شؤون فلسطينية

عن غسان كنفاني || غصة تتم عامها الخامس والأربعين (ملفّ)

المحاور: يسري الأمير

صيفَ العام 1966، عدتُ من مهمّةٍ في بيروت إلى مخيّم البدّاوي في شمال لبنان. التقيتُ بمسؤولي الذي أرسلني. أخبرتُه عن الشابّ الذي سلّمتُه “الرسالة،” وعن إعجابي به لكونه “واعيًا” و”فاهمًا،” ويَعرف تاريخَ عائلتي النضاليّ؛ فقد سألني عن أخي الشهيد محمّد، وعن أخي الأكبر أبي ماهر اليمانيّ، كما اهتمَّ بأن يعرف عن سيْر دراستي وشؤوني الحياتيّة.

كان ذلك هو لقائي الأوّلَ بالشهيد غسّان كنفاني، وتحديدًا في جريدة المحرّر. وكان غسّان، في الوقت ذاته، من قياديّي “حركة القوميين العرب،” ومن المقرّبين إلى الحكيم جورج حبش والشهيد وديع حدّاد وأخي أبي ماهر. وداخل مقرّ المحرّر، كان هناك مكتبٌ خاصٌّ مستقلّ لـ ملحق فلسطين، الذي كان غسان يتولّى مسؤوليّتَه، وهو أشبهُ بغرفة قيادةٍ لـ”الحركة،” يتردّد إليها قياديّوها كوديع وأبي ماهر وسليم أبو سالم ومحمد عطوي. وكان غسان الصحفيّ معروفًا عندنا بالتصدّي الإعلاميّ لمن يتعرّض للثوريين يومها: كعبد الناصر، أو حركة القوميين العرب، أو المقاومة الفلسطينيّة.

شهادة || ماهر اليماني
شهادة || ماهر اليماني

دورُ غسان هذا، كمناضلٍ عنيد، دَفع به غيرَ مرّةٍ إلى سجون السلطة اللبنانيّة. كما أنّ انخراطَه في العمل التنظيميّ لحركة القوميين العرب، والجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين لاحقًا، أوصله إلى ترؤّس تحرير مجلّة الهدف التي تأسّستْ سنة 1969 (وهو ساهم في تأسيسها، ومُنحَ امتيازُها باسمه لكونه حائزًا الجنسيّةَ اللبنانيّة).

وكما كان الوضعُ في ملحق فلسطين، فقد تحوّلتْ مكاتبُ الهدف إلى مقرٍّ صحفيّ غير معلن لـ”التنظيم الخارجيّ” (العمليّات الخارجيّة في الجبهة الشعبيّة): فيها يجتمع قادةُ التنظيم، ويتوافد إليها الصحفيّون والباحثون والمناضلون العالميّون وأعضاءُ الأحزاب الصديقة.

على أنّ مسؤوليّة الهدف لم تقلّلْ من انخراط غسّان في قضايا التنظيم الداخليّ للجبهة الشعبيّة، ولمجمل الفصائل الفلسطينيّة. ذلك أنّه لم يَعتبرْ أنّ الفصائل هي الثورة، بل الطريقُ إليها؛ فالثورة عنده ستكون بثقلها الرئيس داخل الأراضي المحتلّة، وستكون الفصائلُ داعمةً لها.

لم يكن هذا الموقفُ محبَّذًا لدى الفصائل المختلفة. لكنّ غسّان لم يأبه بذلك، بل أضاف إليه موقفًا “غير جماهيريّ” آخر، وأكثرَ جذريّة، وذلك حين اعتبر أنّ بقاءَ رئيس دولة أو حزب في منصبه لفترةٍ طويلة سيشكّل “سدًّا” في وجه الشباب الذين هم أكثرُ تجاوبًا مع تطوّر العصر.(1)

غسان كنفاني

غسّان ووديع وأبو ماهر… “يمين برجوازي”!

هذا الموقف أجّج تناقضًا كان قائمًا يومها بين طرفين:

ــــ الأوّل، لقّبَه خصومُه بـ”اليمين،” وضمّ قيادةَ الجبهة الشعبيّة، ولا سيّما غسّان ووديع وأبو ماهر اليماني وهاني الهندي وجهاد ضاحي.

ــــ أمّا الطرف المقابل، وسمّى نفسَه “اليسار،” فضمّ معظمَ قيادة “ساحة لبنان” في الجبهة، وعلى رأسهم وليد قدّورة وأبو أحمد يونس وبعضُ الشيوعيين العراقيين المنضمّين إلى الجبهة مثل أبي شهاب وأبي اليسار.

