المقالات

عقيدة آيزنكوت وتطوير الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية!

عقيدة آيزنكوت وتطوير الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية!

د.فايز رشيد

20 أغسطس, 2015

يوصف غادي آيزنكوت بأنه “الجنرال الذي لا يعشق الحروب”، لكنه يظل الجنرال الإسرائيلي، الذي سيقود جيشا يقوم على عقيدة حربية، يشارك في حروب لم تنته منذ أكثر من ستة عقود. هو ذاته شارك في “عملية السور الواقي” التي شنتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في العقد الماضي، وقتل فيها المئات ودُمّرت البنية التحتية في الضفة الغربية. وأصبحت إسرائيل التي أقامت دولتها عام 1948 من خلال الحروب، على بعد وقت قليل من تثبيت تعيين قائد لأركان جيشها حيكت حوله الكثير من القصص… إنه غادي ايزنكوت رئيس الأركان رقم 21 في تاريخ هذا الجيش الذي كانت نواة تكوينه الأولى تعتمد على العصابات التي ارتكبت مجازر ضد الشعب الفلسطيني وشردته من دياره. ارتباطاً بذلك.. نُشرت في إسرائيل مؤخرا, وثيقة عُرفت بـ ” إستراتيجية الجيش الإسرائيلي”, يتكون الجزء العلني المنشور منها من 36 صفحة.

الإعلام الصهيوني منشغل حولها حالياً في محاولة الإجابة عن أسئلة: لماذا النشر في هذا الوقت بالذات؟ وما الجديد فيها؟ وهل هي لإرضاء الشارع المُنتقد لأداء الجيش في سنواته الأخيرة؟ وهل.. وهل؟ إلى غير ذلك من الأسئلة. فمثلا, رأى المعلق العسكري لـصحيفة “يديعوت أحرونوت” أليكس فيشمان : أن رئيس الأركان غادي آيزنكوت “فرض على الحكومة مفهوم الأمن كما يراه الجيش, والمخاطر والرّد عليها”. وأشار إلى “أن في الوثيقة فكرا عملياتيا على أساس فرص الهدوء التي تسمح بإعادة بناء الجيش. وحسب رأيه فإن “الجيش السوري لا يشكل تهديداً في السنوات الـ 5 – 10 التالية، كما يوجد تعاون إستراتيجي بين إسرائيل وبين بعض الدول العربية”، وفي النهاية خلص إلى القول “تعالوا نستغل الوقت لبناء الجيش – ولا سيما الجيش البري – بشكل مرتّب”. باختصار.. فإن الإستراتيجية المنشورة تقوم على الدفاع! بالطبع هذه الكلمة مطاطية في أذهان المخططين العسكريين الإسرائيليين, فالهجوم من أجل الدفاع عن “الأمن الإسرائيلي” لا يُعتبر في أذهانهم هجوما بل هو عمل دفاعي!. وبالطبع فإن إستراتيجية الدفاع جاءت لتعبر عن تطور مفاهيم “الأمن الإسرائيلي” في ظل اختلاف الظروف. فنظرية الأمن القومي في الكيان الأصلية كانت تقوم على مبدأ الهجوم, والحرب الوقائية انطلاقاً من أن ظروف إسرائيل لا تسمح لها بالاعتماد على مبدأ الدفاع. وتقريباً تعدلت نظرية الأمن هذه بعد احتلال إسرائيل لكل فلسطين وأراضي سيناء والجولان عام 1967. منذ تلك اللحظة وبالمعنى العملي اتخذت إسرائيل مبدأ سُميّ دفاعيا في إستراجيتها المعلنة, حيث جرى بناء خط بارليف , تطوير منظومات الدفاع ضد الصواريخ .. من حيتس إلى القبة الحديدية, ثم إلى منظومات الدفاع الفعّال في المدرعات والآليات وغيرها من الخطوات. لذا صار الدفاع مبدأ معترفاً به. من المفيد التطرق إلى موضوع مهم : وهو: أن المتغيرات في العقيدة الأمنية الصهيونية تتطور بالتدريج وهي ليست ثابتة بل متغيرة وفقا لظروف الواقع. في مؤتمر هرتسيليا قبل الأخير2014, قدّم الباحثان الإسرائيليان: أليكس مينيتس وشاؤول شاي ورقة بحث إلى المؤتمر، الذي انعقد في أوائل يونيو من العام الماضي بعنوان “التغييرات الجيوساسية في المنطقة، تفرض على إسرائيل إعادة صياغة عقيدتها الأمنية”. الأول هو رئيس “معهد السياسات والاستراتيجيا”، الثاني هو رئيس فرقة الأبحاث في المركز المذكور. ترجمت الورقة عن العبرية يولا البطل. للعلم الاستراتيجية الجديدة المنشورة تعتمد في المقارنة على الاستنتاجات السياسية للبحث الذي قدمه الباحثان المذكوران للمؤتمر المعني.

