المقالات

سلطتان تُصالِحُهما أزمتان

سلطتان تُصالِحُهما أزمتان

بقلم : د.راضي الشعيبي

إن المسئولية هي أمانة الحفاظ على المبادئ والقيم ومكارم الأخلاق وحارسها هو الضمير الحي المشبع بهذه المبادئ وأنبل القيم والمتمسك الحاضن للثوابت الوطنية والقومية العربية الفلسطينية والمتشبث بها.

إن القلم الفلسطيني المقاوم الحر والمستقل والبندقية الفلسطينية المتأججة بلهيب المقاومة هما توأمان شقيقان نشآ وتربيا وعاشا حتى اليوم في رحم المقاومة ويكمل أحدهما الآخر. فالقلم المقاوم يترجم وينقل إلى الجماهير بأمانة حقيقة ومفهوم الفكر المقاوم وماهيته، ويبين ويوضح زيف الحقائق وينزع الأقنعة القذرة عن وجوه كل الفاسدين والمفسدين، شرذمة الأمة وحثالتها، وكذلك يعري كل العملاء والأجراء والانهزاميين المستسلمين الذين تبنوا سياسة المكر والخداع وغدو في الحقيقة داء الأمة. سخّروا أنفسهم فقط لخدمة الحركة الصهيونية العالمية اليهودية العنصرية في تنفيذ مشروعها الأسطوري الحالم ببناء الإمبراطورية اليهودية في الوطن العربي، وتحولوا إلى وكلاء وتبعاء للأنظمة العربية الرجعية الديكتاتورية الانهزامية ولأحزاب دنوية كونية ظلامية رجعية تابعة، مقابل مصالح مادية وجاهية حقيرة ورخيصة. لقد سقطوا وطنياً وقومياً وخلقياً وشرعياً وروحياً.

أما البندقية الفلسطينية التي أطلقت الرصاصة الأولى قبل النكسة إيذاناً ببدء الكفاح المسلح لتخرير الوطن أرضاً وبحراً وجواً من رجس الاحتلال. فلن تصمت بعد اليوم هذه البندقية ولن تكمن حتى تحيقيق العودة إلى أرض الوطن المحرر وستبقى بوصلتها موجهة إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، إلى يافا وحيفا واللد والرملة، وللدفاع عن القضايا الوطنية والقومية والروحية العربية، ولن يستطيع أحد، كان من كان، إسكاتها أو سد فوهتها.

نحن في الشتات وانطلاقاً من القناعة التامة بأن الشرفاء والأحرار لا يمكن أن يقفوا على الحياد في القضايا الوطنية والقومية المصيرية.

لذا وقفنا ونقف وسنقف بدافع الإيمان وصلابة الانتماء القومي والإباء العروبي مع البندقية المقاومة والقلم المقاوم، ولن نهادن ولن نصالح أو نسامح من يدلل ويساوم في مراكز البورصة السياسية الدولية على فلسطين العروبة المحتلة ومقدساتها الطاهرة والتي يدنسها اليوم المحتل العنصري.

لن نعود لمصافحة الأيادي الملوثة العميلة والخائنة التي قامت وعملت مع سبق الإصرار على إسقاط المقاومة ومجابهتها والتي جندت وثقفت فريقاً من ضعاف النفوس للقيام بمفاوضات ماراتونية انهزامية واستسلامية وتنازلية، التي مكنت قادة الكيان الصهيوني من تجذير الاحتلال وتعميقه وإقامة المستوطنات التي كان عددها عند توقيع اتفاقية كامب ديفيد لا يتجاوز العشرين مستوطنة، بينما اليوم يفوق عددها 120 مستوطنة، مما مكن العدو المحتل من تحقيق مشروع القدس الكبرى اليهيودية.

لن نصافح الأيادي التي عملت على إسقاط وانهيار المحرمات الوطنية والقومية الفلسطينية العربية وهدر الدم الفلسطيني بأيدٍ فلسطينية انقلابية، والتي وبها سددت ضربة كارثية ومأساوية باغتيالها الوحدة الوطنية الفلسطينية وشق وتفتيت وتمزيق الصف الفلسطيني من أجل مصالح سلطوية وفئوية دينية وفصائلية وذاتية، والتي دلَّت على خبث نواياهم، حيث أنها أوهمتنا في بادئ الأمر بأنها انتفاضة ضد الفساد الذي استشرى والمفسدين ولدعم المقاومة واستمراريتها.

