تعرّض إلى أكثر من خمسين محرقة، بمعنى مجازي، للتدليل على استمرار جريمة الحرب الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني نحو قرن، دليلٌ على فهم لهول المحرقة، فلا يمكن استعمال التشبيه إلا لمقاربة مجزرة مستمرّة، وهو يتحدّث عن جريمة مهولة، وهذا ما ترفضه إسرائيل وألمانيا وجزء كبير من الغرب، فمنذ إنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وقبل ذلك، يجري استغلال المحرقة، ليس لشرعنة سرقة أرض فلسطين فحسب، بل والتقليل من معاناة الشعب الفلسطيني والجرائم الإسرائلية ضده. فهل يريد العالم أن تضع إسرائيل الشعب الفلسطيني في أفران، حتى يعترف بأنها حرب إبادة؟ ما يغضبهم أن أي مقاربة إنما تضع علامات استفهام أخلاقية، ليس حيال إسرائيل فقط، وإنما المشروع الصهيوني بمجمله.
القول إن استعمال وصف المحرقة، لتبيان جريمة حرب مستمرّةٍ أمام سمع العالم وبصره، فيه عدم احترام لليهود ضحايا المحرقة اتهام غير صحيح، بل ينطوي على عدم احترام لأرواح الفلسطينيين، ويضعهم في مكانة أقل أهمية من ضحايا المحرقة، وأنهم أقل أهمية أو إنسانية من الضحايا، أو الذين يتم الاتفاق على وصفهم ضحايا في الغرب.
لنواجه الحقيقة؛ فالدول الغربية لا تعترف بالنكبة، وحتى تلك التي ترفض الاحتلال غير مستعدة أن تتعامل مع إسرائيل مجرمة حرب، فالفلسطيني عندهم أقل “حضارة” من العدو الحضاري، وهو عدوٌّ يرى الفلسطيني بمرتبة أقلّ من المستوطن، ولا يقيم وزنا لحياته، ثم، وبكل وقاحة، يتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي، يئير لبيد، محمود عباس بارتكاب جريمة ضد التاريخ، ويصف كلام عباس بـ”الحقير”، وكأن الاستيطان وقتل الشباب والأطفال مظاهر حضارية وأخلاقية. فإسرائيل، والغرب من خلفها، هم فقط من يحقّ لهما أن يحدّدا ما هو أخلاقي وما هو مقبول وغير مقبول، أما استغلال الهولوكوست في رأيهم فهو عملٌ أخلاقي. ولا أتحدّث هنا عن توظيف الهولوكوست لإضفاء شرعية على المشروع الصهيوني، بل، وكما كشف الكاتب الأميركي اليهودي، نورمان فينكيلستاين، مدعما بالوثائق في كتابه “صناعة الهولوكوست”، أنتجت عمليات الابتزاز التي شارك فيها صهاينة، وغير صهاينة، عملية تجارة وإثراء بالملايين، فعن أي قلة احترامٍ لضحايا المحرقة يتحدّثون؟!

احتكار الألم كمفهوم عنصري يلتحف بادّعاء إنسانيٍّ مزيف سلوك توظفه كل الأنظمة الاستعمارية والعنصرية

