المقالات

انتخابات عامة فلسطينية، كيف ولماذا؟

منير شفيق

ثمة رأي واسع الانتشار بين النخب الفلسطينية يطالب بإجراء انتخابات عامة لمجلس وطني تخرج منه قيادة جديدة. وهذه هي الخطوة الضرورية للخروج من الأزمة الفلسطينية. وذلك باعتبار الأزمة الراهنة أزمة قيادة، وليست أزمة صراع مع الاحتلال والاستيطان وتحديات تصفية القضية الفلسطينية. بل يعتبر أصحاب هذا الرأي، بأن تشكيل قيادة جديدة هو الذي يواجه أزمة ذلك الصراع. ومن ثم ليس عندهم مشروع لمواجهة الصراع مع العدو الصهيوني في المرحلة الراهنة غير المطالبة بإجراء انتخابات للمجلس الوطني.

من هنا وجب مناقشة هذا الموضوع من حيث أولويته وواقعيته وتداعياته. وليس مناقشة مع الانتخابات أو ضدها.

طبعاً هذه المطالبة بالانتخابات عمرها سنوات، وما زالت تدور حول نفسها. فهي منذ انطلاقتها فشلت ما دام القيام بها مطلوباً من القيادة الفلسطينية نفسها التي يريدون تغييرها، أو الإطاحة بها وبسياساتها. وهذه القيادة لن تجريها إلاّ في المكان المناسب لها، ووفق القانون الذي يسمح لها بالتحكم في نتائجها. وحتى انتخابات على مستوى الضفة الغربية وقطاع غزة توقفت عن التكرار بعد تجربة انتخابات عام 2006 التي جاءت فاجعة لحركة فتح وقيادتها، بعد انتصار حركة حماس. وقد امتنعت غالبية، إن لم نقل، كل الدول الاعتراف بتلك النتائج.

وعندما توفر وضع جديد بعد لقاء الأمناء العامين في بيروت ورام الله، اتجهت حركة فتح إلى بحث إجراء انتخابات في حوارها الثنائي مع حماس، بأن تكون الانتخابات للمجلس التشريعي والرئاسة أولاً (تجديداً للشرعية القائمة الآن، خصوصاً الرئاسة). ثم لكل حادث حديث عندما يأتي أوان إجراء انتخابات المجلس الوطني، إن أتى. وهنا كان الشرط أن تكون في المجلسين توافقية، وليست مغالبة.

بكلمة، كل من يدعو لانتخابات عامة، حرة، نزيهة، وعلى قاعدة النسبية، متوجهاً إلى القيادة الفلسطينية التي يريد تغييرها، بأن تجريها، إنما يحرث في بحر. ويخدع نفسه، إلاّ إذا كان المقصود التحريض وليس الانتخابات. ولكن تبقى مشكلة الابتعاد عن مواجهة الصراع مع العدو لسنوات، أو مؤجلاً له، منتظراً تحقيق أمنية وهمية.

على أن الخيار الآخر الذي يذهب إليه البعض همساً، أو علناً، هو إجراء انتخابات، بعيداً من السلطة وقيادة فتح، وأنفهما راغم. وهنا على هؤلاء وهؤلاء أن يقولوا لنا كيف؟ ومدى إمكان ذلك؟

والمدهش أن أغلب النخب الفلسطينية المطالبين بانتخابات، بعيداً من فتح أوسلو، يؤيدونها بعيدة من تدخل الفصائل الفلسطينية كافة. وهم بهذا يصعبون مهمتهم، وهي أصلاً صعبة المنال، من دون هذا الإبعاد. الأمر الذي يحتاج من جانبهم إلى أن يبينوا كيف؟ ومدى إمكان ذلك؟

1-   إن إجراء انتخابات عامة للمجلس الوطني، أو لمجلس شعب، يحتاج إلى سلطة تجريها وتشرف عليها، وإلى قانون انتخابي، وإلى قائمة بأسماء الذين يحق لهم الانتخاب. فكيف سيشكلون هذه السلطة، ومن أين ستأتي شرعيتها؟ وكيف سيحصلون على قائمة الناخبين في كل بلدان العالم ومناطق تواجد الفلسطينيين، ما داموا يريدونها عامة تشمل فلسطينيي الداخل والخارج؟

2-   الانتخاب بالاقتراع المباشر. وهو أصل كل انتخابات حتى الآن. الأمر الذي يحتاج إلى موافقة الدول والسلطات التي يتواجد فيها الفلسطينيون، بما في ذلك سلطة رام الله في الضفة الغربية، والفصائل في قطاع غزة، والكيان الصهيوني في القدس ومناطق الـ1948، وحكومات الأردن وسورية ولبنان (مع الفصائل) ومصر ودول الخليج العربي، والدول العربية عامة. وهذا يشمل أكثر من 85 في المائة من الناخبين الفللسطينيين. أما الـ 15 بالمائة الباقون فلكل دولة تواجدوا فيها صعوباتها ومحاذيرها.

المهم أن انتخابات بالاقتراع غير ممكنة ما دام أمرها بيد الحكومات.

