المقالات

بعد عملية عمود السحاب

تساقط المطر في نهاية أسبوع ما قبل عملية «عمود السحاب». وتلقت إسرائيل صلية صواريخ من غزة ولم ترد، عادت ظاهريا إلى حياتها الاعتيادية وأعدت مفاجأة تكتيكية لحماس. وعندما صحت السماء خرجت إسرائيل إلى عملية حددت أهدافها بحذر شديد: «ترميم الردع الإسرائيلي، ضرب حماس بشدة واعادة الهدوء إلى الجنوب». وشابهت هذه بشدة أهداف إسرائيل العام 2006 في حرب لبنان الثانية، مع فارق أن المستوى السياسي الذي أقر توصيات الجيش لأهداف العملية لم يتحمس، ولم يخرج عن هذه الأهداف المتواضعة. وعند انتهاء العملية بعد ثمانية أيام، كانت السماء فيها صافية وزرقاء، عادت عاصفة الأمطار لتوفر سببا إضافيا للامتناع عن خطوة برية.

عاموس يادلين
عاموس يادلين

ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه مثلما في حرب لبنان الثانية سقط على إسرائيل، المرة على قسمها الجنوبي، حوالي 200 صاروخ يوميا. ومرة أخرى كان سلاح الجو الذراع الأساس الذي استخدمه الجيش الإسرائيلي ضد العدو. وهذه المرة أيضا، لم تنفذ عملية برية حاسمة لوقف الصواريخ قصيرة المدى. وكانت آلية الانتهاء مختلفة: من دون قرار مجلس الأمن الدولي، من دون إبعاد حماس عن الحدود ومن دون قوة دولية ترسل إلى أراضي العدو للمساعدة في حفظ وقف إطلاق النار، ومعالجة تعريب الأسلحة وترميم القوة. ورغم التشابه في النتائج وفي شكل استخدام القوة لم تنشأ لجنة تحقيق، ولم يتهم جنرالات الاحتياط رئيس الأركان بأنه لم ينفذ خطوة برية. وعطل مفعول فينوغراد 2 وغولدستون 2.

مقارنة بالأهداف المحددة سلفا ـ العملية كانت ناجحة، ويبدو أنها حققت الغايات المتواضعة التي حددت لها. لقد تضررت حماس بشدة ـ في الساعات الأولى للعملية تم تدمير منظوماتها الاستراتيجية: أولا الصواريخ الإيرانية بعيدة المدى التي أعدت لزعزعة تل أبيب بالعشرات، كذلك أخرجت منظومة الطائرات من دون طيار عن دائرة العمل. وقتل قائد الذراع العسكري لحماس، أحمد الجعبري، وبعد ذلك أصيب عدد من كبار القادة ومئات الصواريخ المدفونة، وتدمير بيوت مخربين كبار ومبان مركزية في البنية السلطوية لحماس. ومن الخطأ التأثر باحتفالات انتصار حماس. بالعكس ـ إذا كانوا لا يقرأون الصورة ويكذبون على أنفسهم، فإن فرصة أن يخسروا في «مسابقة التعلم» عالية، لأن استخلاص العبر من كل جولة وتجسيدها فائق الأهمية. ومن أفلح في الانتصار في جولة حربية يميل إلى إهمال التعلم ويتفاجأ في الجولة التالية، أما من يفشل في المعركة فيميل إلى إجراء تحقيق ثاقب ودراسة معمقة، ويوفر ردا مناسبا للجولة التالية (انظروا ما تعلمه العرب من حرب الأيام الستة ونجاحهم في ضرب قدرة سلاح الجو العام 1973 وبالمقابل ما تعلمته إسرائيل من حرب يوم الغفران، وتجسيد الدروس وهو ما قاد إلى الهزيمة الساحقة لسلاح الجو والدفاع الجوي السوري العام 1982). إن أكاذيب حماس عن ضرب الكنيست، عن إسقاط طائرات إف 16 وضرب تل أبيب ورماته شارون تذكرنا بأكاذيب الأنظمة العربية في الستينيات والسبعينيات.