في رأينا المتواضع وحِسّنا النقدي النابع من البديهيات الفطرية ومفاهيم وأصول العلاقات الإنسانية والتجارب الحياتية والمعيشية والمناكفات السياسية والصراعات الإقليمية والدولية بجميع ألوانها وأشكالها ومضامينها على مدى الحقبة التاريخية لا يمكن أن تتم مصالحة ما، وخاصة تلك التي تتعلق بقضايا وطنية وقومية مصيرية، إلا بعد المصارحة التامة. وما يهمنا نحن الفلسطينيين أن تكون مبنية على صدق النوايا الخالصة والشفافية الكاملة، ووضع كل المشاكل المسببة على طاولة التشريح لحل عقدها، منطلقين من إعلاء المصلحة الوطنية فوق المصالح الفئوية والفصائلية والذاتية، والعامل الأساسي لتحقيق هذه الوحدة الوطنية المنشودة هو مشاركة كل القوى الوطنية والقومية التقدمية والروحية والسياسية في الوطن المحتل ودول اللجوء المضيفة، ومعهم جنباً إلى جنب القوى الجماهيرية المليونية في الشتات التي مدَّت الجغرافية الفلسطينية إلى ما بعد المحيطات وأسمعت صوت حقها في العودة، وشرعية مقاومة الاحتلال إلى كل المجتمعات، وانتزعت احترامها وتقديرها من كل الفئات والطبقات لعصاميتها وشرف سلوكها وعزة وكرامة أنفسها وإبراز هويتها والمفاخرة بها والتمسك بتراثها وتربية أبنائها على الانتماء.

اليوم تهافتت وهرولت السلطتان لإتمام المصالحة بسبب أزماتهما ومعهما بعض من تجار المصالح والمنافع الذين خدموا ملكية ديكتاتورية عميلة ساهمت مع العدو في النكبة والنكسة وما زالوا، وأفراد من الانتهازيين المحترفين الذين يفتقرون كلية إلى قاعدة شعبية ولكنهم برعوا في السباحة بين الأمواج المتلاطمة وانتقاء الشعارات البراقة فارغة المضمون والمشاركة في بعض التظاهرات والمظاهرات أو المؤتمرات إذا كان هناك حضور لعدسات التلفزة أو الصحافة.

لقد اضطرت السلطتان للجلوس معاً من جديد تحت شعار المصالحة بسبب الأزمة الخانقة التي يعانيها كل منهما. فسلطة رام الله انحصرت وبدأت تختنق في عنق الزجاجة، لذا قامت بالهبوط الاضطراري في قطاع غزة لأنها أصبحت هائمة في نفق مظلم سُدَّت كل أبوابه بسبب إصرار جامع السلطات على تنفيذ برنامجه الاستسلامي الانهزامي المأساوي الهادف إلى تصفية القضية بغطاء من جامعة المشيخات المستعربة الساقطة، وفشل مع تلاميذه الفقراء بالوطنية الذين أرسلهم في بعثة إلى مدرسة التثقيف التفاوضي في القاهرة وللاستفادة من خبرة التفاوض المصري مع دولة الكيان الصهيوني، وتم إقامة المعهد التثقيفي في الدور الأعلى لفندق “شيراتون الجزيرة” ليتم تدريس الطلبة على التفاوض مع الإسرائيليين. وكانت المجموعة الطلابية تتألف من صائب عريقات، كبير الانهزاميين والمستسلمين اليوم والدكتورة حنان عشراوي (حدث ولا حرج)، ود. حيدر عبد الشافي و فيصل الحسيني. أما الأساتذة فهم مصطفى خليل والمستشار أسامة الباز وعمرو موسى ونبيل العربي. وحضر أبو مازن عراب الاتصالات مع الإسرائيليين الطغاة منذ عام 1970 معظم الدروس، أزمته العسيرة القاتلة مع قادة العدو الصهيوني وفشل مفاوضاته التي حاز العدو وحقق فيها كل مطالبه، بينما لم يعطى أبو مازن أي شيء نصت عليه اتفاقيات أوسلو الكارثية وكامب ديفيد وطابا وشرم الشيخ. نسي المفاوضون الاستسلاميون أن مصر حققت نصراً كبيراً بتحرير أرضها المحتلة كاملة.