3-   ثمة رأي يقول أن الانتخابات ممكنة عن طريق الأنترنت. وهي انتخابات غير مجربة في أي بلد من بلدان العالم، وحتى دولة كأمريكا استخدمته مع الرسائل على نطاق جزئي، وقد أدخل أمريكا في حرب ضد التزوير. ولكن هذا أيضاً يحتاج إلى وجود قائمة مدققة للناخبين، وهو شبه متعذر (في أمريكا يعتمدون الرقم السري الخاص بكل أمريكي بالإضافة إلى القائمة والهوية وجواز السفر).

ثم هل استخدام تقنية الأنترنت ممكنة دون سيطرة الحكومات، ودون الإختراق والتهديدات الأمنية. فها هنا ثمة مشكلة مع كثرة أعداء الشعب الفلسطيني، من المتنفذين في الأنترنت وعلى الأنترنت. فضلاً عن الصعوبات التي يواجهها الملايين في الدخول إلى برنامج أنترنت خاص بالانتخابات.

المشكلة في الذين يريدونها انتخابات عامة للداخل الفلسطيني والخارج، يهربون من حجة استحالة أن تكون عامة تشمل كل مناطق تواجد الفلسطينيين، ومن مشكلة توفر قائمة الناخبين، إلى حجة مقابلة هي “تجري حيث أمكن”. ولكن “حيث أمكن” قد يقتصر على قطاع غزة إذا كانت انتخابات تعارضها سلطة رام الله، وربما في بضعة دول في المهاجر في أوروبا وأمريكا اللاتينية. وعندئذ إسمع صرخة من لم يشملهم “حيث أمكن”.

ولهذا لا مفر أمام المطالبين بالانتخابات العامة أن تكون لديهم قائمة عامة بالناخبين، وبحث مدقق بالدول التي تسمح بها، بما في ذلك عن طريق الأنترنت، وبأن يوضحوا كيف ستتشكل “هيئة” ذات سلطة لإجرائها، وتكون مقبولة، ويستجاب لها من الناخبين. ثم لا بد من أن يعلنوها صراحة، بأنهم على استعداد لدخول معركة فلسطينية- فلسطينية قاسية.

هذا وعليهم أن يوضحوا كيف ستكون الصورة إذا تشكلت كتلة وازنة، أو غير وازنة وراءهم، واستطاعوا أن يُجروا انتخابات، ويعلنوا وجود مجلس وطني جديد وقيادة فلسطينية جديدة. أي ستكون قيادة ثالثة إلى جانب قيادة م.ت.ف الحالية المسيطرة على رام الله، ولها شرعية عربية ودولية. ويكون مجلسان وطنيان. وذلك إلى جانب قيادات الفصائل المسيطرة على قطاع غزة وعلى مخيمات لبنان وسورية، ولها وزنها في الساحة الفلسطينية والعربية والإسلامية الشعبية.

بكلمة، ستولد الانتخابات قيادة “تقاتل” من أجل الشرعية والتمثيل “الأوحد”، قبل أن تكون قيادة ثالثة في ميدان المواجهة العسكرية أو الشعبية أو السياسية ضد العدو وجوداً واحتلالاً. والله الموفق.

وبالمناسبة، لو ارتبط تشكيل م.ت.ف 1964 وإعادة تشكيلها 1968 بمبدأ الانتخابات لما عرفت النور. ولو ارتبط كل مسار النضال الفلسطيني من 1918- 1949 وحتى 1964 بالانتخابات العامة لما خطا خطوة واحدة، ولما عرفنا ما نحتفي به من ثورات وإضرابات وانتفاضات وكفاح مسلح وشهداء. وأما السبب فبدهي لأن قضية فلسطين قضية تحرير وطني، وأصعب وأطول وأكثر خصوصية من حركات التحرر الوطني. لهذا لم تعرف الانتخابات العامة، كما أن حركات التحرر الوطني أخرجت قياداتها من قلب النضال والمعارك والقتال والسجون، وليس من صناديق الاقتراع، إلاّ بعد الاستقلال والانتصار.

إن التحدي الأول والأخير الذي يواجه الشعب الفلسطيني هو تحدي الوجود الصهيوني على أرضه، وراهناً وعاجلاً الاحتلال واستشراء الاستيطان وتهويد القدس وتحديات الضم ومشاريع تصفية القضية الفلسطينية. وهو السبب في انهيار قيادة أوسلو. وهو الطريق لتشكل قيادة تواجه هذا الوجود والتحدي الراهن.

ولهذا يجب العمل على تشكيل قيادة وطنية تتألف من قادة الفصائل وعدد من الشخصيات المستقلة المناضلة، والشجاعة، لإطلاق انتفاضة شعبية وعصيان مدني، وما أمكن من مقاومات في الضفة الغربية والقدس مع تضامن فلسطيني حازم، ومشارك ولا سيما من قطاع غزة ثم سائر مناطق التواجد الفلسطيني في الداخل والخارج، والحث على تضامن شعبي عربي- إسلامي ورأي عام عالمي.

هذا هو المطلوب أن يناضَل لإنجازه، وما عداه فتغميس خارج الصحن،  وهو الطريق لوضع قيادة أوسلو بين خيار الانضمام لانتفاضة شعبية أو العزلة والسقوط.

مقالات ذات صلة