أمّا منشأ الخلاف فظاهرُه فكريّ، تمثّل في الخلاف بين “اليمين” و”اليسار” كما ذكرنا؛ وباطنُه شخصيّ (في حالة أبي أحمد والشيوعيين العراقيين)، أو موجَّهٌ لضرب الجبهة الشعبيّة عمدًا (كما في حالة قدّورة الذي انكشفتْ لاحقًا علاقتُه بالأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة، وتحديدًا “المكتب الثاني”). فالحقّ أنّ اعتبار غسّان ووديع وأبي علي مصطفى وأبي ماهر، وغيرِهم من عتاة العمل الميدانيّ، يمينًا برجوازيًّا، كان تغطيةً لصراعٍ من أجل السيطرة على قيادة “الجبهة،” خاضتْه قيادةُ “ساحة لبنان،” ولا سيّما أنّ “ألقَ” الثورة يومَها كان مركّزًا في الجهاز العسكريّ السرّيّ المتمثّل في قادة التنظيم الخارجيّ (وديع وأبو ماهر وهاني الهندي وسليم أبو سالم…)، وفي الوجه الإعلاميّ المقصود عالميًّا: غسّان كنفاني.

وكان هذا الصدْع يَكبر ويتمدّد، خصوصًا مع توافد قيادات “الجبهة” من الأردن سنة 1970 [عقب مجازر أيلول]، الأمرُ الذي اعتبره جناحُ “ساحة لبنان” تهديدًا إضافيًّا لسلطاته وصلاحيّاته. وهنا لا ننسى أنّ تشكيل ما عُرف بـ”الساحات العربيّة” ــــ التي أُوكل الإشرافُ عليها إلى عضو القيادة المركزيّة ومسؤولِ الأمن المركزيّ، أبي أحمد يونس ــــ زاد من حدّة الصراع مع التنظيم الخارجيّ، الذي صار محصورًا بالدول غير العربيّة، وصار اسمُه “الفرع الخارجيّ.”

حاول جورج حبش أن يتدخّل لرأب هذا الصدع، وخصوصًا في المؤتمر الثاني للجبهة، سنة 1972، في لبنان. فهناك أمّن حبش موافقةَ المؤتمر بالإجماع (باستثناء رفيقةٍ مناضلةٍ اسمُها ناديا) على منحه صلاحيّةَ تشكيل اللجنة المركزيّة، بصفته الأمينَ العامَّ للجبهة. وبعد تشكيل هذه اللجنة، خاض وليد قدّورة حملةَ تحريضٍ هائلةً، أدّت إلى انشقاق مجموعةٍ من الجبهة. وكان اللافت أنّ قدّورة نفسَه لم ينشقّ يومها!

عمل جماعة “اليسار،” خصوصًا في “ساحة لبنان،” على تحريض العسكر في التنظيم ــــ ومعظمُهم من شباب المخيّمات ــــ ضدّ “اليمين” خارج المخيّم. فكانوا يُشِيعون أنّ “اليمين” يحظى بامتيازاتٍ مادّيّةٍ ليست متاحةً للجميع. كما أنّهم استغلّوا أنّ موقع “التنظيم الخارجيّ” كان خارج المخيّم، في حين كانت مكاتبُ “ساحة لبنان” داخله ومتاحةً أمام جميع القاصدين. وانتشر الكلامُ عن غسّان كنفانيّ “البرجوازيّ”؛ فعنده مكتبٌ، وسيّارة، ويزوره صحفيّون عرب وأجانب، وعلاقاتُه ممتدّة حول العالم!

وإنْ شئنا الحقيقة فإنّ طبيعةَ عمل الـمتّهَمين “بالبعد عن التواصل الجماهيريّ” شكّلت الخاصرةَ الرخوةَ في تعاطف “شباب العسكر” مع تلك الاتّهامات، أو على الأقلّ في ضعف حجّتهم في الدفاع عنهم؛ فليس كلُّ مَن أراد زيارةَ وديع حدّاد أو غسّان كنفاني بقادرٍ على ذلك. وفي المقابل، فإنّ قادة العسكر موجودون دومًا بين الشباب في المخيّمات.

أمّا في ما يخصّ القاعدة الحزبيّة والجماهيريّة للجبهة في لبنان، فإنّها لم تتأثّر بهذا الصراع، الذي بقي محصورًا ضمن المجال العسكريّ وتنظيمه مباشرةً. بل إنّ محبّة الناس لوديع ورفاقه، ولأبي ماهر وحضورِه الجماهيريّ، ولغسّان وقلمه، كانت سمةً جامعةً بين الناس.

