المقالات

عشيّة الذكرى الـ11 لرحيل جورج حبش || ماذا تنتظر جماهيرنا من الجبهة الشعبيّة؟

شكّلت الجبهةُ الشعبيّة لتحرير فلسطين منذ انطلاقتها في العام 1967 علامةً فارقةً في تاريخ الصراع العربيّ ــــ الصهيونيّ، وأدّت في مرحلةٍ من المراحل دورَ الرافعة الأساس للعمليّات العسكريّة ضدّ

خالد الراهب
خالد الراهب

الكيان الصهيونيّ وحلفائه في الداخل والخارج. ولذلك فإنّ مواقفَها وسياساتِها، القديمةَ والحديثة، ما زالت تتعرّض للـ”محاكمة” حتى اليوم، سواءٌ من طرف أعدائها وخصومها، أو من طرف محبّيها وكوادرها. ولا يَخفى على أحد أنّ الفريق الأول لن يَغفر تاريخَها المقاومَ الجذريّ، وأنّ الفريقَ الثاني غيرُ راضٍ عن أحوالها اليوم.

من الأسئلة التي نعتقد أنّ على القيادة الحاليّة للجبهة الشعبيّة، التي لا يمكن أحدًا التشكيكُ في تاريخها النضاليّ، أن تجيب عنها ما يأتي: ماذا يتوجّب على الجبهة أن تفعل كي تبقى وفيّةً لتطلّعات جماهيرها؟ هل يكفي مثلًا، في هذه المرحلة، أن تؤدّي دورَ “الوسيط” في صراع المصالح القائم بين حركتيْ “فتح” و”حماس”؟ أمْ أنّ المطلوب هو أن تتجاوزَ الطرفيْن معًا، وأن تتصدّى لممارسة دورٍ يتناسب واللحظةَ التاريخيّةَ التي تمرّ بها القضيّةُ الفلسطينيّةُ بشكلٍ خاصّ، والأمّةُ العربيّةُ بشكلٍ عامّ؟

لا شكّ في أنّ سقفَ التوقّعات من أيّ فصيل لا بدّ من أن يتناسبَ طردًا مع حجمه التاريخيّ وخبرتِه المتراكمة، ومع حجم المحاكمة الداخليّة التي يُجريها من أجل تطوير أدائه. ولمّا كنّا نتحدّث هنا عن جبهة جورج حبش ووديع حدّاد وغسان كنفاني وأبي علي مصطفى وإبراهيم الراعي وجيفارا غزّة وآلافِ الشهداء والأسرى والجرحى، فمن الصعب أن نقتنع بأيّ دور هامشيّ أو ثانويّ قد تؤدّيه الجبهةُ مستقبلًا في الصراع الدائر منذ عشرات السنين مع الكيان الصهيوني ــ ــ بل مع راعي هذا الكيان، أي الإمبرياليّة العالميّة ذاتها، إذ لا تَخفى على أحدٍ التحالفاتُ الدوليّةُ العميقةُ والواسعة التي عقدتها الجبهةُ مع القوى الثوريّة العالميّة، خصوصًا بين نهاية الستينيّات وأواخر السبعينيّات من القرن الماضي.

عن تميّز الجبهة الشعبيّة يقول د. جورج حبش، في خطابه إلى المؤتمر الوطنيّ السادس للجبهة، إنّ العامل الأساس في ذلك يعود إلى “تشابك” خطّها السياسيّ الوطنيّ التحرّريّ مع “خطّها القتاليّ،” و”السير في خطواتٍ ملموسةٍ في بناء الأداة التنظيميّة ــــ الجذعِ الذي يحمل هذين الفرعين.”(1) ولا ريب في أنّ هذه المقولة تصلح للوقوف على أوضاع الجبهة الشعبيّة اليوم، وفقًا لتوصيف مؤسِّسها وأمينها العامّ حتى سنة 2000. فأين هو الخطّ الذي يُفترض أن يميّز الجبهةَ اليوم؟

الحكيم بين رفاق السلاح
الحكيم بين رفاق السلاح

هل يكفي أن تُقاطِع الجبهةُ الشعبيّة المجلسَ الوطنيّ اليوم بزعامة محمود عبّاس؟ ألا ينبغي أن تقودَ حملةً شعبيّةً لنزع الشرعيّة عنه، خصوصًا بعد انتهاء ولايته منذ سنوات؟

وهل يكفي أن تقف الجبهةُ موقفَ المعارض “اللفظيّ” لاتفاقيّة أوسلو وللتنسيق الأمنيّ مع العدوّ الإسرائيليّ؟ أمْ يتوجّب أن تعمل على بناء هيكليّةٍ شعبيّةٍ تقود بها الشارعَ الفلسطينيّ من أجل إسقاط أوسلو، وإسقاطِ المنتفعين السماسرة الذين يلتفّون حول زمرة أوسلو ويمتصّون مقدّرات بلادنا على حساب قيام مشروع تحرّر وطنيّ حقيقي ينادي بتحرير فلسطين من البحر الى النهر؟

وهل يكفي أن “تلتحق” الجبهة الشعبيّة بحركة المقاطعة الفلسطينيّة والعربيّة والعالميّة، بدلًا من أن تتبوّأ مواقعَ قياديّةً فيها، بل أن تعمل كذلك على “سحب” سائر القوى الفلسطينيّة المناضلة إلى تلك الحركة، على اعتبار أنّ المقاطعة اليوم أحدُ أبرز أشكال النضال الفلسطينيّ العربيّ الأمميّ من أجل نيل حقوق شعبنا في التحرير والعودة ونزع “الشرعيّة” عن الصهيونيّة؟

