المقالات

تخبط فلسطيني في مواجهة الصفقة

يتبارى المسؤولون الفلسطينيون من مختلف الفصائل والتيارات، وخصوصاً من فتح وحماس، في توضيح مخاطر ما بات يعرف ب «صفقة القرن». ويعلن هؤلاء جهاراً نهاراً رفضهم لهذه الصفقة التي يرون أنها، ورغم عدم نشرها رسمياً، تخدم رواية الاحتلال وتكرس تبديد الحق العربي في فلسطين.

يتوازى مع ذلك تبادل متواصل للاتهامات بين أقطاب الخلاف الفلسطيني حول خدمة «التسوية الأمريكية»، وتسهيل تمريرها عبر تكريس الانقسام الفلسطيني، وعدم العمل على استعادة الوحدة كل وفق شروط الطرف الآخر.

وتقريباً، منذ عامين، والحديث جارٍ عن هذه «التسوية» التي لا يعرف الناس عنها ما هو أكثر من «التسريبات» المنشورة هنا وهناك في وسائل الإعلام الأمريكية و«الإسرائيلية»، والتي تجمع على رفض حل الدولتين، وانكار قدسية حدود 67. والغريب في مواجهة الإصرار الأمريكي على التمسك بهذه الصفقة والعمل الدؤوب على تحقيق مفاعيلها أن ردود الفعل العربية والفلسطينية لم ترقَ إلى مستوى الفعل أبداً.

فالإدارة الأمريكية، التي لا تترك مناسبة إلا وتوضح فيها أنها تقف إلى جانب الكيان سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، تصر على أنها «الوسيط» الوحيد المؤهل لحل الصراع العربي «الإسرائيلي»، لكن ليس من بوابة القانون والشرعية الدولية.

وقد عمدت في العامين الأخيرين إلى إرفاق الحديث عن «التسوية» ومعاييرها الجديدة بجملة إجراءات فعلية بدأت بمحاربة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ووصلت حد الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال. ولم تخف هذه الإدارة أنها بذلك تعمل على إزاحة قضايا الحل النهائي، اللاجئين والقدس والحدود، عن طاولة المفاوضات واحدة بعد الأخرى. ومهدت إدارة ترامب لصفقتها بالإعلان عن أن الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية) ليست محتلة، وأن المستوطنات ليست غير شرعية.

وقد ردت الجامعة العربية على الأفعال الأمريكية ببيانات تتحدث عن الشرعية الدولية، ووجوب التمسك بها، ومحاولة كسب تأييد دول العالم الأخرى للموقف العربي. كما أن السلطة الفلسطينية شنت حملة دبلوماسية دولية هدفها الحيلولة دون كسب الخطوات الأمريكية الفعلية مشروعية، وكررت أنها أفعال بلطجة لن تمر.

وتكفي نظرة واحدة إلى تطورات الصراع الفلسطيني الداخلي في العامين الأخيرين لإثبات أنه في ظل الحديث عن «التسوية» وتزايد الإدراك لمخاطرها لم تتضيق شقة الخلاف الداخلي، بل إنها توسعت. ومؤخراً سُرِّبت أنباء عن تخلي الحكومة المصرية عن رعايتها لمساعي المصالحة الفلسطينية. وإذا صحَّت هذه الأنباء، فإن ذلك قد يعبر عن إدراك مصري متأخر بصعوبة تحقيق المصالحة، وأن الأولوية باتت للتهدئة مع الاحتلال، وليست للمصالحة ومواجهة الصفقة.