وحتى إذا كان الجيش والحكومة في إسرائيل يقدران أنهما انتصرا في المعركة، فيجدر بالجانب الإسرائيلي أن يدقق في ثمانية أيام الحرب. تدقيق وليس تحقيقا. في التدقيق يتم البحث عن سبل إدارة أفضل وأصوب للمعركة المقبلة، في التحقيق يبحثون عن المذنبين. ويمكن للمستوى السياسي أن يعين «لجنة فينوغراد» داخلية ـ ليس تحت ضغط الجمهور والإعلام ومن دون مطالبات بقطع رؤوس، أو الإطاحة بقادة سياسيين أو عسكريين. كما بوسع رئيس الأركان أن يعين مجموعة من كبار قادة الاحتياط لفحص المسائل المنظوماتية، الاستراتيجية، العملياتية واللوجستية المرتبطة بالمعركة.

وفي ما يلي دزينة مواضيع مركزية تجدر دراستها واستخلاص العبر منها تمهيدا للمعركة المقبلة التي ستصل آجلا أم عاجلا:

1ـ لماذا تآكل الردع الإسرائيلي الذي تحقق في «الرصاص المسكوب؟»

يمكن تعداد أربعة أسباب مركزية لتآكل الردع: الأول ـ قاد تغيير النظام في مصر حماس للتقدير بأن إسرائيل ستبدي حذرا أشد في ردود فعلها على إطلاقات النار من غزة. وخلافا لنظام مبارك الذي كان معاديا لحماس، قدرت المنظمة أن حكم «الإخوان المسلمين» يتيح لهم حرية عمل أوسع من السابق. والثاني ـ تعاظم منظمات الإرهاب الصغيرة في القطاع التي كانت تطلق الصواريخ على إسرائيل والتي جعلت حماس متوترة بين مسئوليتها كحكومة وبين قيمة «المقاومة» الهامة جدا لها. وبين الحين والآخر عندما قتل فلسطينيون من اعتراض خلايا إطلاق الصواريخ للتنظيمات الصغيرة، انضمت حماس لإطلاق النار. والعامل الثالث ـ كما سلف، بنت حماس منظومة استراتيجية من الصواريخ بعيدة المدى القادرة على ضرب تل أبيب – وثقتها بنفسها استندت إلى افتراض بأن إسرائيل تعرف بهذه المنظومات ولذلك لن تحاول تصعيد الوضع من أجل تجنب المواجهة. أما العامل الرابع، فهو أن حماس قدرت أنها تردع إسرائيل وأن السياسة الإسرائيلية للرد بعد «الرصاص المسكوب» كانت ضعيفة وغير فعالة، وأنها أوضحت لحماس أن ثمن إطلاق النار على إسرائيل منخفض.

وإذا كان متعذرا على إسرائيل معالجة أمر الموضوع المصري والتنظيمات الصغيرة، فهناك أهمية للرسالة بأنه رغم التأييد المصري لن تكون لحماس حصانة وأن إسرائيل تفرض على حماس المسئولية عن نشاطات التنظيمات الأصغر. وبشأن التعاظم والرد الإسرائيلية فإن الدرس واضح ـ من المهم بذل كل جهد كي لا تعود حماس والجهاد الإسلامي لبناء منظومات استراتيجية وإذا بدأت «تقطير» الصواريخ، فيجدر بالرد الإسرائيلي المناسب أن يؤثر على اعتبارات حماس في قرار العودة أم لا إلى إطلاق الصواريخ ـ أي، أشد مما كان في 2009-2012.

