المقالات

أمراض عربية… زمن المال وتفاهة الغناء والأنا

في حاضرنا من أكثر معايير تقييم الإنسان في عالمنا العربي تأثيرا: رصيده البنكي ومدى ما يمتلكه من مال. الغالبية والحالة هذه تحترمه إذا ما مرّ في شارع أو تحدّث في جلسة، حتى لو كان تافها في قوله وفعله وأخلاقه. للأسف هذا هو زمننا الرديء. أذكر في الخمسينيات والستينيات وعندما كان يتقدم أهل خاطب لأهل مخطوبة.. فإن أول ما يبحث عنه الأخيرون في خطيب ابنتهم، أخلاقه وتعامله مع الناس؟

لم يكونوا يسألون عما يمتلكه من مال.. الأهم بالنسبة إليهم أن تكون ابنتهم مع إنسان خلوق بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فيضمنون والحالة هذه ستر ابنتهم. اليوم اختلفت الصورة إلى عكسها، الأسئلة الأهم للعروس وأهلها، امتلاك العريس شقة وسيارة خاصة فارهة وحسابا بنكيا مريحا، واستعداده لتشغيل خادمة في البيت وأن تعقد حفلة الزواج في فندق كبير مشهور، حتى لو سيظل العريس مدانا لسنوات طويلة.. وغير ذلك من الطلبات.

لا يجري السؤال عن أخلاقه فهذه آخر الاهتمامات.. أما عن شكل معيشة الابنة مع زوجها فهذا أيضا لا يهم كثيرين. من القضايا أيضا، افتخار أهل الفتاة بأن زواج ابنتهم تم في فندق راق فخم ذي 7 نجوم وليس خمسة، وأن الأكل تم استيراده من الخارج، وأن زوج ابنتهم غني. كذلك كثيرون لا يزوجون بناتهم لشباب نظرا للفارق الطبقي بين العريسين والعائلتين.. هذا رغم اتفاق البنت والشاب على الزواج.. أيضا كذلك يجري إجبار الابنة على الزواج من غني رغم خيارها لشاب فقير. ما نقصد قوله إن التباهي في زمننا هو أيضا في المال.. ولا شيء غيره.

الغنى بالطبع ليس بالمال.. وإنما غنى النفس والقناعة التي»هي كنز لا يفنى». كل الأديان نادت بالأخلاق ودعت إلى القناعة والتواضع والكرم والشجاعة والصدق والأمانة. يقول زرادشت «سبع فضائل لا بد أن تتوافر في الإنسان: الحكمة.. الشجاعة.. العفّة.. العدل.. الإخلاص.. الأمانة.. الكرم. أما بوذا فقال: محراثي هو الحكمة، وقائد محراثي هو التواضع، والمثابرة هي التي تجّر هذا المحراث.

أبقراط يعتبر أن: الأمن مع الفقر خير من الغنى مع الخوف. الغني يخاف على ثروته من الضياع.. تراه يتابع في كل ساعة، آخر أسعار الأسهم، وأسعار صرف العملة، وغير ذلك من الهواجس والتساؤلات اليومية عن الربح والخسارة وغيرها. من لا يمتلك مالا غير حاجته.. وبعض القليل ينام خالي البال والضمير. يقول سقراط: العدل أمن النفس.. ولم يقل: الغنى أمن النفس.. مثلما يعتقد كثيرون. يقول المثل العربي بما معناه «من تتزوج القرد لأجل ماله.. يذهب المال ويبقى القرد لأصحابه».

من أمراضنا العربية أيضا، انتشار الأغاني التافهة. في بداية تفتح الوعي لدى جيلنا، صحونا على أغاني القِيم والمبادئ والطرَب الأصيل، أم كلثوم، عبدالوهاب، عبدالحليم حافظ، فريد الأطرش، نجاة الصغيرة، شادية وغيرهم، إضافة إلى ذلك كانت هناك هناك، الأغاني الوطنية التي كانت تُلهب المشاعر.. وما أكثرها. أذكر في مرحلة دراستي الابتدائية والإعدادية كان نشيدنا اليومي الصباحي في المدرسة عن الجزائر، «وعقدنا العزمَ أن تحيا الجزائر.. فاشهدوا».

