بانوراما برلين

حوار مع الكاتب و المحامي حسن عبادي عبر برنامج بانوراما برلين

قال أحدهم في رحلته المجازية:
حملته عبء السلام على كل حجرٍ ،وكل شجرة في الكرمل .وسألت نفسي إذا ماكان قد أحسّ بحشرجات صوتي المختنق برغبة البكاء من شدة الفرح،وهو يطلّ عليّ من أعلى جبل الكرمل ليهديني تحية كرملية مفعمة برائحة الزعتر البري ،وعلى وقع هذه المشاعر الممزوجة بالحزن والفرح .
آما الأن لاشيء سوى الغياب
الموتى لايرجعون إلى بيوتهم في المساء …..
هذا ماقرأت قبل اللقاء مع الناشط الحقوقي والثقافي المختص في شؤون الأسرى وأدب السجون الأستاذ المحامي حسن عبادي عبر برنامج بانوراما برلين .

تقديم :باسله الصبيحي و لبيب خطار
إشراف :و عبد خطار

المحامي حسن عبادي، محامٍ فلسطيني من مدينة حيفا، مواليد 1959.

كتب : سلام أبو شرار

الكتابة على ضوء شمعة: إلهام يوحّد البلاد..

المحامي حسن عبادي، محامٍ فلسطيني من مدينة حيفا، مواليد 1959.

من خلف الأسوار العالية ينعتق الضوء والقلب والوجود في نص مُهَرَّب، يطوف البلاد من أقصاها إلى أقصاها فيُوحِدُ فضاءَها المُفَتَت، يلتفُّ حولها ذراعيْ أمٍ تهدهدان خوف وليدها، فيسكن إليهما أمانًا.

والنص المُنْتَزِعُ بفرادة لحريته، أضاف من جديد إلى قاموس فلسطين معنىً حقيقيًا ومجازيًا لوحدتها، وحدةِ الأرض والناس والوجهة.

ستةٌ وثلاثون نصًا من السجون، وعنها، اجتمعت بين دفتي كتاب واحد، والتفّت كلها، صراحةً وضمنًا حول روح الثورة الفلسطينية الأولى[1]، الممتدة واحدةَ الغاية والدلالة بين الناس على اختلاف الصور والمسميات والأدوات. فإن كان الثائر في خارج السجن يحمل بندقيةً، فإنه داخل السجن، بلا أي مبالغة، يحمل قلمًا، وبه وعليه يخوض المواجهة مع سجانه.

قلمٌ يجمع شتات البلاد

بين دفتي كتاب، قدَّم المحامي الفلسطيني حسن عبادي[2] فلسطينَ كُلَّها التي طافها مرتين، الأولى وهو يزور الأسرى في سجون الاحتلال من ريمون جنوبًا وحتى الدامون شمالاً، والثانية وهو يحمل صوتهم وحكاياتهم عن الكتابة ليوصلها إلى جمهور فلسطين القارئ، من غزة جنوبًا وحتى حيفا شمالاً، مُخْبِرًا عن أؤلئك الرجال الذين ما حادوا عن قتال مُحْتَلِّهم، تارةً بالسلاح، وأخرى بالقلم، مُبْقين البوصلة ثابتةً نحو بلادهم الكاملة.

الكتاب الذي يضم ستةً وثلاثين نصًا عن تجارب الأسرى الفلسطينيين مع الكتابة والسجن، ضمَّ أبناء فلسطين من كل أراضيها التي فتتها المُحتل لإخضاع ناسها، ولم يدرك أنها في الوجدان واحدةٌ لا يخبو إلهامها الثوري وإن اختلف لون الهوية، أو حدَّ الجدار مدى النظر والخطوة، أو طوى الزمن عشرات السنوات من أعمار أولادها في غياهب السجون.

يشكل الكتاب، إلى هذا، إضافةً إنسانيةً إلى الإرث الأدبي للأسرى في سجون الاحتلال، تخالف المألوف -في تكوينها-، إضافةً إلى ما يمكن استقراؤه من هذه التجربة التي يحكي فيها الأسرى عن ممارستهم فعلَ الكتابة الذي رآه همنغواي واحدًا من أشق الأعمال في العالم. فالكتابُ إذن، حديث عمّا وراء الأدب لا عن الأدب ذاته، وهو ما لم يُشَر إليه سابقًا على هذا النحو من التخصيص.