2ـ قضية تعاظم القدرات وكيف تمنع حماس من حشد منظومة صاروخية تمنحها قدرة إطلاق طوال أيام القتال، وتهديد وسط البلاد أيضا؟

وكما سلف، كان تعاظم قوة حماس بعد عملية «الرصاص المسكوب» العامل المركزي في تآكل الردع الإسرائيلي، ومنع التعاظم مستقبلا هو المعيار المركزي في تقدير نتائج المواجهة مع تنظيم إرهابي إقليمي. وهناك ثلاث استراتيجيات مركزية لمنع التعاظم ـ الإغلاق المادي لمسار التهريب في قطاع غزة عبر عملية برية، مهاجمة مسارات التعاظم في مصادرها في إيران وعلى طول الطريق إلى قطاع غزة، أو توكيل المهمة لطرف ثالث (قوات الأمم المتحدة في لبنان وفق القرار 1701 أو تعهد مصري وأميركي بعد «الرصاص المسكوب»). والخطوة البرية لضرب احتمالات التهريب إلى القطاع لم تنفذ في «الرصاص المسكوب» ولا في «عمود السحاب». وتجدر دراسة مهاجمة المسارات ومكونات التعاظم بشكل أشد حزما ونجاعة مما كان في السنوات الأربع الأخيرة. وحتى هذه اللحظة ليس واضحا إن كان هناك تعهد مصري أو أميركي جدي بمعالجة التعاظم المستقبلي. وهل ستكون الإدارة الأميركية الجديدة أشد حزما من الإدارة السابقة للعمل في هذا الشأن، وهل أن المصريين فهموا مدى تفجيرية وجود منظومات في غزة تعتبرها إسرائيل استراتيجية ـ ولكل هذه المسائل أهمية كبيرة بشأن استقرار وقف النار المحقق. يتطلب الأمر أن تتوفر لإسرائيل خطة ناجعة لمعالجة بناء القوة العسكرية لحماس، إذا فشل المصريون والأميركيون في معالجة المشكلة. ومن المهم في هذا السياق التشديد على أن بناء القوة العسكرية لحماس يتناقض مع مبدأ هام لنزع سلاح الدولة الفلسطينية المستقبلية، ويقلص استعداد إسرائيل لتحمل مخاطر في اتفاق سلام مستقبلي. ويتطلب الأمر أيضا بحثا مبدئيا حول استعداد دولة إسرائيل للعمل ضد تعاظم قوة أعدائها. في الماضي عملت إسرائيل ضد التعاظم الذي يعرض أمنها للخطر -»حرب سيناء» ومهاجمة المنشئات النووية العراقية، والسورية كما يبدو. إن تحديث عقيدة الأمن وتطوير معايير في حال شن عملية وقائية هي أمور مهم جدا فحصها.

3ـ هل أن انعدام التماثل مقابل حماس مفهوم بشكل صائب؟ وهل واضح المنطق المنظوماتي للعدو، وما الذي يعتبر «نصرا»؟

ثمة انعدام تماثل بين إسرائيل وحماس لمصلحة إسرائيل في مسألة التسلح والقدرة العسكرية. ومع ذلك، محظور أبدا قياس المعركة بكمية السلاح المستخدم أو بعدد القتلى في كل جانب. فإلى جانب انعدام التماثل في التسليح هناك انعدام تماثل معاكس يجعل متعذرا استخدام القوة وتحقيق أهداف العملية: انعدام تماثل في الأهداف، في قياس النتائج وفي الآثار الاستراتيجية للمعركة. وفيما ترى دولة إسرائيل في تغيير الواقع الأمني، وتعزيز الردع وتحقيق الهدوء في الجنوب نجاحا للعملية، تبدي حساسية كبيرة للمساس بأرواح مواطنيها وجنودها وهي مقيدة في استخدامها للقوة بعوامل أخلاقية وقانونية واسعة. ولحماس كمنظمة إرهابية هدف أبسط كثيرا يتلخص في «عدم الخسارة» والحفاظ على قدرات إطلاق الصواريخ نحو بلدات إسرائيلية، المساس بالمدنيين وانعدام حساسية تجاه الإصابات في صفوف مدنييها والبنى التحتية مقارنة بإسرائيل. انعدام التماثل هذا يستدعي تفكيرا معمقا – قبل شن العملية – في النتائج التي يمكن تحقيقها وشكل تحقيقها على أيدي عدو غير متماثل. ومن الواجب فحص نقاط الضعف التي إصابتها، رغم انعدام التماثل، تشوش منطق حماس وتضربه بشدة. من هذه الناحية، كان ضرب رئيس الذراع العسكري لحماس وتحييد منظوماته الاستراتيجية إنجازا استخباريا وعملياتيا هاما. ويجب تشخيص منظومات أخرى لضربة بشكل واسع ذات أثر منظوماتي جوهري، وفي مركزها مقومات قوة الذراع العسكري لحماس.