ومن المؤكد أن هذا الواقع ينذر بخطر شديد دفع قادة كل من فتح وحماس مؤخراً إلى محاولة تلطيف الأجواء عبر تكرار الحديث عن الرغبة في المصالحة واستعادة الوحدة. وأطلق (رئيس السلطة) محمود عباس وعدد من قادة الفصائل الأخرى تصريحات تصب في خانة وجوب استعادة الوحدة. غير أن هذه التصريحات لم تترافق بخطوات فعلية تسهل تغيير وجهة العمل الفلسطيني من التشرذم والتفرقة إلى التوحد. وتقريباً لم يتراجع أي من طرفي الصراع الداخلي الفلسطيني عن مواقفه الفعلية السابقة، سواء لجهة تقييد عمل الخصم أو مواصلة اتهامه بخدمة الصفقة .

ورغم وجود فصائل وتيارات وطنية فلسطينية ظلت طوال الوقت تحذر من استمرار سياسة الانقسام والإقصاء، وتطالب بإصلاح منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، إلا أن هذه التحذيرات بقيت غير مسموعة. وازداد الإحساس بالخيبة والإحباط في صفوف الفلسطينيين رغم استمرار مسيرات العودة.

وأمام الواقع الفلسطيني البائس هذا، والطريق شبه المسدود الذي وصلت الحالة الوطنية إليه، حتى رغم استمرار مسيرات العودة تداعت شخصيات وطنية لوضع خطة عمل، ومحاولة تجنيد الفصائل والشارع الفلسطيني لتحقيقها. وهذا ما بدا واضحاً في مذكرة «الكارثة قادمة إذا لم نفعل ما يجب لمنعها وإحباط أهدافها»، الموجهة لـالرئيس عباس وأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وقادة العمل الوطني، ولكل هيئات وأطر الشعب الفلسطيني.

وتشير المذكرة إلى أن الإجماع الوطني على رفض الصفقة يغدو «رفضاً لفظياً وشكلياً» إذا لم يرتبط بإجراءات وخطوات جادة. وتقترح المذكرة وجوب عقد لقاء وطني فلسطيني واسع تحت راية منظمة التحرير في مقر الجامعة العربية، للاتفاق على توحيد مؤسسات العمل الوطني، سلطة ومنظمة، على أسس الشراكة الوطنية ووضع آليات وجداول زمنية.

وتدعو المذكرة بعد ذلك إلى إطلاق حركة مقاومة شعبية توحد الشعب الفلسطيني في مواجهة الانقسام، وتؤكد وحدته السياسية والجغرافية. وتطالب المذكرة بالشروع بخطوات فعلية للانفصال عن قيود اتفاقيات أوسلو، وتفعيل الموقف العربي الرسمي والشعبي على قاعدة قرارات القمم العربية ضد التطبيع مع الكيان.

ومن المؤكد أن استشعار الخطر ليس كافياً لإبعاده عن التأثير في مصير القضية الفلسطينية التي تتعرض فعلياً لأشد محاولات تصفيتها وقاحة. فالأمر يتطلب استعداداً جدياً لمواجهة قاسية وعنيدة تعتبر الوحدة أولى مقدماتها وأول مستلزماتها. وهذا يستدعي من الأطراف الفلسطينية القفز عن مواقع التخندق الحالية، والبحث عن القواسم المشتركة.

ولا يكفي في هذا المجال الحديث عن استعدادات الشعب الفلسطيني للمواجهة. فالمواجهة هذه المرة تتطلب، أكثر من أي وقت مضى، قيادة موحدة تؤمن ليس فقط بوجوب مواجهة مشروع التصفية، وإنما أيضاً بحق الشعب الفلسطيني في العيش حراً وكريماً على أرضه وفي دولته المستقلة. واستعادة الحق الفلسطيني العام بتقرير المصير يبدأ من الإقرار بحقوق أبنائه الفردية في العيش الكريم والآمن في وطنه. وهذه مهمة لن تتحقق بتكرار التصريحات حول الوطنية والديمقراطية والنضال والمقاومة، وإنما بتغيير الوعي نحو الشراكة السياسية وحقوق المواطنة باعتبارها أولويات للتأسيس عليها.

2019-05-26

بقلم: حلمي موسى

مقالات ذات صلة