المقالات

ما بعد القصف الصاروخي من لبنان: معركة اللا حدود واللا محددات

بقلم: محمد إبراهيم بخيت
باحث ومحلل سياسي – غزة

أثار القصف الصاروخي من لبنان تجاه شمال فلسطين المحتلة جملة من الملاحظات والتساؤلات، من حيث التوقيت والأدوات والأهداف والفاعلين والدلالات، فكل هذه العناصر خدمت الجهة أو الجهات التي تقف وراء الضربة الصاروخية، وجعلت شكل المعركة المقبلة مع “إسرائيل” يشوبها شيء من الغموض والقتامة.

من قرر إطلاق الصواريخ من لبنان؟
تعد ساحة لبنان خاضعة فعلياً لسيطرة حزب الله، وهذا الحزب حليف استراتيجي لإيران وواحد من مكونات “محور المقاومة”، وقراراته وسلوكه يعبّر بالضرورة عن سياسات إيران في المنطقة، وما أعنيه من كلامي، أن الصواريخ قد خرجت بقرار منه، وقبل ذلك بقرار من إيران.
إيران التي سارت ببرنامجها النووي إلى حد الاستقرار، حين وصلت إلى نسبة تخصيب لليورانيوم عند 84% متجاوزةً كل العقوبات والضربات التي كانت تريد الدول الغربية و “إسرائيل” منها وقف البرنامج النووي لإيران، لكن الأخيرة صمدت وتحدّت برغم كل الخسارات، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم.
في هذا السياق، كانت إيران تتعرض لضربات إسرائيلية ضد البرنامج النووي وعلمائه ومقراته وأدواته، وإيران تريد الرد على “إسرائيل”، لكن تريد توجيه الضربة التي لا تستدعي الرد الإسرائيلي ضدها، وتريد اختيار التوقيت المناسب.
بدأت في الآونة الأخيرة بنسج اتفاقيات سياسية وأمنية مع جيرانها في السعودية والعراق، والهدف منها تحييد هذه الجبهات من خصوم إيران وأعداءها، من أجل التفرغ لمعركتين: الأولى، إنهاء الوجود الأمريكي في المنطقة، وهو الهدف الذي رفعته إيران ومحور المقاومة عقب اغتيال “قاسم سليماني” مطلع 2020، والثاني، توجيه ضربات للرد على “إسرائيل” المتورطة بهجمات ومؤامرات ضد إيران.
لذلك، وعقب توقيع الاتفاقيات خصوصاً الاتفاقية الأمنية مع العراق، رأينا إيران وقد بدأت بتوجيه ضربات بالطائرات المسيرة صوب القواعد الأمريكية في سوريا، وأمريكا تلقت هذه الضربات على مدار 3 ليالٍ متتابعة ولم ترد بالشكل المتناسب مع ضربات إيران.
هذا في سوريا، وقد ضمنت إيران الضعف الأمريكي في 3 جبهات: السعودية، العراق، سوريا، وتمثل الضعف الأمريكي في عدم قدرة الإدارة الأمريكية على معارضة الاتفاقيات السعودية الإيرانية والعراقية الإيرانية، وعدم قيام الجيش الأمريكي بالرد بشكل مناسب على هجمات إيران ضد القواعد الأمريكية في سوريا.
في ظل هذا الضعف الأمريكي، هناك أزمة داخلية في “إسرائيل” والتي أضرّت استقرار “إسرائيل”، أزمة التعديلات القضائية وما صحبها من مظاهرات للمعارضة وتمرد لجنود الاحتياط.
ومع الأزمة الداخلية في “إسرائيل” تدخل الضفة الغربية المحتلة عامها الثاني من التصعيد ضد الاحتلال، مع استمرار عملية “كاسر الأمواج” التي لم تؤتِ أكلها حتى اللحظة، مع تأهب للمقاومة في غزة، وازدياد حدة الالتحام الجماهيري الفلسطيني مع الاحتلال في القدس والداخل المحتل.
هذه العوامل، من الضعف الأمريكي في المنطقة، مروراً بالضعف الإسرائيلي، دفعت إيران لأخذ زمام المبادرة بالرد على إسرائيل، لكن قبل ذلك، نفّذت اختبارين أمنيين لجهوزية الاحتلال: الأول، عملية تفجير عبوة عند مفترق “مجدّو” قرب مدينة حيفا المحتلة بواسطة عنصر تسلل من لبنان ونفّذ العملية وغادر المكان إلى الحدود ثم جرى تصفيته في مكان قريب من الحدود، أما الاختبار الثاني، فكان عبارة عن إطلاق إيران طائرة مسيرة من سوريا إلى شمال فلسطين المحتلة ودخلت الأجواء إلى مسافة 25 كم قبل أن يتمكن الجيش الإسرائيلي من إسقاطها.
أدركت إيران -ومعها حلفاؤها- بالتأكيد أن “إسرائيل” ضعيفة ومنكشفة، وأن الوقت المناسب لتوجيه ضربة لإسرائيل تكون غير مسبوقة، خصوصاً وأن الحدث ظهر بصورة الرد على جرائم الاحتلال ضد المرابطين في المسجد الأقصى.