معروف أن الذي صاغ العقيدة الأمنية الإسرائيلية هو ديفيد بن غوريون رئيس الوزراء ووزير الدفاع في أوائل الخميسنيات. أصبحت فيما بعد نظرية تعتمد عليها إسرائيل فعليا. وفقاً لهذه العقيدة فإن من الضروري: “أهمية إقناع الدول العربية دوماً بالتسليم بالوجود الإسرائيلي”. وأن تدفع إسرائيل العالم العربي إلى الاستنتاج: أنه لا سبيل عمليا لتدمير دولة إسرائيل”. كل ذلك يتم عبر “تحقيق انتصارات متتالية تؤدي إلى تيئيس القيادات العربية”. مثلما رأينا بالتجربة فإن هذه الخطوط العامة التي عملت وما تزال تعمل بها الدولة الصهيونية جرت ترجمتها إلى مبادئ أخرى من صلب الخطوط الاستراتيجية لبن غوريون, ولعل أبرزها: الحروب الاستباقية، الردع، نقل المعارك إلى أرض العدو، إنهاء الحروب العدوانية بالسرعة الممكنة، كل هذا طبقه العدو الصهيوني في اعتداءاته وحروبه على كافة الدول العربية منذ إنشاء دولة الكيان حتى هذه اللحظة. يتطرق البحث إلى كل المحاولات السابقة لتحديث عقيدة إسرائيل. لقد كانت المحاولة الأولى من قبل الجنرال يسرائيل فال عندما أصدر كتابه: “الأمن القومي: قلة مقابل كثرة”، الذي عرض فيه تطور العقيدة الأمنية الإسرائيلية وأشار إلى التعديلات المطلوبة التي كانت تلائم من وجهة نظر الباحثين “تسعينيات القرن الماضي”. في عام 1998 بادر وزير الدفاع إسحق مردخاي إلى تشكيل ورشة عمل في هيئة الأركان برئاسة اللواء ديفيد عبري لبحث التجديدات في العقيدة الأمنية. ما جرى تداوله في ورشة العمل والاستنتاجات التي خلصت إليها الورشة , لم يجر عرضها على الحكومة الأمنية المصغرة ولم تُعتمد كعقيدة أمنية قومية. في عام 2006 قدّم الوزير السابق دان مريدور إلى وزير الدفاع آنذاك شاؤول موفاز تقريراً للجنة رأسها هو, وتضم 20 خبيراً من بينهم اللواء غيورا أيلاند الذي أصبح فيما بعد رئيساً لمجلس الأمن القومي الأمريكي. الاستنتاج الأبرز لتوصيات اللجنة: أن مكوّن الدفاع بحاجة إلى ثلاث ركائز أمنية: أهمية الرّد المتمثل في الدفاع عن السكان المدنيين والبنى التحتية في إسرائيل من قبل الصواريخ بعيدة المدى التي يطلقها الإرهاب من ميدان القتال المباشر إلى المواطنين في الجبهة الداخلية. إعادة درس ملاءمة مفاهيم الردع، والإنذار الإستراتيجي والحسم، في مواجهة لاعبين غير دوليين على غرار التنظيمات (الإرهابية). ضرورة استنباط رد مناسب دفاعاً عن أنظمة الحواسيب القومية. أقر وزير الدفاع آنذاك شاؤول موفاز توصيات اللجنة ونقلها إلى الحكومة الأمنية المصغرّة , لكن الأخيرة لم تقر ولم تعتمد تلك التوصيات.

في العام 2013 نشر اللواء احتياط البروفيسور يتسحاق بن إسرائيل: تصوره لعقيدة أمنية إسرائيلية وأصدر كتاباً بذلك بعنوان “عقيدة إسرائيل الأمنية”. من وجهة نظره: فإن العقيدة الأمنية الإسرائيلية مرّت في ثلاث مراحل: الأولى “بدأت فور انتهاء الحرب العالمية الأولى والاحتلال البريطاني لأرض “إسرائيل”. هذه المرحلة اتخذت طابع الخصام بين الجيران على مسائل المياه وتقسيم الأرض. المرحلة الثانية بدأت عشية إعلان الدولة واستمرت حتى مطلع تسعينيات القرن العشرين. التهديد الرئيسي في تلك لفترة تمثل في خطر غزو جيوش دول الجوار العربية لحدود إسرائيل وخطر المواجهة بين عدة دول. المرحلة الثالثة بعد ذلك: بدأ يتبلور مفهوم جديد يتلخص في: أن التهديد الأهم المحدق بإسرائيل ليس غزو الجيوش وإنما في تنظيمات ومجموعات (إرهابية) وهذا يشمل مواجهات محدودة بين إسرائيل وهذه التنظيمات وغيرها.

