المقالات

حول الأسرى أسئلة وتحليل

تتواصل في سجون العدو معارك تشتد وتخبو، يخوضها الأسرى الفلسطينيون، ويستخدمون أدواتها ضمن ظروفهم الخاصة وضمن معطيات محددة تتواجد فيها الحركة الأسيرة عموما، أو الاسير الفرد.

لا يُعنى هذا النص بمدح الأسرى والاشادة بكفاحهم، فهذا أمر مفروغٌ منه ومن بديهيات الوعي الوطني الفلسطيني السليم الذي لم يتلوث بأوسلو وقيم سلامها المختل.

يهدف هذا النص إلى تسليط الضوء على أسئلة ثلاثة أعتبرها محورية كنتيجة لمتابعتي اليومية الحثيثة لقضية الأسرى وكفاحهم المتواصل كجماعة وأفراد.

– متى تُرك الأسرى لوحدهم؟ وكيف تم كوي الوعي العام بقضية الأسرى ما قاد إلى اهمالها سياسياً ورسمياً بتواطؤ شعبي مضلل أو مغرر به؟
– ما حدود النضالات الفردية وما جدواها وكيف يمكن استثمارها وهل تكفي نضالات الأسرى لوحدهم دون تكامل مجتمعي؟
– ما المطلوب؟ ما واجبنا كشعب وقوى سياسية؟
هل يظن الأسرى إنهم وحدهم وهل تواطأنا مع هذا الشعار؟

علمتنا فلسفة المواجهة وأدبيات الاعتقال أن أحد أهم الأهداف الرئيسية التي يريد الجلاد الوصول إليها هي كي وعي السجين تجاه صلته بالعالم الخارجي وإقناعه بأنه لوحده وأن من في الخارج قد تخلوا عنه وتركوه يواجه مصيره، بالطبع وخلال فترة طويلة من تجربة الاعتقال المدعومة بمقاومة فاعلة والتفاف شعبي جذري، طور الأسرى طريقتهم الخاصة للتعامل مع هذه المحاولات، وهي تقنية نفسية تعتمد أساسا على عقيدة الأسير ووعيه الأيدلوجي وايمانه بقضيته، وبصحة أفعاله وارادته الشخصية الحرة في استعداده لتحمل النتائج لماقام به من أعمال كفاحية. وانطلاقا من ايمانه المطلق بقضية شعبه واستعداده الدائم للتضحية، هذا الايمان الذي يعاد بلورته ليصبح قضية شخصية، ويتزاوج محددا حرية الشعب العامة والحرية الشخصية للأسير وحقه بالتحرر من اسره.

بعد أوسلو، وسلسلة النكبات التي حلت بالوعي الشعبي العام، ليس فقط في قضية الأسرى، بل تجاه القضية الفلسطينية بمحاورها كافة، اصبح التزاوج المذكور بين الخاص والعام في كفاح الأسير، في موقع تهديد مشدد، حيث سعت الطبقة السياسية المتنفذة التي خاضت أوسلو وجرت الشعب معها، إلى تحويل قضية الأسرى كما غيرها، إلى بند تفاوضي يقبع في ذيل اهتمامات المفاوضين، خاضعة للمساومة والمماحكات التسووية.

مع تراجع التركيز الرسمي على قضية الأسرى وحجم الكذب والخداع الذي تبثه السلطة تجاه هذا الأمر، وتراجع قضيتهم (باستثناء حالات التصعيد المحددة) إلا أن هذا انعكس على التفاعل والاهتمام الشعبي، مما أحال قضية الأسرى إلى التموضع في ثلاث تمظهرات رئيسية: المستوى الأول هو التفاوضي كما سبق وأشرنا، والثاني هو الحقوقي عبر المحامين والمراكز القانونية ومنظمات الدفاع والمناصرة، وهي محكومة أولا وأخيرا بكونها تحت سقف قانون المحتل من جهة وكنشاط اعلامي من جهة أخرى لا يؤثر فعليا على وضع الأسرى، المستوى الثالث هو الشعبي الذي جرى تحجيمه ليقتصر على عائلات الأسرى فقط ومتضامنين متطوعين يقل عددهم باستمرار.