بين ناريْن… حتى مرافقة “الحكيم”

بعد تنفيذ عمليّتي العسكريّة تحت إدارة الشهيد وديع حدّاد،(2) وبعد تحريري من سجني اليونانيّ، وصلتُ إلى بيروت، حيث أمّن لنا غسّان مؤتمرًا صحفيًّا، شاركتُ فيه مع رفيقي في العمليّة محمود عيسى، ورفاقٍ آخرين من عمليّاتٍ أخرى، هم: مهى أبو خليل، والرفيق عصام، وسامي عبّود. قدّمَنا غسّان، ثمّ ترك لنا المجالَ لكي نُدلي بشهاداتنا.

بعد ذلك، صارت الهدف مكانًا أتوجّهُ إليه باستمرار، ناقلًا إلى غسّان رسائلَ من وديع (الذي لا يستعمل الهاتف)، أو من أبي ماهر. وكان غسّان يقابلني بالسؤال ذاته دومًا، مع بسمةٍ أبديّة: “إنتَ بدّك تضلّ هيك أزعر؟!”

تعزّزتْ علاقتي بغسّان، وأعضاءِ مجلّة الهدف، مع إيكال وديع حدّاد مهمّةَ “تثقيفيّ” إعلاميًّا وسياسيًّا إلى غسان؛(3) إذ كان المطلوبُ تحضيري للعمل الإعلاميّ الجماهيريّ مع أبناء الجالية الفلسطينيّة والعربيّة في أميركا اللاتينيّة. هكذا، وبأمرٍ تنظيميّ، صرتُ من أصحاب الحظوة: متتلمِذًا على يد غسّان كنفاني، في حصصٍ خاصّةٍ، لمدّة أربعة أشهر، بمعدّل خمس مرّاتٍ أسبوعيًّا، ولساعةٍ أو أكثر في كلّ مرّة.

وزاد من هذه الحظوة توطُّدُ علاقتي بأسماء الهدف الكبيرة: غانم بيبي، وشريف الحسيني، ومحمود الداورجي، وبسّام أبو شريف، وعدنان بدر، والكاتبة رضا سلمان، وكلِّ مَن وُجد هناك. كنتُ أصل إلى المجلّة في حدود التاسعة صباحًا، فأسلّم على الموجودين، وأثير بعضَ الفوضى، ثمّ أدخل إلى مكتب غسّان.

في المرّة الأولى دخلتُ عليه، فنظر إليّ منتظرًا ما أريد، فقلت:

ــــ بعتني الدكتور وديع عشانْ أتثقّف!

فانفجر ضاحكًا، وبدأ عملَه معي فورًا. كان يُشْركني في نقاشاتٍ عاديّة، بلا كلامٍ كبير لن يفهمَه شابٌّ لم يُكمل تعليمَه بل أمضى كلَّ وقته بصحبة السلاح أو داخل السجون. أحيانًا، كان غسّان يتركني في المكتب ليستقبل الضيوفَ، فأبقى هناك مستمعًا إلى النقاشات، وبعد رحيلهم يسألني عمّا فهمتُ وما سمعتُ.

خلال هذه الأشهر الأربعة، وقعتُ تحت ضغط الفُرقة بين طرفين:

ــــ الطرف الأول هو أرباب عمل التنظيم، المحترفون والمتطوّرون في آليّات عملهم. وقد مثّلهم فريقٌ مكوّنٌ من وديع وغسّان وأبي ماهر وهاني الهندي وجهاد ضاحي وأبو بسّام (فايز قدّورة).

ــــ أمّا الطرف الثاني فكان شبابَ العسكر الذين أنتمي إليهم: أبناءَ المخيّمات، ورفاقَ الطفولة الذين يجتمعون في المكاتب داخل المخيّمات، وتُعهَد إليهم مهامُّ عسكريّةٌ وأمنيّةٌ، فيها تشويقٌ وإثارة، وتُرضي الأدرينالين المتدفّقَ في عروق ابنِ الاثنين والعشرين عامًا الذي كنتُه.