4ـ أنواع الوسائل العسكرية المتوفرة لإسرائيل مقابل أهداف العملية

ظاهريا، تتوفر لإسرائيل درجتا عمل: الدرجة الأدنى ـ المتماثلة مع الغارات الجوية وتكتفي بهدف «ترميم الردع»، والدرجة الأعلى ـ المتماثلة مع عمل بري، وتهدف لاحتلال القطاع و«تدمير حكم حماس». وهذه مقاربة تبسيطية لا تسمح بتحديد تشكيلة أوسع لأهداف العملية، ولا بهامش مرونة أكبر للمستويين السياسي والعسكري.

تتوفر لإسرائيل على الأقل درجتا عمل جوي ودرجتا عمل بري.

في عملية «عمود السحاب» اختيرت فقط الدرجة الأولى لهجوم جوي جراحي محدود. ولا ريب في أن روح تقرير غولدستون حامت في الغرف التي صودق فيها على قوائم الأهداف. إذ بوسع سلاح الجو أن ينفذ في يوم واحد في غزة غارات تساوي في عددها مجموع الغارات التي نفذها خلال أسبوع. والمساس الواسع بأهداف كثيرة ونوعية يمكن أن يخلق أثرا ردعيا أكثر جوهرية. وبداهة، أن كل ذلك عبر إبقاء العملية في إطار القانون الدولي والقواعد الأخلاقية المناسبة. وحقيقة أن حماس حكومة في غزة ويمكن التعامل معها ككيان سياسي يسمح بتحديد أهداف أوسع كأهداف مشروع مهاجمتها.

كما أن للمناورة البرية درجتين على الأقل ـ الدرجة الأولى هي المناورة في المناطق المفتوحة وتقطيع أوصال القطاع بخطوات برية تخلق إغلاقات ضد التهريب، وتقليص نطاق الإطلاقات، واحتكاك مع الذراع العسكري وورقة مساومة لتسوية في نهاية العملية. أما درجة «تدمير حكم حماس» فتقتضي احتلال كل القطاع وتدمير بنية الإرهاب، بشكل يشبه ما تم في يهودا والسامرة في عملية «السور الواقي». ومن الواضح أن ثمة صلة مباشرة بين الثمن المدفوع عندما تصعد إلى درجة عمل أعلى وبين محاولة تحقيق أهداف أكثر جوهرية. فالانتقال من هدف «ترميم الردع» إلى هدف «ترتيب آخر» أو هدف «الحسم» يتطلب موارد أخرى، وهو ينطوي بالضرورة على مخاطر لقواتنا المشاركة، فضلا عن مخاطر التصعيد مع مصر والدول العربية، وفقدان المشروعية الدولية.

ف«فن الحرب» يتمثل في محاولة خلق تزاوج وتوقيت مناسب للنار والحركة، بحيث يخرج العدو عن توازنه وتتحقق أهداف المعركة بثمن أقل. والموضوع الأهم للتدقيق في هذه المسألة هو، هل نشأ في «عمود السحاب» التزاوج الصحيح للنار والحركة، وهل توقيت وحجوم الخطوات العسكرية كانت جديدة ومفاجئة، بغية الاستخلاص منها ما يجدر إعداده للجولة المقبلة، بحيث يستنفذ بشكل أفضل تشكيلة الوسائل الاستخبارية والعسكرية والسياسية لتحقق إسرائيل أهدافها.

