اخبار الوطن العربي

هل تُقدّم دول المنطقة لبنان إلى سورية مقابل ابتعادها عن إيران؟

هل من طريقة تُمكِّن الدول الخليجية الكبرى مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، فضلًا عن دول عربية أخرى، من استعادة قدرٍ من تأثيرها في لبنان؟ ربما يبدو السؤال غريبًا في وقتٍ يبدو وكأن السعوديين تخلّوا عن لبنان، مُعتبرين أن إيران وذراعها المحلي حزب الله يُحكمان قبضتهما عليه.

إذا كان السعوديون والإماراتيون يسعون إلى الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، فالتخلّي عن لبنان ليس الاستراتيجية المناسبة. ولا يعني ذلك أيضًا استغلال التغييرات الإقليمية لمحاولة احتواء التمدد الإيراني. في غضون ذلك، تتعرّض آليات سيطرة حزب الله للتأكّل شيئًا فشيئًا في لبنان. فقد نفّذ الحزب أجندته الداخلية عن طريق الدولة اللبنانية ومن خلال طبقة سياسية تعتبر أن أي مواجهة مع الحزب هي بمثابة دعوة إلى النزاع الأهلي، ما يُشكّل تهديدًا لوجودها. ولكن الدولة تتشظّى في الوقت الحالي، ويبدو أن الانقسامات على مستوى القيادة السياسية للبلاد عصيّة على الرأب، وقد بدأ حزب اللهاستعداداته لحماية أنصاره من الكارثة الاقتصادية الوشيكة، ما يشكّل خير دليل على تشكيكه في إمكانية إعادة بناء واجهة الدولة لمصلحته.

إذا انهار لبنان أكثر، وهو ما سيحدث حكمًا، سوف تظهر مساحاتٌ فقدَ حزب الله السيطرة عليها. فحيثما تدخّلت إيران في العالم العربي، أي في سورية واليمن والعراق ولبنان، انتشرت الفوضى والتفكك. وما يُسمّى بـ”محور المقاومة” ليس سوى محور للفشل والإفلاس. ربما يميل السعوديون والإماراتيون إلى ترك الهيكل بأكمله يتداعى وينهار. ولكن ذلك لا يحمل أي ضمانة بأنهم سيتمكّنون من رسم مسار الأحداث لاحقًا، هذا فضلًا عن أنهم تعاملوا بطريقة مختلفة مع سورية التي تتقدّم لبنان بأشواط في سقوطها المدوّي.

لعل السبب هو أن الدولتَين تدركان أن إيران وحلفاءها أفضل جهوزيةً من أعدائهما للصمود في خضم الفوضى. ومما لا شك فيه أن المقاربة الإماراتية في اليمن تقوم على ملء الفراغات الناشئة بمنظومات بديلة لحماية نفسها على نحوٍ أفضل، سواء من خلال تقديم التسهيلات اللازمة لإنشاء كيان يتمتع بحكم ذاتي في الجنوب، أو من خلال بناء قواعد عسكرية على مقربة من المناطق الساحلية الغربية أو إرسال قوات موالية للإمارات للتمركز في هذه المناطق من أجل حماية الوصول إلى مضيق باب المندب. وتسير السعودية على الخطى نفسها. فبعدما تبيّن لها أنها عاجزة عن دحر الحوثيين، تركّز حاليًا على حماية حدودها الجنوبية.

في الأشهر الأخيرة، سُجّل تحوّلٌ لافت في مواقف السعودية والإمارات من سورية. فقد أعاد الإماراتيون فتح سفارة في دمشق في العام 2018، وظهرت في الآونة الأخيرة مؤشّرات عدّة عن رغبة عربية بعودة سورية إلى جامعة الدول العربية. أما السعوديون فقد اعتمدوا مقاربة أكثر حذرًا مقارنةً مع الإمارات والعراق ومصر، ولكن المملكة ستقبل في نهاية المطاف بقرار توافقي يقضي باستئناف الاتصالات مع نظام الرئيس بشار الأسد. لكن ذلك يُثير سؤالًا مهمًا: ما الثمن الذي ستحاول الدول العربية وسورية انتزاعه مقابل استئناف هذه الاتصالات؟

غالب الظن أن دول الخليج، انطلاقًا من شعورها بأن سورية تعاني هشاشة استثنائية، إذ قُدِّرت تكاليف إعادة الإعمار في العام 2019 بـ200 إلى 400 مليار دولار، سوف تطالب دمشق بالحد من علاقاتها مع إيران. لن يرغب الأسد في القيام بذلك، ولكن خياراته محدودة. فقلّةٌ من البلدان تبدي استعدادها لتقديم المال إلى سورية فيما لا يزال الأسد في السلطة، لذا لا يمكنه أن يكون انتقائيًا إذا أراد إطلاق عملية إعادة الإعمار. ولن يكون الحدّ من العلاقات السورية مع طهران سهلًا، فالنفوذ الإيراني في البلاد واسع جدًا ويمتدّ إلى عمق المؤسسات الأمنية والاستخبارية التابعة للنظام.

