المقالات

جولة إيهام أخرى !

جولة إيهام أخرى !

د. عادل محمد عايش الأسطل

موسم الصيد لدينا، كانت تمثله الطيور المهاجرة على اختلافها من أواسط أوروبا وأطرافها، إلى منطقتنا، هرباً من المناخ البارد حيث المناخ الصيفي المعتدل للساحل الشرقي من الأبيض المتوسط، وكان من ضمنها عصفورة صغيرة يطلق عليها – بالعاميّة الدارجة – اسم (أمّ الدبّان) أي أمّ الذباب، وكان الصيادون لا يلتفتون إليها، ليس بسبب صغرها، أو قلة ثمنها، ولكن لصعوبة صيدها، وإن نُصبت أمامها الموائد بما لذّ طعامها، وحسُن مذاق شرابها، وكأنها تعلم بأن قد نُصبت لها الفخاخ من حولها، وترتبت لها الشباك من كل جانب، حيث بلغت في مراوغتها أن تبدو للصائد أنها واقعة في الشرك لا محالة، وهي في الحقيقة أبعد مما تكون. وكان فقط من يجهلها أو من يطمع في صيدها، ليُثبت قدرته أمام الناس، كان فقط يضيع وقته ونهاره من غير صيدٍ ولا فائدة، ومن ثمّ ترجع أعدادها إلى بلادها كاملة غير منقوصة.

هكذا ببساطة هو رئيس الوزراء “بنيامين نتانياهو” الذي هو في الحقيقة معلومٌ لدى المشرق والمغرب منذ البداية، بأنه يميني أصولي متشدد، أكثر من المتشددين أنفسهم، ولكنه الآن بات يتبوأ منزلةً أعلى في الصلف والخداع والمراوغة، فاق بها أساتذته بشأنها، حتى خيّل نفسه أمام الكل بأنه رجل سلام، ويتوق إلى معاني السلام، وأنه على استعداد أن يطوف العالم بحثاً عنه، وحتى الهبوط إلى مقر المقاطعة في رام الله لمناجاة الفلسطينيين بعمومهم عن قرب، وعلى استعداده أن يقدم تنازلات مؤلمة في سبيل إنهاء كل أنواع العنف والموجبة لعدم الهدوء والاستقرار.

بلغ من المحاول في صيده وزير الخارجية الأمريكي “جون كيري” أن أعلن أثناء جولته الأخيرة ومحادثته معه، بأن “نتانياهو” قدّم تنازلات شجاعة، أثناء لقاءاته التي تمّت فيما بينهما، بلغت في أهميتها، أن أثارت الأمل لديه، في أن تمضي الولايات المتحدة لوضع سقفٍ زمني للمفاوضات، والوصول إلى اتفاق خلال الفترة القليلة القادمة. وأكّد من خلال تصديقه له، بأن هناك أمل كبير في الاقتراب جداً من حل اللغز، نتيجة أنّه يبدي تجاوباً جدّباً لمقترحاته المنوي تقديمها ضمن اتفاق الإطار.

أقوال “كيري” جعلت “نتانياهو” يتراءى أمام أعضاء حكومته وخاصة المتشددين منهم، أمثال وزير الاقتصاد وزعيم حزب البيت اليهودي “نفتالي بينت” ووزير الخارجية وزعيم حزب إسرائيل بيتنا “أفيغدور ليبرمان” بأنه يلين ويضعف أمام ضغوطات “كيري” ومُرغبات أوروبا الآتية في الطريق، إذا ما كانت هناك عملية سلام حقيقية، وبلغ بأكثرهم بالتململ من مقاعدهم والتهديد بالقفز من حكومته، فيما لو استمر في لينه وضعفه الذي بدا لهم.

كان “بينت” قد هاجم أيّة إمكانية للتوصل إلى اتفاق، رافضاً إقامة دولة فلسطينية من الأصل، أو حتى تقديم أيّة تنازلات تتعلق بالأراضي، بسبب أن قيام دولة فلسطينية، تعني صواريخ على الطريق رقم 6، وهو الطريق الممتد بين قرى المثلث العربية ومدن إسرائيلية كبرى –نتانيا- مثلاً، وتعني من وجهة نظره أيضاً، متفجرات في مراكز المدن الإسرائيلية وتهديد المقدرات والذخر الأمني الإسرائيلي. وأكّد من خلال ثقة وتمكّن ومن دون خشية، بأن أقواله تعني وضع إنذار نهائي أمام “نتانياهو” بأن كل تقدّم باتجاه تسوية سياسية ستؤدي إلى خروج حزبه من الائتلاف الحكومي.