اعتبار الصحافة الإسرائيلية توضيح محمود عباس بأنه لم يقصد التقليل من أهمية الهولوكوست”، بأنه تراجع عن أقواله، هو في ذاته إهانة للشعب الفلسطيني؛ فهو لم يتراجع عن المقاربة لأنها لم تقلل من المحرقة أصلا، لكن في المفهوم العنصري قوله ذلك، يعني أنه ينفي المقاربة، ومردّ هذا لأن أي مقاربة تعني قلة الاحترام، فهناك احتكار لـ”الألم”، إذ لا يمكن للفكر العنصري استيعاب المساواة والمعاناة، فالفلسطيني في رأيهم أقل شعورا بالفقدان والوجع.
احتكار الألم كمفهوم عنصري يلتحف بادّعاء إنسانيٍّ مزيف سلوك توظفه كل الأنظمة الاستعمارية والعنصرية، وإلا، كيف يمكن تبرير ارتكاب المجازر ونهب الشعوب؟ لا عجب أنه في صلب تكوين المشروع الصهيوني والممارسات الإسرائيلية، فالمستوطن أحق بالأرض، لأنه يعشق الخضرة، والمستوطن أحقّ بالمياه لأنه يفهم ضرورة الاستحمام ولا بأس من سحب مياه القرى الفلسطينية إلى المستوطنات لإقامة برك السباحة، ولا مساواة في الاحتياجات ولا في الفرح ولا في الألم.
احتكار الألم من أهم أسلحة المشروع الصهيوني وإسرائيل. صحيحٌ أن ردّة الفعل على جريمة المحرقة تستدعي ضمان عدم تكرارها، وهو الشعار الذي جرى رفعه بعد الحرب العالمية الثانية، لكن المنظمات الصهيونية تبنّته لتبرير كل الجرائم التي ارتُكبت لإقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ولضمان استمرار توسّعها، وأصبح شعارا لضمان صمت العالم.

لم تقتصر استثنائية “الألم اليهودي في الهولوكوست” على إنكار الألم الفلسطيني

لكن تواطؤ دول غربية مع الجرائم الإسرائيلية، بل مشاركتها في هذه الجرائم، من خلال تسليح ترسانة إسرائيل العسكرية، ليس نتيجة هذا الابتزاز وحسب، بل لأنها دول استعمارية، وبخاصة أميركا التي لم تتوقف عن استخدام حروبها لضمان هيمنتها، فلا استغراب هنا في استمرار أسطورة “استثنائية” حق السيطرة على حياة الشعوب، وإنما على ألمها وإنسانيتها كذلك.
لم تقتصر استثنائية “الألم اليهودي في الهولوكوست” على إنكار الألم الفلسطيني، بل بلغت وقاحة الكاتب إيلي ويزيل وازدراؤه النفس الإنسانية، وهو من الناجين من الهولوكوست، والفائز بجائزة نوبل للسلام، أن أوقف إنشاء معرض صور ووثائق لجرائم النازية ضد شعب الروما (الغجر)، في متحف المحرقة في واشنطن. ويزيل، الذي هو من أشد مؤيدي اسرائيل والمعادين للشعب الفلسطيني، رفض أن يعترف بأن النازيين وضعوا مجموعات من شعب “الروما” في الأفران وارتكبوا المجازر ضدهم، قائلا: “المحرقة حدث لا مثيل له وهو حدث يهودي صرف”. ولم تستدع عنصرية ويزيل صيحات الغضب أو اتهامات بالتقليل من أرواح ضحايا الهولوكست الآخرين، بل قوبلت بالتكريم والتبجيل ومزيد من الدعم لإسرائيل، والمصلحة هي في دعم إسرائيل. شعار ويزيل، الذي أضحى فلسفة يتم الاسترشاد بها، جعل من الصعب الاعتراف بالمجازر الكبيرة التي تلت الحرب العالمية الثانية، فليس مسموحا أن يكون هناك تقدير مماثل، وإلا يجري الاتهام باحتقار ضحايا المحرقة، ولا يمكن التقليل من هوْل المحرقة، لكن يجب أن نرفض التقليل من ألم الشعب الفلسطيني والام الشعوب بحجّة احترام ضحايا المحرقة.
القصة هنا لا تختزل بخطأ محمود عبّاس، وإنما بمحاولة منع الفلسطيني من وصف معاناته، وحملة صهيونية لإسكات الألمان وغير الألمان. ولكن الفلسطيني لن يصمت، وهو مستمر في سرد روايته، فسرد الرواية جزء من العمل المقاوم، بل هو واجب تجاه الشهداء والتاريخ، فكل شهيد يسرد رواية جديدة. وأمثال إيلي ويزيل ويئير لبيد الذي ارتضى لنفسه التقليل من إنسانية الآخرين باحتكار الألم، في سبيل إنجاح مشروعهم الاستعماري، لن يقرّروا التاريخ.

مقالات ذات صلة