ولكن أمام الأسد خيارات إذا قرّر إعادة دوزنة علاقاته مع إيران. فهو يستطيع التعويل على الدعم من روسيا التي بسطت أيضًا نفوذها على القطاعَين العسكري والأمني في سورية. وتبدو موسكو أكثر حرصًا من إيران على إرساء الاستقرار في سورية في إطار توافق عربي، وقد أدّت دورًا أساسيًا محاولةً تغيير المواقف العربية من دمشق. يُضاف إلى ذلك أن الأسد يخوض انتخابات رئاسية هذا العام. صحيحٌ أن ما من قيمة ديمقراطية على الإطلاق لهذه للانتخابات، ولكن فوزه المدبَّر سيمنح النظام السوري زخمًا جديدًا، وشرعية زائفة سيحاول البناء عليها. يقودنا ذلك إلى سؤالٍ آخر: ماذا سيطلب الأسد من الدول العربية مقابل تلبيته جزءًا على الأقل من شروطها بشأن إيران؟

قد يأتي الجواب على هذا السؤال مقلقًا للبنانيين. فالأسد قد يطلب تجدّد نفوذ بلاده في لبنان. وستكون هيكليات هذا النفوذ مختلفة عما كانت عليه قبل العام 2005 حين كان الجيش السوري منتشرًا في البلاد. من الصعب تخيُّل عودة القوات المسلحة السورية، حتى لو كان المواطنون السوريون الموجودون راهنًا في لبنان، وعددهم يفوق المليون نسمة، خطوةً في هذا الاتجاه ربما. إذا حصل الأسد على ضمانة بأن يسمّي عددًا من النوّاب، وإذا أرغمت الدول العربية المختلفة حلفاءها في لبنان على ضم سياسيين موالين لسورية إلى لوائحهم الانتخابية، فهذه قد تكون الخطوة الثانية في الاتجاه نفسه. وفي الوقت عينه، إذا كان لسورية، بدعمٍ من الدول العربية، رأيٌ أيضًا في هوية الأشخاص الذين سيتولون مناصب رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء ورئاسة مجلس النواب، فقد يزيد ذلك من شهيّة الأسد.

قد يسعى السوريون إلى ترسيخ ذلك من خلال تعزيز تعاونهم مع الجيش وأجهزة الاستخبارات اللبنانية. لن نرى ربما جنودًا سوريين في الشوارع اللبنانية، إنما ما الذي يمنع ضباط الاستخبارات السوريين من التواجد في البلاد إلى جانب نظرائهم اللبنانيين؟ وفي هذا الإطار، يمكن أن تُضفي معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق اللبنانية-السورية الصادرة في أيار/مايو 1991، شأنها في ذلك شأن اتفاقية الدفاع والأمن الموقَّعة بين البلدَين في أيلول/سبتمبر 1991، شرعيةً على هذه الترتيبات مع ما ينتج عن ذلك من تداعيات بعيدة المدى.

ما المكاسب التي يمكن أن تحققها الدول العربية من هذه الخطة؟ أولًا، قد ترى في تعزيز سورية سيطرتها على لبنان وسيلةً للحد من الوجود الإيراني في هذين البلدين على السواء. ربما تفترض الدول العربية أنه إذا ساهم ذلك في تحرير المساعدات المالية العربية لبيروت، فقد يقطع الطريق على أي معارضة لبنانية لهذه الخطة. ثانيًا، قد تعتبر الدول العربية أن استعادة سورية نفوذها في لبنان وسيلة لإرساء الاستقرار في بلدٍ يعاني بصورة مزمنة من الخلل الوظيفي، أسوةً بالدور الذي أدّته دمشق بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان في العام 1990. ثالثًا، ومن خلال تعزيز حسن النوايا السورية على الساحة العربية عن طريق تفعيل دور دمشق، من شأن الوضع الجديد أن يسهّل التوصل إلى تسوية نهائية مع إسرائيل، ما يحول دون عودة إيران، ويُخفّف من الضغوط في دول المشرق العربي ويفتح الباب أمام اتفاقيات عربية-إسرائيلية أوسع نطاقًا.