5ـ التهديد الصاروخي لغوش دان ـ ما معنى مهاجمة تل أبيب؟

في عملية «عمود السحاب» أطلقت من غزة للمرة الأولى في التاريخ صواريخ باتجاه غوش دان. هذه ليست مفاجأة ـ في 2010 أبلغ رئيس شعبة الاستخبارات لجنة الخارجية والأمن في الكنيست أن حماس تمتلك صواريخ تصل إلى تل أبيب. وعرف سكان غوش دان معنى إنذار بدقيقة ونصف قبل سقوط الصاروخ، وتصرفوا بشكل مرض. ومع ذلك، فإن صليات أشد في المستقبل ستشل المدينة اقتصاديا وربما ستفرغها. في هذه العملية لم يُجب من العدو «ثمنا خاصا» لإطلاقه النار على تل أبيب. ويجب البحث في ما إذا كان صائبا أن تحدد إسرائيل أن الإطلاق على تل أبيب هو «خط أحمر». ومع ذلك ينبغي أن نضع في سياق صحيح زعم حماس بأن الإطلاق على تل أبيب «تاريخي». فمخربون انتحاريون تفجروا في تل أبيب والقدس تسببوا في قتل أكبر وأهم من الصواريخ التي لم تصل إلى تل أبيب.

6ـ منظومة «القبة الحديدية» ـ كيف لا نتعطر بنجاحها؟

إن نظرية الدفاع ضد الصواريخ المتجسدة في تطوير ونشر بطاريات «القبة الحديدية» تشكل إنجازا استراتيجيا فريدا وأوليا. والكثير كتب، وبحق، عن نجاح «القبة الحديدية» في منع تضرر الجبهة الداخلية، وسماحها بالأداء المدني والعسكري تحت النيران فضلا عن المرونة الاستراتيجية وهوامش الوقت والقرار للمستوى السياسي. ومع ذلك، وبسبب النجاح تجدر الوعدة لفحص التناسب بين التكلفة والفائدة بين المكونات المختلفة لنظرية الأمن، وفي مركزها «الهجوم» مقابل «الدفاع»، والنجاعة الشاملة للمنظومة مقابل السلاح الصاروخي الدقيق وقدرة المنظومة على تسهيل التهرب من قرارات حسم المعركة.

7ـ المنطلق ـ ماذا كان ينبغي أن تكون نقطة الانطلاق؟

ثمة حاجة للفحص بنظرة إلى الوراء، متى كان صائبا وقف القتال. والسؤال الأول الذي ينبغي أن يطرح هو، هل كان صائبا إيقافها من دون رافعة كافية لتسوية ومن دون ضربة شديدة لحماس ـ ضربة تضمن على الأقل إنجاز الردع. ومن عليه فحص هذه المسألة هو المستوى السياسي والعسكري على حد سواء، خصوصا الأول. وحتى إذا كان صائبا عدم تصعيد الخطوة الجوية وعدم تنفيذ خطوة برية لأسباب تتعلق بالضغط الأميركي واعتبارات هامة إزاء مصر، من المهم فحص توقيت وقف النار. وإذا كان القرار بعدم تنفيذ عملية برية قد اتخذ سلفا، ألم يكن الأصوب وقف العملية بعد 48 ساعة، واستخدام زيارة رئيس الحكومة المصرية للقطاع كرافعة لصالح وقف نار من طرف واحد؟

هناك على الدوام توتر بين الرغبة في مواصلة العمل لتعميق الإنجاز العسكري وخلق شروط مساومة لترتيبات ما بعد العملية، وبين الخشية من التورط، من الخسائر، من المساس بمدنيين غير ضالعين ومن تصعيد إقليمي. فالعمليات المثمرة لإنجازات جيدة في الغارات الافتتاحية من المنطقي أكثر إنهاءها في مرحلة أبكر، خصوصا إذا كان واضحا أن الظروف الدولية لا تسمح بتوسيع العملية برا. وينبغي تحليل مزايا وعيوب كل نقطة انطلاق، ومقارنتها واستخلاص نتائج تسمح بتخطيط آلية الانطلاق في الجولة المقبلة، في نقطة أصوب من ناحية إسرائيل.