تؤكد الورقة “أن العولمة” والثورات التكنولوجية في مجالات الاتصالات والسايبر والفضاء والتغيرات الجيوسياسية الإقليمية والدولية: تغير وتبدل طبيعة الحروب والمستجدات في (المجتمع) الإسرائيلي, وتستدعي إعادة درس العقيدة الأمنية الإسرائيلية وملاءمتها لظروف الواقع الديناميكي للقرن الواحد والعشرين. وترتدي طابع ملاءمة العقيدة الأمنية لأهداف الدولة ولبيئتها الإقليمية والاستراتيجية المتغيرة،أهمية خاصة. يولي البحث أهمية كبيرة للتغييرات الجيوسياسية في المنطقة والتي أسماها “الاضطرابات الإقليمية” فقد أخذت المنطقة تتسم اعتباراً من العام 2011 في أعقاب ثورات الربيع العربي المُصادر: بعدم الاستقرار وبأزمات لا تزال في ذروتها حيث يخيم عدم اليقين على مستقبل المنطقة. في أعقاب الثورات بدأ يتزعزع مفهوم الدولة القطرية العربية الذي كان الأساس النظامي الإقليمي، وتشهد بعض دول المنطقة حالات تفكك وهي آخذة بالتحول إلى دول فاشلة. في الدول العربية غير المنحازة لجهة تركيب سكاني معين, هناك احتمال لحالات تفكك من الداخل وظهور جيوب مستقلة ذاتياً (على أساس جغرافي، أو طائفي، أو ثقافي، أو وظيفي) تسيطر على هذه الجيوب عناصر متشددة, وتشهد صعود لاعبين لا دولتين في المنطقة ومعظمهم ذوي اتجاه إسلامي لإسرائيل. التنظيمات “الإرهابية” الإسلامية تشكل تحدياً لإسرائيل وللجيوش العربية في مصر, سوريا ,العراق اليمن وغيرها.

إسرائيل محاطة بلاعبين لا دولتين: حزب الله المسيطر في جنوب لبنان, مجموعات سورية بالقرب من هضبة الجولان. السلطة الفلسطينية في يهودا والسامرة (الضفة الغربية). سلطة حماس في قطاع غزة تنظيمات جهادية في شبه جزيرة سيناء. تستعرض الورقة الخطر الإيراني وتحذر من إمكانية تحول إيران إلى دولة نووية، كما أن النزاع (الصراع) الفلسطيني (العربي)-الإسرائيلي (الصهيوني) يستغل كعقبة لإجراء السلام مع الدول العربية ويتحول إلى مفاعيل سلبية على إسرائيل في الساحة الدولية, كما يجسد هذا النزاع (الصراع) تهديداً للهوية اليهودية-الديمقراطية لدولة إسرائيل، كما أن إسرائيل تعاني من خطر العزلة الدولية. الورقة تعتبر أن صراع القوى الكبرى بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وبين روسيا والصين من جهة أخرى يؤدي: إلى انعكاسات على منطقة الشرق الأوسط. تستعرض الورقة تحديات قديمة جديدة لإسرائيل تتمثل في: مجالات الحرب السبرانية (الإلكترونية) , مجال تطبيقات تكنولوجيا الفضاء. ويبين البحث إمكانية أن تشكل هذه التحديات أخطاراً على إسرائيل لذا يتوجب مقاومة هذه الأخطار وإعداد الردود المناسبة لها. يخلص البحث إلى نتائج: أهمية استمرار التحالف مع الولايات المتحدة. زيادة أهمية الاهتمام بالساحة البحرية فسكان إسرائيل في معظمهم يعيشون على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وأن 97% من استيراد وتصدير البضائع من وإلى إسرائيل يتم عن طريق الشحن البحري عبر الموانئ. وحول العقيدة الأمنية الإسرائيلية: يتوجب مواجهة التهديد الإيراني، يتوجب أن تركز هذه العقيدة الجديدة على أولاً الردع ، بناء قدرات عسكرية تردع أعداء إسرائيل. ثانياً: الإنذار الاستراتيجي في حالة فشل الردع في تحقيق غايته، مطلوب قدرة استخباراتية تعطي إنذاراً مبكراً عن نية العدو الإقدام على شن حرب. ثالثاً:الحسم، حسم المعركة بأسرع ما يمكن، رابعاً: الدفاع. يستهدف الرد على التهديدات التي تتعرض لها الجبهة الداخلية من دول بعيدة جغرافياً، ومن تنظيمات إرهابية. أهمية التكيف والتأقلم مع المتغيرات الجيوسياسية، وبخاصة الجوانب المفاهيمية الاستراتيجية. إقامة تحالفات إقليمية مع دول شرق حوض البحر المتوسط كاليونان وقبرص ودول أخرى في البلقان، تحالفات في الشرق الأوسط، وفي شرق إفريقيا.

أما الذي نلمسه في هذا التقرير فأبرزه يتلخص في: ديناميكية مفاهيم الأمن الإسرائيلي والتجديد فيها، إعداد الدولة بالمعاني السياسية والعسكرية لتخدم في كافة مؤسساتها هذه المفاهيم. طموح إسرائيل لتكون مكوناً رئيسياً من مكونات المنطقة. محاولة إسرائيل إبقاء موازين القوى العسكرية في صالحها نظراً لارتباط هذه الموازين بكل ما تقوم إسرائيل بتطبيقه من سياسات, بغض النظر عن مدى صحة أو خطأ أهمية هذا الاستنتاج أو الطرح أو ذاك في التقرير, إلا أنه يلامس بواقعية شديدة وموضوعية العقيدة الأمنية الإسرائيلية.

مقالات ذات صلة