أما الاهتمام الفصائلي، بشكله الرسمي – حيث من البديهي أن الاسرى بمعظمهم هم منظمون، والكثير من المتضامنين هم من أبناء الفصائل أيضا- إلا إنه انحسر أيضا ارتباطا بالظروف وعجز الفصائل وأحوال الانقسام، ليقتصر على التضامن اللفظي أو المهرجاني، فتحول الأسرى إلى بند في نهاية بيان أو فقرة أخيرة في خطاب مسؤول أو قيادي، بل أن المعيب حقا هو غياب كوادر وأعضاء هذه الفصائل عن النشاطات التضامنية وخيم الاعتصام مع الأسرى، واقتصار الحضور دائما على عائلات الأسرى وبعض المتضامنين الجديين و على اللجان الرسمية وأعضائها، أقلهم في المطلق. حتى لو كان الأسير هو ابن هذا الفصيل بالذات.

هذا كله يضاف إليه تشرذم وشرذمة الحركة الأسيرة فصائليا ومناطقيا، حيث عمل الاحتلال على فصل الأسرى وعزلهم فصائليا في غرف مستقلة، ليمنع الاندماج والتحرك المشترك، ويعطله، كما رسخ سقفا قانونيا للتعامل مع أسرى غزة والضفة من جهة والقدس والداخل من جهة أخرى.

التشرذم الذاتي والانقسام والحساسيات الفصائلية الخارجية وجدت طريقها للأسف إلى المعتقلات، والفصائل رضخت لشروط العدو ومحدداته ورضيت اللعب في ملعبه ما جعل الحركة الأسيرة تزداد ضعفا وتتراكم خسائرها وهذا الاستنتاج رغم ما يحمله ظاهريا من تحليل متعسف إلا أن مؤشراته كثيرة وقابلة للرصد والاحصاء.

ولاشك أنه الى جانب البعد السياسي والحقوقي، فان هذا الواقع من حالة التشرذم والاهمال والتجاهل المتعمد تؤثر بشكل سلبي كبير على حالة الأسرى رغم صمودهم وقدراتهم المتجددة إلا أن الأثر النفسي عليهم وعلى عائلاتهم يتعاظم ويتكاثف حتى كأنهم يصرخون: يا وحدنا ولاأحد يسمعهم.

لمسنا هذا في تجارب كثيرة مازالت ماثلة للمضربين عن الطعام لا نريد الخوض فيها في نص من هذا النوع، لكن التضامن معهم لم يرتق على الاطلاق إلى المستوى المطلوب مع تسجيل التحية والاعتزاز لنخبة من أبناء وبنات شعبنا الذين اعتبروا أنهم معنيون مباشرة بالتواجد المستمر والمشاركة المتعددة لنصرة الأسرى بشكل شخصي ومستقل ما ترك أثرا عظيما على محدودية عددهم وقدراتهم كأفراد.

حول النضال الفردي أو الجزئي:

نضال الأسرى بالطبع له محدداته الخاصة وشروطه وأهدافه المتغيرة ضمن قوس الحرية الواسع، وقد أصبح معتادا أن يخوض أسير واحد معركة الأمعاء الخاوية لتحقيق هدف يخصه، وبالتأكيد لا أحد طبعا يحق له أن يطلب من الأسير أن يكف عن هذا، وهذا الفعل مجحف وغير أخلاقي، فمن حق كل أسير أن يناضل لوقف اعتقاله التعسفي أو نقله التعسفي أو حرمانه من الزيارة أو لطبابة أو التعليم وغيرها.