لست من غواة الماضي فقط.. وسأكون والحالة هذه ضد الطبيعة والتطور والحياة والدياليكتيك. أدرك أن لكل زمن مواصفاته وسماته وتطوره بفعل التكنولوجيا والعلم ووسائل المعرفة.. لكن لا يمكن للحاضر أن يكون منفصلا عن الماضي، وإلا لكان بلا جذور، كذلك هي علاقة الحاضر بالمستقبل.. هي سلسلة من التواصل بين الماضي والحداثة والمستقبل، مع الأخذ بعين الاعتبار قِيَم الجديد الأصيلة. لا يمكن لأغنية تقول كلماتها بما معناه:»الطشت قللي.. يا بنت يللي.. قومي استحمي» وأخرى « تعال نطلع كده عالروف» و»ما اشربش الشاي..أشرب أزوزة أنا» وغيرها الكثير، لا يُمكن لأغان هابطة مضمونا وكلمات مثل هذه أن تُذاع وتنتشر إلّا في زمننا الرديء. أدرك أن التردّي السياسي يفرض نفسه على كل المجالات الأخرى.. ولكن ليس إلى هذا الحد من التفاهة. هناك بالطبع قلّة معنية بالنقيض ولكن ليست هي الظاهرة الأعم للأسف.

الغناء هو أحد أشكال الفن، والأخير لم يعد وفق الفهم الأفلاطوني له: «الفن للفن» فمنذ بلزاك وفلوبير وكافة المدارس النقدية الأخرى، مروراً بـدستيوفسكي وليف تولستوي وبوشكين وغيرهم، وصولاً إلى الواقعية الاشتراكية، أرسى دعائمه ورسالته الاجتماعية في الحياة. أبعد ذلك يمكن للغناء أن يكون حيادياً؟ إذا كان المطلوب أن يكون كذلك فما هي رسالته الإنسانية؟ هل يمكنك كمغن أو شاعر أو ملحن أن تتحلى بالحيادية تجاه ما يمس سلباً قضاياك الحياتية والأكثر عُمقا والأخرى الوطنية؟ كل هذه الأسئلة يمكن طرحها للنقاش كونها قضية في غاية الأهمية. هذا لا يعني اقتصار الغناء على الهدف مجردا من الطرب الأصيل.. أو حتى من أجل الطرب ذاته، ولكن يمكنه أيضا ألا يكون سوقيا وتافها مثل الكثير من أغاني الزمن الحاضر.

نعم، هناك في الذات العربية أيضا مرض يشيع ويتزايد هو، الأنا.. وليكن بعديَ الطوفان. أنا من يريد ان يقضي عمله قبل كل الآخرين ولو أنهم ينتظرون قبلي ولساعات طويلة. أنظّر لأهمية التتابع في الدور الطويل من الناس.. لكن إن تعلقّ الأمر بي.. فليذهب الآخرون إلى الجحيم. أقرأ محاضرات في موضوع حرية المرأة.. أما في بيتي فأتعامل مع زوجتي وابنتي وشقيقتي مثل قطع من أثاث البيت لا أسمح لأي منهن بمناقشتي في رأي مخالف لوجهة نظري أو الانطلاق من أنهن بشر مثلي.. لهن حقوق.. وهن على قدر المساواة معي في كل المجالات.

بعض الآباء يشترطون على أزواج المستقبل لبناتهم أن تكون رواتب بناتهم لهم بعد الزواج لسنوات أو حتى طيلة فترات عملهن، هذا بالفعل ما يجري في واقعنا للأسف. وعلى ذلك قس.

يسألون عن أسباب تأخرنا في الكثير من المجالات وفي المحصلة أيضا. تأخُرُنا لم ينزل من السماء.. صنعناه ونصنعه بأيدينا. ندّعي التقدم ونحن منه براء، وهو أيضا منّا كذلك. نعتقد أنه يتمثل في الأثاث الفاخر.. والأجهزة التكنولوجية الحديثة وارتداء أحدث الموديلات وغير ذلك من المظاهر السطحية، كل هذه توافه إذا ما قيست بالعامل الأهم: العقلية التي تستوعب الجديد والتقدم.. العقلية الحضارية الديمقراطية المنفتحة على الآخر، التي تحترم الأنت قبل الأنا.. العقلية التي لا ترى في الذات سرّا للوجود الإنساني، والتي ترى الذات محورا يتوجب على كل الآخرين الدوران حوله.. وإلى لقاء قادم..

د.فايز رشيد

10 مارس, 2015

مقالات ذات صلة