الكتاب الذي يضم ستةً وثلاثين نصًا عن تجارب الأسرى الفلسطينيين مع الكتابة والسجن، ضمَّ أبناء فلسطين من كل أراضيها التي فتتها المُحتل لإخضاع ناسها، ولم يدرك أنها في الوجدان واحدةٌ لا يخبو إلهامها الثوري وإن اختلف لون الهوية. ثمّ إن الأسرى فيه يحكون عن ممارستهم فعلَ الكتابة الذي رآه همنغواي واحدًا من أشق الأعمال في العالم.

وإن كانت الكتابة في صورتها المألوفة لأذهاننا فعلاً يمارسه الكاتب ضمن طقوس من الهدوء والانتقائية والانغماس في تفاصيلَ معينةٍ؛ فإنها في السجن تتخذ سياقًا فريدًا غايته النهائية لا أن تفيض نفس الأسير الكاتب بما يخالجها من أفكار فحسب؛ بل أن ينتزع فيها استمراريته في الجريان مع سيل الحياة المتدفق بالامتداد والإنتاج والأثر، والكتابةُ في هذا هي انعكاسٌ لتلك الإرادة.

هنا يتجلى معنى الكتابة من السجن وتظهرُ قيمتها؛ في مواجهة المنظومة المصممة لقتل الإنسان بالزمن، قمعًا وترهيبًا ومسخًا لإرادة الحرية عنده، وتحويله في داخلها إلى خواء متحرك في حيز ضيق، فيزيائيًا ومعنويًا.

إن الكتابة هنا هي القول في سياق محاولة الإسكات؛ ومن هنا تأخذ بسالةَ معناها. إنها القول عن السجن من داخله، مع إدراك الكاتبِ أن هذا القول في هذا الموطن صورة من صور المواجهة التي يدفع ثمنَها عن آخره.

إن الكتابة هنا هي القول في سياق محاولة الإسكات؛ ومن هنا تأخذ بسالةَ معناها. إنها القول عن السجن من داخله، مع إدراك الكاتبِ أن هذا القول في هذا الموطن صورة من صور المواجهة التي يدفع ثمنَها عن آخره.

تسعةَ عشرَ أسيرًا حَرّروا بطريقتهم نصوصَهم التي أخبَرَتْ عن صورةٍ مغايرةٍ لفعل الكتابة، الذي يرتبط في أذهان الناس بتفاصيل مُنتقاة، عزلةً وهدوءاً أو موسيقى، قهوةً، وربما سجائرَ وضوءًا مضبوط الإيقاع، لكنّه في السجن ممارسةٌ أكبر من مجرد كونها إفاضة فِكْرٍ أو شعور على ورق، إنما هي كما وصفها في الكتاب الأسير وليد دقة: إننا نكتب عن السجن لننفيه.

فالكتابة هنا انطلاق نحو حرية الفعل والامتداد، في ظروف استثنائية تحتم على الكاتب التحرك بين زمانين ومكانين، باختلافات هائلة ومتسارعة تجعل من هذه القدرة فعلاً يستدعي التعامل مع النص تعامل المُريد مع العارف.

فالنص المكتوب داخل السجن منذ أن تندلع فكرته في رأس كاتبه، وحتى خروجه بصورته النهائية؛ يظلّ في حالة قلقِ مقاتلٍ يحمي وجودَه من سطوة السجان الذي سيفقد معنى وجوده وفعله حين ينجح النص في الانعتاق والوصول إلى الناس في مختلف البقاع. ثم يعود في رحلة طويلة، لتجاوز رقابة السجان، ليدخل إلى كاتبه مطبوعًا في كتاب يضاف إلى إرث مكتبات الأسرى داخل السجون.

فماذا يعني السجن هنا وما جدواه أمام إنسان يناطح قاهره بإرادة الاتصال بالحياة، قتالاً أو نصًّا؟ والسّجن قد أُوجِدَ أصلاً ليعزل المرء عن مجاراة الحياة والإضافة إليها، والتخلف عنها مع تراكم الزمن فيه دونما تغيير يُذْكَر، فتصير فجوة الحياة بين السجن وخارجه أكثر عمقاً.

في خارج السجن، اتّحدت النصوص المُحررة مع سبعةَ عشر نصًّا كتبها أسرى محرّرون وأسيراتٌ محرّرات من خارج السجن عن تجاربهم مع الكتابة حين كانوا داخله، وأصبحت كلها معًا كتاب “الكتابة على ضوء شمعة” الذي حمل بين دفتيه أبناء فلسطين بجغرافيتها الكاملة وتنوعها السياسي والفكري، متحدينَ حول قضية الأسرى وفكرة الحرية.

مُلْهَمَاً بهذه التفاصيل كلها، عِمل المحامي عبادي بالتعاون مع نشطاء مجتمعيين ومبادرات متنوعةٍ على تنظيم فعاليات إطلاق للكتاب في الأردن، وفلسطين، حاملاً في خطابه رسالةً اختصرها بقوله دائماً: الحرية خير علاج للأسير[3].