لن يُشكّل التخلّي المستهجَن عن لبنان عائقًا بأي طريقة من الطرق. فقد تحوّلت البلاد إلى مصدر صداعٍ للعالم العربي بحيث إن وضعها تحت سيطرة دولة إقليمية لا يطرح أي مشكلة، شرط أن تكون هذه الدولة عربية. وهذا يُفسّر لماذا يتمسّك حزب الله بشدّة بموقفه الرافض لممارسة ضغوط على جبران باسيل في عملية تشكيل الحكومة. فالحزب يعلم أن المرشحَين الأبرز لانتخابات رئاسة الجمهورية العام المقبل هما باسيل المنضوي في صفّ الحزب وسليمان فرنجية الحليف المقرّب للأسد. ربما يشعر حزب الله بأن إضعاف باسيل سوف يساهم في تعزيز موقع فرنجية والنفوذ السوري في لبنان، بما يُضرّ في نهاية المطاف مصالح الحزب. فالحزب وسورية حليفان على الساحة الإقليمية، ولكنهما يخوضان منافسة بينهما في لبنان، وليست لدى الحزب نيّةٌ في التخلي عن المكاسب التي حققها بعد الانسحاب السوري في العام 2005.

ما يُقلق حزب الله وإيران هو أن الدول العربية وروسيا تبدو على الموجة نفسها في سورية ولبنان. فهي ترغب في إعادة تكوين مظهرٍ من مظاهر المنظومة العربية، لأن ذلك قد يُعيد شيئًا من الاستقرار إلى سورية وإلى منطقةٍ تعاني الهشاشة والعنف منذ عقدٍ من الزمن. ربما يتّفق العرب والروس على أن المحرّك الأساسي لهذا الوضع يتمثّل في الرؤية الإيرانية التي أعادت النظر في الثوابت الإقليمية واستغلّت الانقسامات المذهبية والاجتماعية في المجتمعات العربية وأجّجتها من أجل تنفيذ أطماعها التوسّعية. وتسببّت طهران، من خلال قيامها بذلك، بتسريع انهيار المنطقة.

يسلّط ما تقدّم الضوء على خطوط صدع ناشئة بين حلفاء سورية وحلفاء إيران في لبنان. في هذا الصدد، وصف نائب سابق الهجوم اللاذع الذي شنّه إيلي الفرزلي، أحد أبرز حلفاء سورية، على باسيل بأنه مؤشّر على ما ستشهده المرحلة المقبلة. كذلك، يكشف المساران المختلفان اللذان يعتمدهما كلٌّ من حزب الله الموالي لإيران وحركة أمل الموالية لسورية حيال الرئيس ميشال عون وباسيل، عن تشنّجات مماثلة. تشعر طهران بعدم الأمان في ما يتعلق برهاناتها في المنطقة. فحزب الله وإيران يواجهان هجمات إسرائيلية متواصلة في سورية، من دون الحصول على أي دعم من روسيا المنشغلة بإعداد تفاهمات حول الملف السوري مع قوى إقليمية تقف على طرفَي نقيض من المسألة السورية، وهي السعودية والإمارات ومصر، إنما أيضًا قطر وتركيا. وقد تعثّرت عملية الأستانة التي جمعت إيران مع روسيا وتركيا في صيغة تفاوضية ثلاثية لمعالجة الملف السوري.

يُعزى السبب وراء عجز جميع الأطراف عن تشكيل حكومة في لبنان إلى مشكلة أعمق تتخطى العداء الشخصي بين باسيل وسعد الحريري، وتتمثّل في أن طبيعة الحكومة سيكون لها تأثير على التوازن الإقليمي. عون وباسيل هما الشريكان الوحيدان المتاحان لحزب الله في جهوده الهادفة إلى التصدّي للدعم العربي لعودة سورية إلى لبنان. لذلك، لن يقف الحزب إلى جانب الحريري في مواجهة الرئيس وصهره. قد يستمر هذا المأزق، ويبدو أن حزب الله يُعوّل الآن على الاتفاق النووي مع إيران من أجل ترسيخ دوره في الداخل. وهذا هو، للمفارقة، السبب وراء عدم رغبته في تفكك لبنان.

إذا كانت الدول العربية الكبرى تفكّر فعلًا بهذه الطريقة، فعليها إذًا أن تتحلى بالواقعية. من شبه المؤكّد أن نظام الأسد لن يألو جهدًا لانتزاع أي مكسب يمكنه تحقيقه في لبنان، من دون أن يُقدّم تنازلات كثيرة في علاقاته مع إيران. فالسوريون يفضّلون أن يتخذوا لأنفسهم موقعًا يتوسّط الدول العربية وروسيا وإيران لتأليب مختلف الأطراف بعضها على بعض بما يصب في مصلحتهم الخاصة. في الأشهر المقبلة، سوف ينضج الوضع أكثر في لبنان فيما يدخل عهد عون مرحلته الأخيرة، وتنجلي الصورة بشأن مسار المفاوضات حول الاتفاق النووي. وفي ضوء الانتخابات المرتقبة في كلٍّ من سورية وإيران ولبنان خلال السنتَين المقبلتين، تستعدّ المنطقة لمرحلةٍ قد تكون تحوّلية.

مايكل يونغ
مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

مقالات ذات صلة