من أطلق الصواريخ من لبنان؟
للإجابة على هذا السؤال فإننا قد أشرنا سابقاً إلى وجود هدف إيراني من عملية القصف الصاروخي، وهو تحقيق رد على هجمات إسرائيلية ضد البرنامج النووي، أما حزب الله، فهدفه من هذا القصف، أنه يهيئ ساحة لبنان للمقاومة ضد “إسرائيل” ويثبّت قواعد الاشتباك ضد الاحتلال، وبالنسبة لحركة حماس والجهاد الإسلامي، فإنهما تريدان الرد على جرائم الاحتلال بحق القدس والمسجد الأقصى.
إذاً، الجميع لديه أهداف من هذا القصف الصاروخي، والجميع -في تقديري- قد اشترك في تنفيذ الهجوم، بدءاً من القرار وانتخاب الأهداف واختيار الأدوات وليس انتهاءً بتحقيق النجاحات وتحمل المسؤولية والاستعداد لتحمل التبعات.
ماهيّة معركة المحور مع “إسرائيل”؟
يمكن القول بأن المعركة الدائرة حالياً، وقد بدأت منذ زمن ليس بالبعيد ولا القريب، ستكون معركة اللا حدود ومعركة اللا محددات، حيث يعطينا القصف الصاروخي لمحة عن طبيعة المعركة القادمة، فهي لن تكون بحدود زمانية ولا حدود مكانية، فعملية “مجدّو” مثلاً، لم تأتِ وفق ترتيب زماني يتوقعه الاحتلال، ولم تكن في الحدود الجغرافية التي توقعها الاحتلال، بل جاءت مخالفة لكل الحدود الزمانية والمكانية، في قلب “إسرائيل”.
عملية “مجدّو” كانت مجرد عبوة جهزها وفجرها شخص تسلل من لبنان، نلاحظ هنا كم شكل قد أخذت العملية، تسلل، تجهيز عبوة، تفجير، حس أمني، استطلاع، وحسب مصادر الاحتلال، فقد كان المنفّذ على استعداد للدخول في اشتباك مع جنود الاحتلال الذين أوقفوه خلال عودته إلى لبنان، ما يعني أن أشكالاً أمنية وعسكرية كثيرة كانت في عملية واحدة.
أضف إلى ذلك، أنه وفي الوقت الذي كانت “إسرائيل لاستقبال الصواريخ من غزة، أتتها الصواريخ من لبنان، وقد تأتيها مسيرة من سوريا، وقد ينفّذ المقاومون عمليات نوعية في الضفة والقدس والداخل.. فهل هناك حدٌ يقف أمام عمليات “محور المقاومة”؟! وهل هناك حصرٌ لأشكال العمليات؟!
معركة اللا محددات، فإذا ما اشتدت المعركة بين المحور و”إسرائيل” فإنها ستكون بلا محددات، ومعنى هذا، أن المحور يسير بسياسات واحدة عامة، لكن لكل ركن في “محور المقاومة” محدداته الخاصة به، فغزة ليست كالضفة، ولبنان ليس كاليمن، والعراق ليس كسوريا، كلٌ له محدداته الخاصة، ما أهمية هذا الاختلاف؟
هذا الاختلاف في المحددات يصعّب على المستوى الأمني الإسرائيلي تقدير عمليات الرد، وتوقّع شكل السلوك لكل ركن في محور المقاومة، فهذا المحور لا يسير بمحددات واحدة، ما يسبب الإجهاد لإسرائيل وتشتيت الانتباه وصولاً إلى الضعف في مواجهة أكثر من جبهة.
حسب التقديرات، فإن المعركة بدأت، ولا تأخذ شكلاً واحداً بل أشكالاً متعددة، منها ما تعرفه “إسرائيل” ومنها ما ستتفاجأ منه، والمعركة ستأخذ أماكن متعددة منها ما سيكون في قلب “إسرائيل” نفسها، وستأخذ أزماناً متعددة.
يبقى الرهان على طول النفس، أي الفريقين سيصمد أمام الآخر، وأي الفريقين سيستنزف الآخر، لكن حسب المعطيات المتوفرة، فإن المعركة بين “محور المقاومة” و “إسرائيل” هي معركة استنزاف ومعركة النفس الطويل.

مقالات ذات صلة