ابتداءً من القدس، مرورًا بغزة والخليل ورام الله ونابلس وحيفا وأم الفحم وغيرها، ذاكرًا في كل مرة أسماء الأسرى الذين ساهموا في كتابته، مؤكدًا خصوصية كل واحد منهم بقصته وما يعايشه وراء قضبان السجن، وهم في معظمهم ممن تجاوزوا العشرين عامًا داخل السجن.

كما بدأ فعليًا العملَ -بالتعاون مع مؤتمر التحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين- على ترجمة الكتاب إلى السويدية والإنجليزية، ويجري العمل تباعًا على ترجمته للغات أخرى،[4] إيماناً من الرّجل بحق هؤلاء الأسرى بأن يُسْمَع صوتهم، ويصل كل مكان.

ماذا قالوا؟

لكل أسير صاحب نص في الكتاب، حكايةٌ مع سبب الكتابة، وتجد أن فرادة روح كل كاتب لعبت دورها في ابتكار طقوس خاصة، لكنها كلَّها اجتمعت على ما حاولت أن توصله الأم والأدبية والأكاديمية في جامعة بيرزيت وداد البرغوثي[5]، التي انتزعت حقها في أن تكتب لذات الكتابة، لا لتضيف موروثًا أدبيًا كبيرًا، في اللحظة التي أريد لها فيها أن تنكسر.

فالبرغوثي التي قاست تحقيقًا صعبًا، وتنقلاتٍ طويلةً بين المحاكم، وجدت نفسها في غرفة الانتظار رقم واحد في سجن عوفر تكتب اسمها بدمها الذي سال بسبب القيود المشدودة على يديها، وتقول في هذا: “وحيث لا بد للكاتب الأسير أن يستثمر الوقت والموارد فقد وضعت سبابتي في الجرح وكتبت اسمي فوق مغسلة غرفة الانتظار بالدم: وداد البرغوثي-جامعة بيرزيت.”

انضم اسم البرغوثي مقترنًا بجامعة بيرزيت إلى أسماء أسيرات أخريات على ذلك الجدار، قبل أن تجد اسم طالبتها لينا خطاب محفورًا على حديد البوسطة بالطرف المعدني لحزام الأمان، وبه حفرت اسمها تحت اسم طالبتها، وعن ذلك تقول: “استغرق الأمر وقتًا طويلاً وقوةً فاقت قوة امرأة تجاوزت الستين من عمرها بعد يوم منهك بليله ونهاره من السهر وعدم الراحة والجوع والسكري والضغط والكولسترول”[6]

في مرات أخرى كتبت البرغوثي على صحن الفلين بطرف شوكة بلاستيكية، وتتبعت حِيَل الأسرى والأسيرات الذين سبقوها إلى الزنازين التي طافت بها. أولئك الذين لم يكن بين أيديهم أقلام ولا أوراق لكنهم قالوا ما أرادوا على الجدران، بمعجون الأسنان تارةً، وأخرى برماد السجائر، أو ببقايا المُربى وخيوط البطانيات.

هكذا انتزعت امرأة كانت الكتابة ماءَها وخبز يومها، طريقةً تكتب بها، فتقول: “وهنا تصبح الكتابة كالحلم، صعبة المنال أو كالكتابة في الحلم، ما إن تصحو منه حتى لا تجد كتابةً ولا مكتوبًا، لا تجد إلا نفسك، كاتبًا مقهورًا تطارده الكتابة ويطاردها فلا يمسك أحدهما حتى برؤوس أصابع الآخر”.

وما بين نص ونص، من داخل السجن أو من خارجه، كان قلق حماية هذه النصوص هاجسًا مسيطرًا على الأسرى الذين رأوا بتعابيرَ مختلفةٍ أن الكتابة هي قرارهم بالتحدي ونفي معنى السجن عن مبناه بهذا الفعل، مع إدراكهم أن القلم والورقة ملاحقان، وهما المطلب الذي انتُزع بعد مسيرة نضالية طويلة منذ بداية الاحتلال عام 1967. وقد أرفقت المحررة نادية الخياط في نصها أنّ الورقة والقلم عوملا بوصفهما امتيازًا تمنحه إدارة السجون الإسرائيلية، بما يعني أنها ترى أن لها الحق في إلغائه أو مصادرته وقتما تشاء[7].