8ـ البيئة الإقليمية ـ عملية محدودة أخرى تنجح في حصر المعركة في جبهة واحدة

منذ انتهاء حرب يوم الغفران نجحت إسرائيل في حصر المواجهات في حلبة واحدة. وهذا إنجاز استراتيجي جوهري، لكن ليس من الصواب أبدا اعتباره بديهيا. فمصالح استراتيجية، تواصل صحيح مع الدول المجاورة، خطوات محدودة وردع قوى إزاء منظمات إرهاب مثل حزب الله وفرت لإسرائيل حرية عمل في جبهة واحدة. ويجدر التعمق في فحص الظروف التي سمحت بذلك، وقبل كل حدث مشابه وخلاله ـ التأكد من وجود تقييم صائب لاحتمال توسع وتصعيد الحدث، وأن إسرائيل مستعدة له من ناحية الجاهزية وتغيير أهداف الحرب.

9ـ مقابل مصر ـ «وثيقة وقف النار» وحصر المواجهة المحتملة

لقد خرجت مصر ك«منتصر» مركزي من العملية وأثبتت قدرتها كوسيط فعال بين إسرائيل وحماس. ويبدو أن إدارة المفاوضات في مصر مالت لصالح حماس. فالمسودات الأولى التي عرضها المصريون لم تكن مقبولة على إسرائيل، كما أن الوثيقة النهائية احتوت على فحوى ليست جيدة لإسرائيل. وهذا موضوع مركزي يجب فحصه في المستوى السياسي. وقد برزت مرة أخرى أهمية التعاون مع أجهزة الأمن المصرية كعامل مركزي في الجدل الإيجابي بين الدول ولتقليص نخاطر التصعيد. ومع ذلك يبدو أن إسرائيل ضيعت فرصة للتباحث المباشر مع الحكم الجديد في مصر برئاسة محمد مرسي. ومن المهم إشراك مصر في الاعتبارات الإسرائيلية، في القيود والخطوط الحمراء قبل الجولة المقبلة، وذلك بهدف تأجيلها وخلق آلية انتهاء فعالة، إذا وقعت.

10ـ كيف أثرت جولة القتال على ميزان القوى بين فتح وحماس داخل الحلبة الفلسطينية؟

كان الرئيس الفلسطيني، أبو مازن، الخاسر الأساس من جولة القتال الأخيرة في الجنوب. فإضافة إلى عجزه عن تحقيق المصالح الفلسطينية عبر سياسته، جاءت إنجازات حماس ثمرة لسياسة المقاومة العنيفة التي تتبناها. ومع ذلك، فإن إزاحته جانبا قادت إلى رغبة شديدة في مساعدته في التصويت على الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة. وهناك حاجة لفهم كيف ستؤثر جولة القتال ونتائجها على الانتخابات المستقبلية في السلطة الفلسطينية وعلى فرص المصالحة الداخلية الفلسطينية.

