أرشيف المنتدى

بعد 61 على نكبة الحاجة فاطمة تتذكر القباب وايام الخير فيها.

“كنا بخير لحد ما طلعنا من البلاد.. من يومها متنا وانعمينا.. راحوا أولادنا وقعدنا في مخيم ما بجينا منه إلا المرض”.. وحدها بدأت الحاجة فاطمة عبد الله أبو ميالة (83 عاما) تتذكر قريتها القباب جنوبي شرق الرملة، وكما تقول: “أيام الخير والخماير فيها”.

وفي وسط مخيم شعفاط للاجئين الفلسطينيين شرقي القدس، جلست “أم سفيان” كما تحب ان تسمي نفسها، على باب دكانة “لا تسمن ولا تغني أيتامها جوعا”، “ولما تيجي سيرة البلاد تضحك، ثم تبكي في آن معا”.

“شو نقول عن القباب؟ من يوم ما طلعنا منها ما شفنا يوم خير.. غير المرض والخوف والموت”. ولا ترتبط النكبة في ذاكرة أم سفيان إلا بمشهد ابنتيها اللتين ماتتا من الخوف و”دفنتهن في البلاد وطلعت”، كما تقول. ثم تصل بنكبتها إلى مشهد استشهاد ابنها سفيان بداية انتفاضة الأقصى “هون في نص المخيم قتلوه وشحطوه في الشوارع”.

طلعنا من الطخ..

وعن يوم النكبة تتذكر أم سفيان: سمعنا بداية أن اليهود بدأوا بقتل أهل قرية أبو شوشة ومثلوا بجثث الشهداء، وبعد ساعات رحنا نسمع صوت الرصاص والتفجيرات قريبة من قريتنا، ومع ذلك لم نخرج.. وخلال يوم واحد سيطر اليهود على البلد وصاروا يقتلون الناس زي العصافير.. وصرنا نخرج هائمين على وجوهنا”.

وتضيف أم سفيان: “يومها كان معي ابني طلال وعمره سنة وبنتين فتحية ووداد (سنتين وثلاث سنين).. ومن كثر الخوف ماتت البنات ودفناهن في ساحة البيت وطلعنا تحت الطخ”. وفي الطريق شاهدت أم سفيان “ابن ابراهيم الحسن” – هكذا تذكره – “انقتل عالشارع قدامنا وتركنا بدمه سايح”.

ومن القباب هربت عائلة أم سفيان إلى قرية بيت نوبا المجاورة، وبعد أيام طال الموت هذه القرية أيضا، “وهرب الناس إلى عمواس المجاورة.. وهناك مكثنا عدة سنوات بعد أن عاد أهلها إليها برغم القتل”.

وتروي أم سفيان كيف خرج الناس “بلا مال ولا حلال”: طلعنا حافيين نقطع الخرق (القماش) ونعصب رجلينا كي نستطيع المشي في الجبال والوعر. وفي الطريق إلى بيت نوبا كنا مش عارفين نبكي على الشباب اللي تقتلت ولا على بناتي اللي دفنتهن ولا على البلد اللي ضاعت”! وحتى اليوم تبكي على كل هذا مجتمعا مع أوجاع نكبات استجد الكثير منها في ما بعد.

بعد سنوات طويلة وقبيل نكسة عام 67 بسنوات قليلة، اضطرت العائلات المشردة إلى الهجرة مرة أخرى إلى مناطق قريبة، إلى رام الله والبيرة والقرى المجاورة، ووصلت الطريق بعائلة أم سفيان إلى مدينة البيرة، “هناك سكننا في الليوانات” (بيوت فلسطينية حجرية للمناسبات)، ومكثنا سنتين تقريبا إلى أن رحلنا إلى حارة الشرف في القدس”.

الهجرة الرابعة

وفي حارة الشرف وسط البلدة القديمة للقدس، قالت أم سفيان: “حسينا حالنا مثل الدواب.. سكنونا في اسطبلات للخيل والحمير”! وكانت النكبة والمأساة تكبر مع أطفالها، إلى أن حان موعد التهجير الرابع، حيث أخطرت مئات العائلات المهجرة التي سكنت حارة الشرف بضرورة الخروج إلى أرض قريبة خصصتها الوكالة لهم تسمى “شعفاط” شرقي المدينة.

وحتى من حارة الشرف لم يخرج مهجرو القباب واللد والرملة والنبي داوود وبيت ثول وأكثر من خمسين قرية مدمرة، بل لجأوا إلى الحي الذي تحول اسمه اليوم إلى “حارة اليهود”، حتى من هناك لم يخرج الناس طوعا.

وتروي أم سفيان أنها بعد أن لجأت مع زوجها وأبنائها إلى “دار لعائلة أبو اسنينة، بدأت المذابح وقتلوا الناس وصاروا يجروهم بالحبال ويذبحوهم في شوارع القدس”! تضيف: “إسرائيل عملت فينا العجايب”.

في شعفاط..

منذ عام 1966 نقلت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين أكثر من ألفي عائلة إلى مخيم شعفاط الذي لا تزيد مساحته على 200 دونم.. “وهنا سكنا في البؤس والفقر والمرض”، ومكثوا في وحدات سكنية عبارة عن “غرفة مع حوش صغير” لكل عائلة مكونة من خمسة أفراد وأقل.

وهنا تقول أم سفيان: “خلفت بنتين.. ومات جوزي وأولادي، واليوم أجلس هنا وفقدت بصري من البكاء.. يا ريتنا ما طلعنا ومتنا في القباب”. بعد 61 عاما تتمنى

هذه الحاجة التي ينطق الفقر في كل جوانب حديثها ورواياتها، كانت من بلد “الخير والخماير” كما تسميها، “ولما تجوزت راح أبوي اشترالي فستان الملكة وفستان مخمل وفستان جوخ من الرملة، وقعدوا الناس يغنوا أيام طويلة.. يوم حنة ويوم سحجة ويوم زفة”.

ثم تضيف: بقت منيحة البلاد خير وخماير فيها ورزق ومال، وكان أهلها يزرعون الذرة، وفيها ست لحاحمة (جزارين)، ولما بييجي ضيف يروح على الساحات عند الجامع ويقدمون له الغداء. وتشارك البلد كلها في الأفراح وفي الحزن، كل البلد تحضر حتى لو مات ولد ابن يوم”.

ولا تكتفي بذلك، بل تتذكر أيضا أيام “العزة والكرامة” وتقول: كان في شباب مليان من بلدنا في الثورة، منهم حسين وحسني وحسان وإبراهيم الهندي. ومن عيلتنا “أبو ميالة”، كان في بيجي عشرة مسلحين.. وكنا نملي ميّة من عين يلدا بيننا وبين أبو شوشة (بعيدة عن القباب 2 كم)، نروح نمشي ونملي على روسنا وعلى الحمير”.

“زي سور وانهدم”

تصمت.. ثم تختار النهاية كما البداية من تلقاء ذاتها: “مات جوزي محمد عبد الله ودفناه في القدس كما وصى”، ثم تذكر: “وأنا حفرت قبر جنب أولادي في القدس، ووصيت يدفنوني هناك”.

وتتساءل: لإيش هي هذي الحياة.. ليل نهار أعيّط (أبكي)؟! راحت البلاد والأولاد والبنات والجوز.. “زي سور وانهدم”. وقالت: “خلص ما ضل حكي