بدوره أكّد “ليبرمان” على أنه سيترك تحالفه مع الليكود، ولن يقوم بتقديم أيّة التزامات مهمل صغُرت، في حال لم يشمل الاتفاق المنتظر، التخلّص من فلسطينيي 48، وذلك من خلال عملية تبادل سكاني. إلى جانب عملية تبادل الأراضي، مُعللاً بأن هناك سوابق تاريخية كثيرة في العالم قامت بها دول تبادلت فيما بينما أراضٍ وسكان في إطار إنجاز اتفاقات سلميّة. ومن جهةٍ ثانية أكّد بعدم قبوله بعودة أي لاجئ ولا حتى لشخص فلسطيني واحد إلى إسرائيل، مستنداً إلى قول الرئيس الفلسطيني “محمود عباس” من أن اللاجئين الفلسطينيين يشعرون بالراحة في الأماكن التي يتواجدون فيها، وأن حق العودة أسقطه عن نفسه ومن ثمّ فلا يجوز أن يتمسك به لغيره.

“نتانياهو” وعلى الرغم من علمه بأن أحزاباً أخرى وعلى رأسها كتلة حزب العمل الإسرائيلي هي على استعداد لمليء الفراغ الذي من المحتمل أن ينشأ عن التهديدات الواردة من قِبل الأحزاب، وللمساندة أيضاً في دعمه فيما لو كان في نيّته المضي قدماً نحو السلام، وأكّدت على أنها ستوفر له شبكة الأمان المطلوبة على مدار المفاوضات. برغم ذلك، عاد “نتانياهو” وبسرعة البرق إلى الظهور على حقيقته أمام مُحبّيه ومُريديه وأعضاء حكومته، ليردّ كل منهم إلى مقعده بكل طمأنينة وأمن، وشرع بتذكيرهم بأن ما حصل كان بمثابة جولة إيهام أخرى، وسارع بالإثبات أمامهم من خلال عودته إلى ممارسة مهامه الاستيطانية واتخاذه القرارات السياسية المناسبة في كل ما من شأنه أن يهدئ من روع المتشددين ويكسر جبر الآملين.

فمنذ أن توارى “كيري” عن ناظريه، بدى لديه الحال وكأن شيئاً لم يكن، واعتبر ما حدث من نقاشات وجدالات كأنه مجرد حلم أو كابوس وتم الصحو منه، فقام إلى قرار استئناف البناء الاستيطاني، بعدما أوقفه في وجود المسكين “كيري” وخاصةً في المناطق الحساسة والتي تقع خارج الكتل الاستيطانية مثل الخليل وبيت إيل، وأعلن معارضته إخلاء البؤر الاستيطانية أينما تواجدت في مناطق الضفة الغربية، وأنه لن يوافق على التنازل عنها. ولم يتوقف ذلك عند هذا الحد، بل اعتبر أن مناطق الضفة الغربية هي نفسها مناطق الوطن.

ومن جهةٍ ثانية أبلغ وزراء حزبه في الليكود بأن القدس المحتلة لن يشملها أي اتفاق، وأعلن أمامهم بعدم موافقته على مجرد ذكر لعاصمة فلسطينية في القدس في أي اتفاق مقترح بما فيه الاتفاق الإطاري والمزمع عرضه في المستقبل فيما لو تجددت الفرصة أو تهيأت الظروف السياسية لعرضه، على الرغم من علمه بأن ذلك الإطار لن يحتوِ على صيغ واضحة وخاصةً فيما يتعلق بمدينة القدس، بسبب أنها من أصعب القضايا التي تعامل معها “كيري” خلال محادثاته مع الإسرائيليين والفلسطينيين. وهي التي تمثّل الفجوة الأوسع التي تفصل بين الجانبين، باعتبارها القضية الأكثر قابلية للانفجار بصورة خاصة نظراً لحساسيتها الدينية والسياسية.

على أيّة حال ستواصل الولايات المتحدة ضغوطها على المتفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين وسيواصل “كيري” جهوده وجولاته بين الطرفين في محاولة للتغلب على الخلافات المعرقلة بشأن الأفكار المتبادلة وما ورد في اتفاق الإطار بهدف تضييق الفجوات بينهما، وذلك بالنظر إلى تخوّفات الجانبين من خلال إدخال تعديلات وتحسينات مهمّة عليه، والتي لم يتمكن الأميركيون من تقريرها إلى الآن. وإن كان من المتفق عليه أمريكياً بأن يكون اتفاق الإطار المُحسّن – مبهماً- كي يتمكنون من تمريره لدى الطرفين، باعتباره إنجازاً للولايات المتحدة ولـ “كيري” على الأقل، ولكن حتى في حالة لجوء “أبومازن” و”نتانياهو” إلى التوقيع على ذلك الاتفاق المُحسّن، فإنه لن يتم التوقيع إلاّ في حالة السماح لهما بتدوين تحفظاتهما عليه، والتي من الممكن إن شاء الله أن تبلع العشرات. والتي معناها العودة إلى المربع الأول.

خانيونس/فلسطين

10/1/2014

مقالات ذات صلة