المقالات

حكايات النهار الاخير في تل الزعتر

حكايات النهار الاخير في تل الزعتر

خالدات حسين

ذهبت كي اهيئه لآوان الرحيل من المخيم واروي له فصلا اخيرا من حكاية الماء المغسول بدم الامهات . حين رآني انشرحت اساريره … قاومت الاحساس بالاختناق وهربت الى وجهه. لم انتبه قبلا انه قد كان وسيما الى ذاك الحد … الوم شجاراتنا الطفوليه التي زادها الحصار(1) اشتعالا و تواترا… لولا تلك الشجارات لفهمت قبلا ان ابن الثالثة عشر عاما كان قد خطا خطوات حثيثه نحو ربيع الشباب … كم كانت عيناه جميلتان و ابتسامته ايضا.

كان يتلقى العلاج في سرداب ضيق احيل الى نقطة لإسعاف الجرحى. كانت نقاط الاسعاف في المخيم عبارة عن غرف منزليه مكتظه, ممرات عند مداخل الابنيه او سراديب ينتشر حولها التلوث البيئي, تهف منها ومن جوارها رائحة الجثث المتحلله, تكتظ بالجرحى الممدين غالبا على فرشات اسفنجيه متلاصقه تحتضن الانين والالم وسكرات الموت .

الاطباء في المخيم كان عددهم اقل من اصابع اليد وكذلك الممرضون . كان الاطباء يتنقلون دون كلل من نقطة الى اخرى كي يعالجوا الجراح البليغه بما توفر من مواد ومعدات طبيه بدائيه لم تتجاوز حدود الماء والملح، الشاش الابيض, بعض المقصات, المشارط, الملاقط والابر التي اتلفها تكرار تعقيمها بالماء المغلي وكان الممرضون يقومون مقام الاطباء عندما يتعذر وصولهم الى نقاط الاسعاف اما المتطوعون الكثر من الصبايا والشباب فقد تولوا رعاية الجرحى وامدادهم بالماء وما توفر من غذاء . بحثت عن مقدمات اقل ايلاما كي احدثه عن تفاصيل الاسبوع الاخير من الحصار فلم اجد سوى ابتسامة عريضه مفتعله . بادلني الابتسام ..سرح للحظات في افق لم يتعد حدود سرداب الاسعاف ثم نظر الي وقال ” حين نصل الى المنطقة الغربيه من بيروت (2) ساكل الكثير من التفاح … اشتاق كثيرا للفاكهة والخضار .. ارى الدنيا مزيجا من حبات البندوره والخيار” … تجاوزت نظراته المدى رغم سياج النار والبارود المحيط بالمخيم …التمعت عيناه السوداوان ببريق امل. طويت مرارة الفقدان واصبت بعدوى الامل … ضحكنا معا لاماني ساذجه تراءت لطفلين الفاصل الزمني بينهما عامين لا اكثر .. خلته يود ان يطير او ربما تمنيت ان تنبت له اجنحه كي يعبر الى الشق الاخر من بيروت قبل ان تصوب له رصاصة قاتله في الظهر … خفت من هواجسي … اختبات خلف اشواقه المتواضعه واحلامه المستحيله . لو طار حينها من شدة الامل وتجنب الهلع الشديد الذي يصيب الاطفال في اللحظات التي تسبق اعدامهم. ..لو استطاع ان يعطل الوعي قبل ان يشاهد اصطفاف الشهداء على شاكلة خط مستقيم امتد من المكان الذي غادرناه عند واحد من اطراف مخيم تل الزعتر مرورا الى ساحة الدكوانه (3)و صولا الى ؟؟؟؟؟. ..