أزمته الداخلية العويصة مع شريكه وصديقه الحميم السابق محمد دحلان، مروج الفساد والإفساد، الذي يحظى ببعض الدعم من منتسبي فتح والذي كان يوجه رسائل التهديد والوعيد لحركة حماس حين كان يشغل مركزاً قياداً متقدماً في حركة التحرير الوطني الفلسطيني بوصفه لها أنها عصابة من القتلة.

أزمته مع باقي فصائل المقاومة الفعلية بسبب تحجيم وشل المؤسسات الوطنية الفلسطينية وعلى رأسها منظمة التحرير والرافضة للمفاوضات العلنية منها والسرية الخفية.

أما حركة المقاومة الإسلامية حماس فأصبحت في “خانة اليك”، لأنها أسقطت قناع المقاومة وظهر وجهها الأوردوغاني القرضاوي المرسي، وانحازت إلى القوى الرجعية العربية العميلة والمتضامنة والمتعاونة مع دولة الكيان الصهيوني، وخاصة خيانتها لدمشق الصمود والممانعة وقيادتها التي رفضت كل الإغراءات من أجل الحفاظ عليها وحمايتها. أزمتها أم الأزمات وانخراطها ووقوفها مع حركة الإخوان المسلمين في مجابهتها لمصر أم العروبة وثورتها ومشاركة بعض من مسلحيها بإراقة الدم العربي المصري وتدريب وتسليح الظلاميين التكفيريين حسب التصريحات المصرية، مما أدى إلى انحصارها في القطاع ومعاناة أهلنا من الحصار الإسرائيلي الذي هادنته. ومن إغلاق الحدود مع دولة الجوار العربي وتدمير الأنفاق الحياتية. سؤال المليون: أين يقيم الحالم بالخلافة خالد مشعل؟ وتحت أي ظروف يعيش؟ هل يملك حرية الحركة؟ نحن نقول على نفسها جنت براقش. أما سؤال المئة مليون: إلى أين آلت اتفاقية المحاصصة بمكة المكرمة والتي تمت في رحاب الكعبة المشرفة والقَسَم الأعظم الذي أقسموه تحت غطاء إعلامي هائل ورقصات الدبكة والتطبيل والتزمير والتي بشرت بانفراج الأزمة.

إلى أين آلت اتفاقية القاهرة التي نسقتها أجهزة المخابرات وانتهت بالعناق الحار بين المتخاصمين وتصفيق المطبلين والمزمرين من المنافقين؟

إلى أين آلت اتفاقية دوحة المشيخات والعربان والمال السياسي الفاسد، وكر التآمر على المقاومة والصمود التي تديره أجهزة الاستخبارات الصهيوأمريكية؟

إلى أين ستئول اتفاقية غزة التي عُقدت تحت مظلة أزمة القطبين، بل الذيلين وشهود الزور الذين احتل العدو عقلهم وفكرهم وأصبحوا يقدمون الولاء لمن يمنحهم المناصب أو يتصدق عليهم؟

إن هناك الآلاف من المناضلين الأسرى قابعين في زنازين العدو الفاشي المحتل، ولكن هناك مئات الآلاف من شعبنا يعيشون في أقفاص السلطتين يقدمون لهما الولاء لأنهما تتصدقان عليهم وتتحكمان في مصادر رزقهم ومعيشتهم وحاضر أبنائهم.

لا يطيق لهم أن يمسهم النقد ولا يريق لهم الصوت الجريء والقلم الحر وسماع كلمة الحق. يريدون أن يكون كل منا سجّان وآسر لأفكاره وآرائه ورؤياه.

كلمة إن قلتها تموت وإن لم تقلها أيضاً ستموت، فالأفضل أن تقلها قبل أن تموت.

مقالات ذات صلة