كنتُ، إذن، أمام خياريْن:

ــــ فأنا أحبّ أبا أحمد يونس، على الرغم من تحفّظاتي عن الكثيرين من قيادة “ساحة لبنان.” فهو ابنُ المخيّم، والمناضلُ الذي كنتُ أستمع إلى خطاباته وأنا صغير. وكان أبو أحمد مسؤولَ منطقة أبي سمرا (في الشمال)، التي كنتُ أقصدُها في طفولتي حاملًا رسائلَ إلى المسؤولين، أو مستطلعًا دوريّاتِ الجيش اللبنانيّ وأجهزة مخابراته. كما أنّ عائلتيْنا كانتا على علاقةٍ وثيقةٍ لزمن طويل. وبقيتُ على حبّي له إلى ما قبل إعدامه سنة 1979.

ــــ وعلى المقلب الآخر، كان وديع وأبو ماهر جزءًا من ضميري ومُثُلي الأخلاقيّة. كما كانا دومًا مصدرَ بوصلتي السياسيّة، لا أحيدُ عنها لأنّهما لا يحيدان عنها. ومعهما أحببتُ غسّان كنفاني، الرجلَ الذكيَّ المهذّبَ الثوريَّ الذي لا يلين.

كان على بساطتي السياسيّة أن توفِّق بين المتناقضات. ووجدتُني أميلُ إلى جهاز الأمن المركزيّ، بقيادة أبي أحمد يونس. فتوقّفتُ عن الذهاب بشكلٍ دائمٍ إلى غسّان، وبالطبع أوقفتُ العملَ العسكريّ مع وديع. كما رفضتُ الذهابَ في تلك الرحلة الإعلاميّة مع الشهيد الرائع جايل عرجة (مسؤول الجبهة الشعبيّة في أميركا اللاتينيّة)، وكانت ترافقه الفنّانة منى السعودي، صاحبةُ كتاب رسوم الأطفال في زمن الحرب.

لم يكن خياري ذاك سياسيًّا، بل كان أشبهَ بأمزجة الشباب. ثمّ إنّهم كانوا كلُّهم، في رأيي، من “الجبهة،” التي يقودُها “الحكيم،” ولا ضيرَ في “بعض” الاختلافات في التفاصيل. من هنا، لم يكن انتقالي من موقعٍ نضاليّ إلى آخر، وتحديدًا إلى جناح أبي أحمد يونس، مدعاةً لخصومةٍ أو فراقٍ مع أحد. بقيتُ أقابل وديعًا وغسّانَ، وأيًّا من رفاقهما، بالودَّ ذاتِه؛ وينطبق الأمرُ عينُه بالطبع على علاقتي بأخي الحبيب أبي ماهر. وهم، من ناحيتهم، كانوا أكبرَ من أن يلوموني على خياراتي، أو يسائلوني عنها على الأقلّ. واستمرّت علاقتي الشخصيّة بهم؛ كما استمرّ نوعٌ من التعاون مع الشهيد وديع حين يحتاج إلى أمرٍ أقدرُ عليه.

في هذا الوقت، كان الضخّ هائلًا من جماعة “ساحة لبنان” ضدّ الطرف الآخر، وشكّل حالةً ممتدّةً بين شباب العسكر في المخيّمات. وكان لا بدّ لي من أن أتأثّر بهذه الحالة: فأجدني أنساقُ أحيانًا مع الانتقادات الموجّهة إلى “يمين” الجبهة، أو أصمتُ عنها على الأقلّ بما يوحي بالقبول بما يُقال، وعادةً ما ينتهي الأمر بغصّةٍ تتأكّلني من الداخل:

فكلُّهم أنا، وكلُّهم أحبُّهم، وكلُّهم ما زالوا يقابلونني بمحبّةٍ حقيقيّة، ولم تهتزّ ثقتُهم بي. وقد استمرّ هذا الشعورُ عندي فترةً طويلةً، إلى أن حُسم بانتقالي إلى العمل العسكريّ في جنوب لبنان، في بدايات العام 1974. فالعمل الميدانيّ المباشر فتح أمامي وعيًا أوسعَ بضرورة التقاء عناصر الكفاح المختلفة وتكاملها، عوضًا من تنافسها، من أجل خدمة القضيّة المركزيّة. وتعزّز هذا الموقف لديّ مع انتقالي إلى مرافقة الحكيم جورج حبش، والعمل معه على توحيد الجهد والأطراف.