هل امتلك من الوقت متسعا كي يتساءل مثلي لماذا اختار الجزارون ذاك الشكل الهندسي الممتد لمشهدية الاباده الجماعيه ؟ هل راى مثلي اناسا يعرفهم بين مئات الشهداء الضحايا؟ زملاء او زميلات له في المدرسه؟ صبية وبنات سبق وان ملانا واياهم حارتنا باللعب والشيطنه والصخب؟ ممرض بالثوب الابيض كانت قد احالته ظروف الحصار الى جراح ماهر يستاصل الشظايا باصابعه ويداوي الاصابات البليغه بنقاط الماء والملح؟ ثلاثه من اساتذتي احدهما كان لا يزال في حالة احتضاره الصامت؟ امراة كانت لنا جاره؟ بائع الثياب المتجول ذاك الرجل البسيط الوديع الذي قضى تحت الضربات المتكرره على راسه؟ هو بالتاكيد لم ير عمي بين الضحايا , ربما لان الجهاز العصبي للاطفال لديه قدره دفاعيه غريبه تمنع الصدمات الكبرى من اجتياح الوعي.. لكنه امتلك من العمر لحظة اخيره ليشير الى شيخ كان على الدوام ممسكا بمذياع صغير لانه اصيب بمرض الاستماع لنشرات الاخبار عند باب الملجأ الذي انهار فوق رؤوسنا قبل اسبوعين من موعد الرحيل؟ نجا الشيخ حينها.. نجونا نحن الاسره المكونه من سبعة افراد ومعنا احدى عشر شخصا اخرين بعد ان تم انتشالنا من تحت ركام الملجا … ابتلع الردم بقية الاشخاص البالغ تعدادهم حوالي خمسمئه, جلهم من الاطفال والنساء والشيوخ . لعلنا انتزعنا فرصة البقاء باعجوبة, كي يكون هناك من يروي حكاية اطفال قارب تعدادهم الثلاثمائه من مجموع سكان الملجا … كانوا يتحلقون حول امهاتهم في الوقت الذي يسبق موعد الغداء بقليل … بينهم من كان يتسلى بالعاب لا تحتاج للحركه والمساحات الفسيحه … بعضهم كان يستمع لاغنية يرددها فتى مراهق في واحدة من زوايا الملجا … اخرون كانوا يرقبون اللهب الخافت لبوابير الكاز … يتنشقون رائحة البخار المنبعث من اواني الطبخ وينتظرون بفارغ الصبر وجبات العدس المسلوق لانها كانت خيارهم الغذائي الوحيد في ظل الحصار الذي غيب الغذاء , الماء , الهواء , الضوء , العاب الاطفال واحلامهم .قبل لحظات من موعد الغداء الاخير … تزلزلت الارض … ترنحت الاعمده والاساسات من شدة القصف … تردد في المكان هدير مرعب… انهارت الطبقات الست للمبنى (الذي يربض تحته الملجا) فوق رؤوس الناس ضج المكان بصراخ جماعي حاد … استمر الصراخ للحظه تعادل رمشة العين .. اختلط في الصراخ انين الاطفال ,الامهات , الاباء , الاجداد والجدات… توقف الصراخ فجأه… ساد بعده صمت عميق , رهيب ,مفجع ينبي بان غالبية قاطني الملجا قد انهرسوا تحت اثقال الاسمنت والحديد والرمل . انضم الشيخ لاحقا الى واحدة من قوافل الموت الجماعي التي حصدت حوالي ثلاثة الاف شهيد وشهيده قضوا وهم يعبرون مخارج المخيم المختلفه القريبه من ستديو فوزي في الدكوانه, منطقة السلاف في الدكوانه, الكساره, القلعه اما من اتخذوا من طريق الجبل معبرا فقد اعتبروا في عداد المفقودين.

