المقالات

مات شاعر الجليل … شاعر الأمة سميح القاسم

قد يعتقد البعض، أن عنوان المقال يحمل في طياته شيئاً من مجاز أو مبالغة، لكنه ليس كذلك. فميلاد شاعر مبدع، يعني فيما يعني ميلاد أمّة، فليس أصدق وأقدر من الشعر والأدب على ترجمة قضايا وآمال وأحلام ووجود أمة من الأمم، وليس أقدر من الشعر والأدب، على حفر اسم أمّة من الأمم في سجل البقاء الإنساني.

إن ميلاد طفل مكتوب له أن يكون شاعراً في القادم من الأيام، لا يحظى بأكثر مما يحظى به ميلاد أي طفل آخر، من فرح واستبشار بالخير بمقدم زائر جديد، لكن موت شاعر استطاع أن يحفر اسم وطنه بين النجوم، وأن يحمله وجعاً في بؤبؤ قلبه، هو بالتأكيد أمر جلل، موت شاعر مبدع يعني صمت صوت من أصوات الأمّة الأجمل، ويعني صمت صوت يقول بلسان الأمّة، ويخلّد ذكراها في نبض قلبه وكلماته، لذا فإن موت شاعر مبدع هو فقدان الأمّة فلذة من فلذات كبدها، وربما أكثر.

طه دخل الله عبد الرحمن
طه دخل الله عبد الرحمن

أكتب كلماتي هذه وأنا أراجع أشعار سميح القاسم، أكتب كلماتي وأنا أقف أمام حضوره الذي سيبقى، أكتب كلماتي هذه وأنا أعلم أن سميح لن يقرأها ولن يسمعها، أكتب كلماتي وأنا أقرأ نبأ موت سميح ، وليس موت الشاعر والشعر.

سميح القاسم شاعر حاور الموت مراراً، وكان في كل مرة يخوض في حديث معه، يقول له، أنا لا أخافك ، لكن الموت هذه المرة، فعل فعلته الأبدية المعروفة بهدوء، استلّ روح سميح من بين جسده، وحلّق بها على بساطه الرباني، من دون أن يصرخ أنا الأقوى، فوحده الموت يعرف أكثر من غيره، أنه محيط ببني البشر، وأنه مار بهم واحداً تلو الآخر، وأن لا مجال لمقارنة سطوته بضعفهم الإنساني الذي خلقهم الله عليه.

يقول الروائي نجيب محفوظ في إحدى رواياته، إن مشكلة الإنسان أنه مخلوق من طين، وأنه يصرّ على أن يحتل مكانته بين النجوم، وربما كان هذا وحده من يدفع الشاعر نحو الشعر، والأديب نحو الأدب، والفنان نحو الفن، ربما وحده، هذا الخلود المنشود، وهذه المكانة العالية، هو الذي يجنّن الشاعر، ويجعله ينذر نفسه لكلمات، تقول الإنسان والوطن والبشرية.

إن البشر يولدون ويموتون كل يوم، وإن الحياة هي الأمد القصير الممتد بين لحظة ميلاد وموت، لكنه الشاعر وحده هو من يمتلك القدرة على أن ينثر وروداً على جانبي الطريق، ووحده يمتلك القدرة على كتابة كلمات وأسماء وجُمَل وقصائد على جانبي الطريق، وحده الشاعر يستطيع أن يسلّي العابرين، ويكنس بمكنسته المصنوعة من الخوص والحب، تراب المسير عن خطواتهم المتعَبة، ووحده يستطيع أن يضيء ليلهم، ويكون بقربهم حين تنهض وحشة الطريق، ويرتفع نعيق الحياة المخيف.

سميح القاسم أيها الشاعر ، سميح القاسم أيها الباقي شعراً وأملاً وضوء طريق، سميح القاسم إنني حين أنعيك فإنما أنعى الشعر والشعراء، وأنعى جزءاً من قلبي معكم.

طه دخل الله عبد الرحمن
البعنه == الجليل
19/08/2014

مقالات ذات صلة