وأين “التميّز” النظريّ والفكريّ والإيديولوجيّ الذي كان، بحقّ، سمةً من سمات الجبهة الشعبيّة في عهودٍ سابقة، لا في إطار العمل الوطنيّ الفلسطينيّ فحسب، بل ضمن اليسار الفلسطينيّ والعربيّ نفسه أيضًا؟ هل نطمع في تغذية الجبهة بإشعاعٍ فكريّ ونقديّ على ما شهدنا أيّامَ غسان وصابر محيي الدين وغيرهما؟

أمّا بخصوص “الخطّ القتاليّ” الذي تحدّث عنه الحكيم حبش، فلا ريب في أنّ الجماهير الفلسطينيّة متعطّشةٌ إلى مَن يقتصّ مِن قتَلةِ أطفالها وشبابِها وكهولها؛ متعطّشةٌ إلى مَن يحميها من عمليّات التهجير اليوميّ التي تطاول شعبَنا، ومن أعمال الهدم التي تقوم بها جرّافاتُ الاحتلال لبيوت أهالي المناضلين.

ثمّ إنّ جماهيرَ شعبنا تتوق إلى رؤيةِ مَن يعمل على تحرير أسرانا وأسيراتنا من السجون الصهيونيّة. وبالمناسبة، مَن تراه يصدِّق، بل يَرضى، أن يكون الأمينُ العامّ الحاليّ للجبهة الشعبيّة، التي سبق أن هزّت الكيانَ الصهيونيَّ والعالمَ مرارًا جرّاء عمليّاتها العسكريّة المنظَّمة والدقيقة والموجعة، ما يزال قابعًا في سجون الاحتلال منذ 13 سنة، من دون أن تقوم الجبهةُ بأيّ محاولة، ولو فاشلة، لتحريره عبر مبادلته بأسرى إسرائيليين؟ والأمر عينه ينطبق على المناضل البطل جورج إبراهيم عبد الله، الذي عمل مع الجبهة مدّةً، وهو الآخر يقبع في سجون الإمبرياليّة الفرنسيّة منذ العام 1984 من دون أيّ مسعًى فلسطينيّ إلى تحريره؟

صحيح أنّ بعض الظروف، المحلّيّة والإقليميّة والدوليّة، تجعل العملَ العسكريّ الفلسطينيّ محفوفًا بالمصاعب. غير أنّ هذه المصاعب هي ذاتها التي تضع الجبهةَ الشعبيّة، قيادةً وكوادرَ، في موقفٍ أقلُّ ما يقال إنّه “محرِجٌ” أمام الشعب الفلسطينيّ، ولا سيّما أنّ مقولة “وراء العدوّ في كلّ مكان،” التي أطلقها الدكتور الشهيد وديع حدّاد وطبّقها فدائيّو الجبهة، كانت منهجًا عمليًّا يوميًّا في حياة هذه الجبهة. ولعلّ تزايدَ العمليّات التي يقوم بها، في السنوات القليلة الماضية، أفرادٌ فلسطينيون، غيرُ منتسبين إلى أيّ فصيل، مؤشّرٌ على رغبة شعبنا في وجود تنظيمٍ يضمّ أمثالَ هؤلاء إلى صفوفه، ويستفيد من قدراتهم وروحهم البطوليّة المتفانية.

وأخيرًا وليس آخرًا، ألا يتوجّب على الجبهة الشعبيّة أن تسهم مساهمةً فاعلةً في اجتراح سبلٍ لتوحيد نضال الشعب الفلسطينيّ أينما وجد؟ فما معنى، مثلًا، أن تخرج رام الله، بمعظمها، في مظاهراتٍ تندِّد بقانون الضمان الاجتماعيّ، بينما لا تخرج إلّا قلّةٌ قليلةٌ منها فقط من أجل غزّة وضدّ ما يحدث فيها من عمليّات قتلٍ يوميّة؟ وما معنى أن يستقبل الفلسطينيون موضوعَ نقل السفارة الأميركيّة إلى القدس بقليلٍ من الاحتجاجات، في مكانٍ هنا وبلدةٍ هناك؟ وما معنى أن يتمسّك بعضُ فلسطينيي الـ 48 بالوجود في كنيست العدوّ على الرغم من إقراره قانونَ “يهوديّة الدولة” الذي ضرب عرضَ الحائط بحقوق كلّ فلسطينيي الداخل وحطّم إلى الأبد بدعةَ “المواطَنة” داخل “إسرائيل”؟

من نافل القول إنّ الظروف الدوليّة لم تكن يومًا مع نضال الشعب الفلسطينيّ من أجل إقامة دولته المستقلّة على كامل التراب الفلسطينيّ. ولكنْ من الواجب اليوم أن نقول إنّنا أمام هجمة هائلة تهدف إلى تفتيت المنطقة وتصفية القضيّة الفلسطينيّة إلى الأبد. ولذلك فإنّنا نرى أنّ على الجبهة الشعبيّة، التي كانت محطَّ آمال الجماهير سنواتٍ طويلة، أن تستعيدَ دورَها في توعية الشعب الفلسطينيّ وتثويره وتأطيره من أجل تحقيق هدفه الأسمى: تحرير كامل فلسطين.

دمشق

( المصدر : مجلة الآداب ـ بيروت )

25.01.19

مقالات ذات صلة