تخلى الشيخ عن مذياعه الصغير قبل ان يسمع الفاصل الاخير للانباء … ابرز ما جاء في الفاصل ” في 12 اب 1976 , استشهد مخيم تل الزعتر بعد صمود اسطوري دام اربعة و خمسين يوما… القتله حضروا باكرا الى مسرح الحدث … ملات قهقهاتهم المكان… مارسوا هواية القتل… رقصوا على نحو هستيري فوق جثث الشهداء الضحايا .. مبعوث الجامعه العربيه في ذلك الحين ربما اصابته صدمه جارحه ! … الصليب الاحمر الدولي ربما تاه في زحمة السير! حافلات قوات الامن العربيه نقلت الايتام والثكالا والارامل من منطقة المتحف (4) الى باحة دار المعلمين (5 ) في بئر حسن . . “اين امي ؟ ” سأل .. . اخذني السؤال الى انبوب ماء نجا من الدمار الكلي الذي طال شبكات المياه الخاصه بالمخيم ولذلك تحول الى مصدر وحيد لإمداد الناس بسر الحياة . كان الانبوب يتمركز في منطقة السلاف في الدكوانه … كانت الساحه التي يتواجد فيها الانبوب محاطه بمبان عاليه يعتليها قناصة ربما لم يولدوا من ارحام امهات كما ولدنا نحن … لو كانت الام هي الاصل في وجودهم لما تجراوا على توجيه رصاصهم المتفجر الى رؤوس عشرات الامهات اللواتي كن يحتمين بعتمة الليل… يعبرن الحدود الدقيقه الفاصله بين الحياة ونقيضها كي يحظين ببعض الماء لاطفالهن … اين امي ؟؟؟… تراجع الجواب المر الى ادنى مسافة في الحنجره … غسلت وجهي بدموع يمامة ضاقت بها الامكنه … حاولت عبثا ايجاد عش امن لصغارها … لم يبق في الاشجار مكان للطيور … صارت الاغصان وقودا لطهي الحصى… مضت اليمامه قبل ان تنقل ابناءها الى بر الامان…. مضت اليمامه وفي بقايا الروح قطرة ماء لم تصل . اين امي ؟؟؟؟ …كرر السؤال مرات ومرات … تذكرت انها كانت تحب الغناء .. انتشلت صوتها الحنون من غرغرات احتضاره .. استعرت من اغنياتها واحدة كانت ترددها وهي تغسل الثياب, تكنس الدار او تهز سرير واحد من اخوتي المولودين حديثا , هدهدت طفلا في ربيع العمر , احتضنته وقبلت جبينه. لو طار حينها من شدة الحزن واعفاني من رؤيته وهو يهرول متكئا على قدم واحده لم تطالها اصابة سابقه …. يحاول الهروب من قدره …يصيح يا الله لمرة واحده او مرتين لا اذكر… يستعجل افتراش الارض … يضع يديه تحت راسه كانه ينام … تدفعني حالة الانكار الى تجاهل الحدث … التفت خلفي لمرة واحده كي اقنع النفس ان احلام الاطفال لها قوة الواقع المحقق في نومة الهانئ المطمئن ,اواصل السير و لا اعي بعدها اين انتهى الخط المستقيم.

(1) خلال سنوات الحرب الاهليه اللبنانيه تحديدا في الفتره الواقعه بين العامين 1975-1976 تعرض مخيم تل الزعتر لللاجئين الفلسطينيين في لبنان الذي كان يقع في واحده من مناطق بيروت الشرقيه القريبه من منطقة الدكوانه , لعدة هجمات وحصارات كان اطولها الحصار الاخير خلال الاشهر حزيران , تموز و اب 1976 الذي استمر لمدة سته وخمسين يوما , تعرض خلالها المخيم لقصف عنيف غير مسبوق الى جانب منع الماء و الادويه و الاطعمه من الوصول الى ابناءه . انتهى الحصار باقتلاع ابناء المخيم منه في 12 اب 1976 .

(2) خلال سنوات الحرب الاهليه اللبنانيه ساد مصطلح المنطقه الغربيه و المنطقه الشرقيه على شطري بيروت كتعبير عن انقسام المناطق اللبنانيه بين القوى المتصارعه في ذلك الحين

(3) منطقة الدكوانه هي احدى المناطق المتاخمه للمخيم و احدى ممرات ابناءه الاجباريه للخروج من المنطقه الشرقيه الى المنطقه الغربيه , شهدت ساحاتها اعدام الاف الشبان و النساء و الاطفال و الشيوخ اثناء ارتكاب مجزرة تل الزعتر ..

(4) منطقة المتحف هي احدى البوابات الفاصله او الواصله بين شطري بيروت.

(5) دار المعلمين هي المكان الذي تجمع فيه الناجون من مجزرة تل الزعتر في اليوم الاول لخروجهم كي يتم توزيعهم لاحقا الى ماّو مؤقته. , تقع في المنطقه الغربيه من بيروت تحديدا في بئر حسن .

مقالات ذات صلة