أرشيف المنتدى

وداعا لما سوف يأتي (الشتات الفلسطيني)

[FONT=&quot]المكان هنا مثقل بالحضور الفلسطيني. فلسطينيون يعيدون رسم حدود الوطن بلغات تعرفها ولاتعرفها. فلسطينيون بالانجليزية، فلسطينيون بالاسبانية، فلسطينيون بالايطالية، بالروسية، بالالمانية… بين عشرات الكلمات التي يرميها المتكلم على مسامعك، لا تلتقط الا تلك الكلمة التي تبدأ بالفاء وتنتهي بالنون. يشرق وجه المتكلم عند النطق بها، وكأنه يستحضر بها وطنا رآه بحواسه جميعها سوى حاسة البصر. لا تعود فلسطين مجرد مكان، إنها الذات، الهوية، التميز.[/FONT] [FONT=&quot]في نيويورك شوارع مليئة بالفلسطينيين. كثير منهم ولد هنا، لكنه يحس أنه مخلوق لهناك. بين هناك وهنا، تبدأ رحلة البحث عن وطن فقدته قبل أن تجده، لكنه الحاضر دوما: تارة في عيون الجد الذي أخفى رائحة الزيتون تحت وسادته ليلة الرحيل، وتارة أخرى في خريطة تملأ الحائط شوقا، أو في بقايا لغة عربية مكسرة ينشد بها الشاب/ة نصا درويشيا أو أغنية موطني موطني وهو ينظر اليك مزهوا، وكأنه بذلك يسجل شهادة انتمائه للمكان. عجيب هو تنوع النسل الفلسطيني. تشعر أحيانا أن الفلسطيني، الرجل تحديدا، ضاجع كل نساء العالم. هنا تجد الفلسطيني المكسيكي، والفلسطيني التركي، والفنزويلي والهولندي والبيروفي، فضلا عن الفلسطيني الامريكي بل وحتى اليهودي. تتساءل أحيانا: ماالذي جذب تلك النساء الى رجل مسلوب المكان؟ هل ثمة سحر في الفقد، يوازي السحر الذي تشعر به عند الكسب؟ بأي مكان كان يحلم الفلسطيني عندما عشق امرأة من غير وطنه؟ هل كان يبحث عن المكان في المرأة التي أحبها؟ ربما كان الفلسطيني يحاول الهرب، ولو لحظة، من سطوة الذاكرة، كي يعيد تشكيلها سردا عبر حكايات يحكيها لحبيبته عن وطن متخيل، كان ولم يكن، وطن أصبح لغة، شعرا، أغنية، زيتونة، مقاومة. لا يهم هنا كم يعرف الصبي/ة عن فلسطين/الحقيقة، لا يهم إن كان رآها بعينه أم لم يرها، فهو يحملها معه دوما، في الكوفية التي صار لها حضور في بعض مناطق نيويورك يوازي أو يفوق حضور قميص تشي غيفارا الشهير، وفي قميص حنظلة، وفي قلادة تحمل خريطة فلسطين. تشاهد فتاة تضع الكوفية وتمشي في إحدى المظاهرات وتهتف بالانجليزية: Free Free Palestine [FONT=&quot] تقترب منها، تفترض ان فلسطين تستحضر اللغة، تقول لها مرحبا، فتنظر اليك مستغربة من هذا الافتراض الذي يصادر حقها في أن تكون فلسطينية باللغة التي تريدها. تقول لك إن أباها فلسطيني، لكنها لا تعرف العربية. فلسطين هنا ليست للعرب وحدهم، قضيتنا دخلت هي الأخرى مجال العولمة. فلسطينيو الشتات يحرصون على إظهار فلسطينيتهم. أحدهم مرة تجادل مع شاب أمريكي حين أظهر هذا الأخير اندهاشه من تعبير “أنا فلسطيني”، محتجا أنه ليس ثمة مكان، على خريطة الأرض، اسمه فلسطين. الشاب الفلسطيني أوضح له، بالانجليزية، أن فلسطين كانت وستظل، وأن الفكرة تعادل في أهميتها الجغرافيا التي تتعرض دوما لسرقة الأقوياء. أخبره كيف أن لصوصا بيضا أوروبيين استولوا على بيت جده في مدينة اسمها صفد، وكيف أن العدالة، إن كان ثمة، تقتضي أن يعود الحق إلى أصحابه. فكرة الانتماء الفلسطيني تدهش كثيرا من الامريكيين هنا، خصوصا وأننا نعيش زمن تجاوز الاقليميات والوطنيات الضيقة. يظهرون تعجبهم من جيل شاب عاش حياته كلها في أمريكا، لكنه يعرف عن نفسه بكونه فلسطينيا. الامريكي هنا يقول: انا امريكي، لكن ابي او جدي بولندي او ايطالي. الفلسطيني لا يعترف بهذا التجاوز للأنا. يبدأ من “أنا” ، أنا فلسطيني، ربما فلسطيني أمريكي، لكن فلسطين تسبق ذكرا وحضورا، في اللسان والقلب معا.[/FONT][/FONT] [FONT=&quot]ما الذي سيحصل اذا رجع الشتات الفلسطيني يوما إلى فلسطين؟ أي تلاق ثقافي وحضاري سيعيشه جيلان عاشا في تجربتين مختلفتين تماما؟ العولمة الفلسطينية ستواجه تحدي الخصوصية وحماية الذات. لنتخيل اي موزاييك ثقافي واجتماعي سينتجه هذا الرجوع. في عائلة واحدة تعيش في قرية محافظة لا تحفظ في ذاكرتها ذكرى طيبة للغرباء، ربما لان الغرباء الوحيدين الذين شاهدتهم كانوا أولئك اللصوص الذين سرقوا منها شوق التعرف للآخر، قبل أن يسرقوا الأرض والشجر. في تلك العائلة قد يتجاور محمد وجميلة وفاطمة مع كارلوس وراؤول وهايدي. سيجلسون على طاولة واحدة في مناسبات الاعياد، ويأكلون معا الزيت والزعتر والباستا وأسماء لم يعتدها المطبخ الفلسطيني. التنوع هذا لن يتوقف عند مجال بعينه، فلسطين ستتجاوز جغرافيتها، وستفتح ايديها لاجيال صاغت مشروعها على حلم اللقاء الحقيقي بالمكان. بعض العائلات ستشكل أمما متحدة صغيرة، والذاكرة المحلية التي اعتادت على صوغ المناكفات بين الحماة وكنتها التي قد تكون بنت أخيها أو أختها، عليها أن تتكيف مع أشكال أخرى لهذه العلاقة قد لا تكون اللغة طرفا فيها، تكون فيها ام العبد مثلا حماة لايطالية والمانية وامريكية في وقت واحد. ربما يكون من المبكر، بل والساذج أيضا، الحديث عن لقاء ثقافي بين فلسطينيّ الداخل والخارج، فصور التعايش والقبول بين تنظيمات الداخل لا تبعث على التفاؤل. لكن قدر الفلسطيني دوما أن يصوغ الأحلام، أحلام تتجاوز الممكن المنطقي، تتجاوز اللحظة الآنية التي يجعلك التفكير فيها مضطربا وفير متوازن. مسكونون بداء الأمل، قال درويش، والأمل يأخذك بعيدا، إلى فلسطين الفكرة، النقاء، التي يعيش على أمل سماع صوتها الشتات الفلسطيني.[/FONT]