11ـ العلاقات الإسرائيلية – الأميركية ـ تشخيص حدود الدعم الأميركي

شكلت الولايات المتحدة عاملا هاما في الدعم الدولي ومشروعية إسرائيل في الدفاع عن مواطنيها. وقد أسهمت أيضا في تعزيز صلة إسرائيل بمصر. ومهم فحص مدى تقييد الولايات المتحدة لحرية عمل إسرائيل خلال العملية (زمن العملية وحجمها)، أو مدى سماحها لها بالعمل. ومنطقي الافتراض أن الولايات المتحدة كانت العامل المركزي في منع العملية البرية. كما يجب تحليل إسهام زيارة وزيرة الخارجية، كلنتون، في تحقيق اتفاق إنهاء القتال. وهذه النقاط كانت هامة جدا في الجولة الأخيرة، ومتوقع أن تكون هامة في الجولة المقبلة. إذا لم تستخلص معايير صائبة من فحص الحدث، فلن تستنفذ المزايا من الصلة الاستراتيجية الهامة مع هذه القوة الأعظم.

12ـ قيود استخدام القوة في ضوء تقرير غولدستون

عمل الجيش الإسرائيلي في جولة القتال الحالية بحذر شديد، منطلقا من رغبة أساسية في تقليص المساس بغير الضالعين. ويبدو أن الهدف تحقق، وحجم المساس بمخربي حماس والجهاد الإسلامي ولجان المقاومة كان عاليا جدا، نسبيا مقارنة بغير الضالعين. ولكن، مهم فهم الثمن الذي دفعته إسرائيل مقابل هذه السياسة ـ ألم تمس القيود الأخلاقية والقانونية بأكثر من اللازم بنشاط الجيش وتحقيقه للأهداف العسكرية؟ وهل عملية «عمود السحاب» أديرت بشكل صائب من الناحية القانونية؟ يجدر فحص التكلفة والفائدة في هذه السياسة قبيل جولات قتال مشابهة في المستقبل.

إجمال

يشيع الهدوء في الجنوب حتى الآن ويبدو أن الردع تحقق، رغم أنه يمكن فحص استمرار الردع وشدته فقط بنظرة إلى الوراء. وإذا كانت المباحثات تجري حول بنود الاتفاق، والتي كان ينبغي أن تجري بعد 24 ساعة من وقف النار، فإنها تجري بعيدا عن الأعين. وكما سلف، فإن الاتفاق إشكالي لإسرائيل في معظم بنوده، ومهم أن نرى في المستقبل إن كان، كزعم وزير الدفاع، «وثيقة غير موقعة وعديمة القيمة» أم أنها وثيقة تحقق إنجازا لحماس، وفرصة لزعزعة الاستقرار في المستقبل (جراء التصادم حول مناطق فاصلة، حول الحصار وتهريب الأسلحة) والمساس بمشروعية وحرية العمل الإسرائيلي مستقبلا.

ينبغي تذكر أن المعركة في غزة ليست مستقلة. فالنجاح العسكري الإسرائيلي، من ناحية، ونجاح حماس السياسي، من ناحية أخرى، تركا أبو مازن كخاسر رئيس من العملية، لكنهما ساعداه في تجنيد أغلبية هائلة لترفيع المكانة السياسية للسلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة.

وبنظرة إلى الأمام يبدو أن المعيار الأهم لتحديد توقيت الجولة المقبلة هو تعاظم حماس والتنظيمات الأخرى ـ متى ستمتلك المنظمات الإرهابية في غزة ثقة بالنفس كافية، على أساس إعادة بناء المنظومات الاستراتيجية التي تسمح لهم بمواجهة عسكرية مع إسرائيل. في الجانب الإسرائيلي ستبقى المعضلة ـ هل تعمل ضد تعاظم حماس والجهاد الإسلامي وقت حدوثه – أم التسليم بذلك ومعالجة الأمر في المواجهة المقبلة؟إن الفحص الثاقب لمجموعة المعايير التي فصلت في هذه المقالة وتجسيد العبر من التحقيقات يمكنها أن تضمن جاهزية أعلى في الجيش والدولة للمواجهة المقبلة، بمكوناتها العسكرية، القانونية والسياسية.

(مذكرة 123) كانون الأول 2012

مركز دراسات الأمن القومي، جامعة تل أبيب

السفير، بيروت، 14/1/2013

مقالات ذات صلة