بين الغضب والمرح

كان يصعب أن تختلفَ مع غسّان. فارتياحُه مع نفسه واضحٌ جليّ، وهو لا يريد أكثرَ ممّا يقوم به. ونادرًا ما كان يغضب. لكنّه كان ينفجر إنْ مسَّ أحدُهم “خطوطَه الحُمْر،” وتحديدًا إذا تعرّض الموقفُ “الصحّ” سياسيًّا وفكريًّا وأخلاقيًّا لأيّ خلل. إذّاك، يعلو صوتُه، وتتغيّر نبرتُه، وتَجْمد عيناه، فيَخْلق فيك الإحساسَ بأنّك في حضرةِ أبيك وقد قَبَضَ عليك متلبِّسًا بذنْبٍ عظيم!

غير أنّ غسان كان في العادة بشوشًا، بل حاضرَ النكتة. أذكرُ مرّةً أنّه عرض علينا وسيلةً لجني المال الكثير بضربةٍ واحدة. سألناه: “كيف؟” قال: “تَعلمون أنّ الخاسر في مباراة ملاكمة يَكسب نصفَ ما يكسبه الفائز. لقد قرّرتُ أن أتحدّى [الملاكمَ العالميّ] محمّد علي، وسيهزمُني من اللكمة الأولى، فيَكسب مليونَ دولار، ونكسب نصفَ مليون!”

غسان كنفاني

يوم الرحيل

في الثامن من تمّوز 1972، كنتُ قد أنهيتُ عامي الدراسيّ في مدرسة الشبيبة العليا في موسكو، وأمضيتُ الليلةَ مع زملاء الدراسة من مختلف أصقاع العالم، نحتفل ونغنّي. وفي الصباح الباكر، غادرتُ موسكو عائدًا إلى لبنان. وقفتُ في مطار بيروت أبحث عمّن أتى ليستقبلني. فجأةً، أطلّ عصام، ابنُ أخي، لاهثًا. وبحزنٍ كاسرٍ قال: “اغتالوا غسان!”

لم أنبسْ ببنتِ شفة. أحسستُ بداخلي ينعصر، وبطعمٍ مرٍّ في فمي: لقد أصابونا في الصميم!

فور وصولي إلى بيروت أرسلني أبو أحمد يونس إلى موقع التفجير [في الحازميّة] لأتفقّدَ المكانَ وأكتبَ تقريرًا عن الانفجار. بدأتْ خيوطٌ تتكشّف بين يديّ، وتجمّعتْ لديّ رواياتٌ وشُبهات. ومنها غيابُ “أبو جورج” وزوجتِه بعد الاغتيال مباشرةً، وهما مالِكا المطعم الواقعِ في الطابق الأرضيّ من المبنى الذي تَشغل مجلةُ الهدف إحدى شققه، وكان غسّان يرتاده؛ كما غابت آثارُهما تمامًا.

كما تردّدتْ أخبارٌ، من مصادر أمنيّةٍ لبنانيّة، عن مجموعةٍ من ثلاثة أشخاص غادرت البلدَ على وجه السرعة، وبشكلٍ مريب، وهم: فرنسيّ وإيرانيّ وآسيويّ.

هذا، ويرتبط الاغتيالُ لديّ بحادثةٍ وقعتْ قبل ذلك بشهور. فقد اعتقل الأمنُ المركزيّ للجبهة الشعبيّة مواطنًا أميركيًّا في فندقٍ في شارع المتنبّي الشهير وسط بيروت، وذلك بناءً على معلوماتٍ أجهلُ مصدرَها. وخلال التحقيق معه تبيّن أنّه ضابطٌ رفيعُ المستوى في وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة (CIA)، وأنّه مكلَّفٌ بملفّ عملاء المخابرات الأميركيّة في دول المنظومة الاشتراكيّة. كما صودرتْ من غرفته في الفندق وثائقُ شديدةُ الحساسيّة ترتبط بدوره في تلك الدول. إلّا أنّ هذا الضابط استطاع الهربَ، برفقة ضابطٍ من المخابرات الأردنيّة (كان معتقلًا هو الآخر)، من سجن الجبهة في مخيّم البداوي، وبطريقةٍ غامضةٍ ومثيرةٍ للشكوك. وصارا بغتةً في عهدة المخابرات اللبنانيّة (“المكتب الثاني”).

بعد فترة من هروب هذا الضابط، عاد إلى بيروت، وطلب من “المكتب الثاني” تأمينَ لقاءٍ له بغسّان. في هذا اللقاء، المنعقدِ في مقرّ مخابرات الجيش في ثكنة الحلو في بيروت، طلب الضابطُ إلى غسّان إعادةَ كافّة الأوراق التي صادرتها الجبهةُ منه. رفض غسان ذلك بالطبع، ودعم رفضَه بمداخلةٍ عنيفةٍ عن دور أميركا في المنطقة وفي الصراع مع الإسرائيليين.