“وهنا تصبح الكتابة كالحلم، صعبة المنال أو كالكتابة في الحلم، ما إن تصحو منه حتى لا تجد كتابةً ولا مكتوبًا، لا تجد إلا نفسك، كاتبًا مقهورًا تطارده الكتابة ويطاردها فلا يمسك أحدهما حتى برؤوس أصابع الآخر”. الأسيرة وداد البرغوثي

إن الفكرة كلها في امتداد هؤلاء الأسرى إلى الخارج وإنبائهم بطريقتهم للعالم أنهم ما زالوا أحياء فاعلين، وهو ما حاول غلاف الكتاب الإخبار عنه من خلال ست صور مموَّهةِ الملامح لأسرى في لحظات كتابتهم داخل السجون.

كان قلق حماية هذه النصوص هاجسًا مسيطرًا على الأسرى الذين رأوا بتعابيرَ مختلفةٍ أن الكتابة هي قرارهم بالتحدي ونفي معنى السجن عن مبناه بهذا الفعل، مع إدراكهم أن القلم والورقة ملاحقان

وهو كذلك ما يمكن للقارئ أن يحس به من غضاضة الأحلام المختزنة بين الأسطر، وكذلك من استمرار الحواس في السعي نحو الإحساس بالحياة رغم فجاجة التجريد في السجن. فالبصر مُجبَرٌ على البقاء حبيس السياج، والشم لا ينال من رائحة الطبيعة الحرة شيئًا، علاوة على رفاهية الانتقاء لروائح العطر مثلاً!

وفي هذا يقول الأسير عمار الزبن[8] واصفًا رحلته في البوسطة وأثرها في الكتابة: “ولأن مصادر الشعور الأدبي لدينا مختزلة بالأصوات على وجه التحديد فقد أطرقت السمع جيدًا رغم ضجيج الأسرى من حولي، حتى ألتقط صوت المؤذن من مسجد الرملة كما كنت أفعل قبل أكثر من عشرين عامًا، ولكن دون جدوى، فهذا الأمر لا يمكن الحصول عليه إلا في سجنين أحدهما الذي نتحدث عنه[9]، والثاني سجن بئر السبع، حيث نمنا ليلتها لنصحو على أصوات المؤذنين من أهلنا في القرى والتجمعات البدوية المجاورة”.

الزبن الذي ترك ابنته الكبرى بشائر طفلةً رضيعةً وقت اعتقاله، أصبح اليوم جدًّا لابنتها دلال التي لم تغب عن طقوسه اليومية في الكتابة والإلهام الصوتي فيقول: “وإلى جوارها كلمات تخرج من فم صغير أصبح يتقن قبل كلمة بابا قول السحر: “سيدو عمار”. سأعكف ليلتها على أوراقي، تضحكني كلماتها وضحكات والدتها التي كانت أصغر منها لدى اعتقالي، وسأنزف حنانًا على حنان جدتها، حبيبتي، وفي الصباح سأحلم بما كتبت بعد أن أعاود قراءته مرات عديدة[10]”.

لم يَقل هؤلاء الرجال عن جلساتهم للكتابة فحسب، بل قالوا كثيرًا عما جعلتهم يحلمون به، وما تفتقت عنه إرادتهم الحرة من أدوات وأساليب تغلبوا بها على سجانهم، فكتبوا وأُطْلِقَت كتبهم في الخارج، فيما يصفه في كل مرة المحامي عبادي بأنه: عرس ينقصه العريس.

عرس لم يتوقف الأسرى عن صناعته وتهريبه إلى الخارج، غنيًّا بالأحلام التي تجلَّت في صورٍ متعددةٍ: أحيانًا على هيئة قلم حبر باركار، أو رائحةِ عطر مُهرب، أو حتى طاولة مبتكرة من بقايا صناديق الخضار، وربما يكون في أعظم تجلياته الردَّ الإنساني المترتب على الأمر الإلهي الأول: اقرأ، فكان الرد: “أَكتُبُ انتصار الإنسان على وحشية المكان”.

لا خاتمة لهذا المقال أبلغ من قول الزبن: “لم أقلق بأن يقال عني مجنون فالجنون لازمة الثورة والكتابة[11]”.

“وإلى جوارها كلمات تخرج من فم صغير أصبح يتقن قبل كلمة بابا قول السحر: “سيدو عمار”. سأعكف ليلتها على أوراقي، تضحكني كلماتها وضحكات والدتها التي كانت أصغر منها لدى اعتقالي، وسأنزف حنانًا على حنان جدتها، حبيبتي، وفي الصباح سأحلم بما كتبت بعد أن أعاود قراءته مرات عديدة “. الأسير عمار الزبن عن حفيدته دلال

مقالات ذات صلة