لا دليل كافيًا لديّ على أنّ هذا الحادث جزءٌ من أسباب اغتيال غسان، لكنّني أعرف أنّ غسّان ساهم في تعزيز دور الجبهة الشعبيّة في التصدّي للمشاريع الاميركيّة في المنطقة. وهذا كافٍ في رأيي!

لم نصل إلى الحقيقة التفصيليّة لاغتيال غسّان ولميس، ابنةِ أخته؛ لقد اغتاله الإسرائيليّون، وهنا تتوقّف التفاصيل.

غسان كنفاني

مشيتُ في جنازته مكلَّفًا بحمايتها. كانت جنازةً هائلةً، انصبّ فيها الناسُ من كلّ الشوارع والمناطق. كنتُ أراقب وديع حدّاد في كوفيّته ونظّاراته السوداء (وهو قلّما خرج في جمعٍ كمثل ذاك اليوم)، وأبحث كلَّ الوقت عن أخي أبي ماهر، فألمحُ عينيه الدامعتين اللتين كان يحاول أن يُخفيَهما. معظمُ القادة الموجودين في لبنان شاركوا في الجنازة، بمن فيهم خصومُ غسّان داخل “الجبهة.” الحزنُ طغى على الجميع، وعمّ الإحساسُ بالخسارة الكبيرة لقامةٍ عملاقةٍ في السادسة والثلاثين. مشوا بحزن، وبدموعٍ لمن استطاع إليها سبيلًا.

كنتُ مشغولًا بتأمين الحماية كما قلت، أهتمُّ بالتفاصيل، وأراقبُ الحشودَ وقادةَ التنظيم. وبين الفينة والفينة، كان يُطلّ عليَّ وجهُ غسان الباسم، وصوتُه الهادئ وهو يسألني: “إنتَ هيك بدّك تضل أزعر؟!” فتتجمّر عيناي بدموعٍ حارّةٍ، وتتجمّد في مكانها، فتتغبّش الرؤية.

هل كان مصيرُنا سيتغيّر لو بقي غسان، ونجحتْ أطروحاتُه التنظيميّة داخل الجبهة؟ أكانت التنظيماتُ الفلسطينيّة ستعاني ذلك الشللَ في دورتها الدمويّة لو اتّبعتْ نظرتَه في ضرورة تغيير القيادات دومًا حتّى لا تصيرَ سدودًا في وجه الشباب؟ أليس بقاءُ المسؤولين طويلًا في مناصبهم أشراكًا للوقوع في براثن الفساد وطُرُقِه الميسَّرة دومًا؟ أكان فكرُ غسان، ومعه فكرُ الحكيم،(4) سيَسمح بتحوّل قيادات العمل الحزبيّ والفدائيّ إلى شركاءَ للبرجوازيّة، التي لن تقف في وجه الاستعمار، بل “ستتعامل” معه، ومع الاحتلال، من أجل الحفاظ على مكاسبها؟

لقد خسرت الجبهة، وخسر الناس، غسّان كنفاني الذي وصلت إليه اليدُ الإسرائيليّة. وهذا لم يكن مفاجئًا له ولنا؛ فهذا هو مسارُ كلّ نضال كفاحيّ، وقد سبق غسانًا إليه جيفارا غزّة، وتبعه وديع وأبو علي مصطفى وآلافُ الشهداء. ولئن كان استشهادُهم خسارةً للجبهة الشعبيّة وللثورة الفلسطينيّة والعربيّة ككلّ، فإنّ الخسارة العظمى تتجلّى في انزواء كوادر وقاماتٍ كبرى من الجبهة، وفي بُعدِها عن العمل التنظيميّ، قرفًا من مظاهر الشخصانيّة والتسلّق والانتهازيّة، بل الغيرة في أحيان كثيرة. هؤلاء المبتعِدون، أو المبعَدون، هم الخسارة الكبرى، علمًا أنّهم ــــ في سريرتهم الصافية ــــ جبهاويّون أكثر من الكثيرين ممّن تسلّموا مهامَّ على مدى تاريخ الجبهة. أليس من أكبر مشاكل الأحزاب الثوريّة بعدُها عن ناسها، وعن الفاعليّة الحقيقيّة في مجريات الأحداث؟ ألم يكن غسان ليَقْرعَ خزّانات تنظيماتنا، ويقرِّعَنا جميعَنا، بسبب قبولنا ذلك؟!

بيروت

مقالات ذات صلة