ولكننا هنا نطرح أسئلة تتعلق بمصائر هؤلاء الفدائيين المنفردين، من جهة وقدرتهم فعلا على تحقيق انتصارات ناجزة، ومصير الحركة الأسيرة بشكل عام، ان النضال الفردي يبرز القضايا بسرعة ويوصلها إلى مجالات اعلامية كبيرة، ولكن للأسف في تزاوج مع ازدياد اخطر على حياة الأسير نفسه، ولكن تصاعد النضال الفردي يعكس في الجانب الآخر ضعف الحركة الأسيرة وتفككها، وتراجع الاهتمام والتركيز الشعبي والسياسي لمصلحة أجندات بديلة، كما أن طريق تحقيق الانتصار الفردي محفوف بالمخاطر، لأنه يستند بالأساس إلى احترام العدو بتعهداته وهذا ثبت بطلانه في تجارب مماثلة، فالعدو قادر تماما عبر التفاوض أو سن القوانين واعادة تفسيرها على تفريغ أي انتصار من معناه، قضية البطل محمد علان ماثلة اليوم أمامنا.

بالتأكيد ليس أمام الأسرى إلا أن يستمروا في مقارعة الجلاد بالإضراب وغيره، وليس ثمة حل سحري لمعضلات الحركة الأسيرة، ولكن يبقى النضال الكلي الموحد هو الحل الأكثر جدوى والشكل النضالي الأكثر فائدة رغم التضييقات وقوانين الاحتلال، وهذا يحتاج لجهد رسمي وشعبي وسياسي وكفاحي أيضا لأن العدو لن يتخلى عن الرهائن في يده بسهولة، مالم يتحولوا بفعل نضال متعاظم ومتكامل إلى جمرة تحرق يديه وتطيح به مام الرأي العام العالمي من جهة أخرى.

ما هو المطلوب:

اعادة صياغة استراتيجيات وطنية عامة للأسرى والكفاح من أجل تحريرهم كجزء لا يتجزأ من القضية الوطنية العامة، ويبدو من نافل القول أن استعادة قضية الأسرى كقضية كفاحية وطنية هو في أساس أي استراتيجية وطنية تعيد الاعتبار لمجمل محاور القضية الفلسطينية سواء الحديث عن الأسرى أو القدس و اللاجئين أو دحر الاحتلال كهدف استراتيجي كلي.

وهذا يتطلب جهدا استثنائيا، أي اعادة الاعتبار والتجوهر لقضايا تم تجاهلها وازدراؤها على مدى عشرين عاما، جهد سياسي واعلامي وكفاحي، ما يتيح اطلاق عملية تطهير للوعي، مضادة لكي الوعي الذي أحدثته اتفاقية أوسلوا والسياسات التي نبعت منها.

اخيرا يجب القول:

1- إن قضية التضامن ليست قضية الأسير بقدر ماهي قضية المتضامنين فالأسير المضرب عن الطعام والمعزول في سجن بعيد قد لا يعرف على الأغلب ضمن ظروفه القسرية أن هناك من يتضامن معه، لذلك فالتضامن يكتسب هنا بعدا كفاحيا لأنه يتسم بالغيرية من جهة ويحمل امكان التصعيد لاكتسابه صفة الصدام المباشر مع العدو، ما ينعكس ايجابيا بالمعنى القيمي الوطني على المتضامن نفسه.

2- الأسير ليس مشكلة، بل حالة كفاحية، يستطيع الكل الوطني البناء عليها والاستفادة منها، وقضيته هي قضية مجتمع سياسي يريد الكفاح من أجل حقوقه أو يجنح للتراخي والاستسلام.

3- ان استعادة وحدة الحركة الأسيرة وحمايتها من المؤثرات السلبية في الاطار العام هو مهمة مركزية وأمر جوهري وعاجل، يساهم في اعادة الاعتبار للأسرى ككتيبة متقدمة في عملية التحرير الوطني وليوا مأزقا أو معضلة تفاوضية كما يروج مفاوضو أوسلو.

4- لابد من العمل الدؤوب لإعادة تكريس اجماع وطني حول لأسرى بمعزل عن أي قضايا أخرى ملحة أو أي مناكفات وانقسامات ما يتطلب تصعيد وتحشيد الدعم على كل المستويات باعتبارهم سجناء حرب تنطبق عليهم اعلانات جنيف بالكامل، وهم أسرى من أجل الحرية ومناضلون سياسيون.

تلك كانت نظرة عامة وتأملات ومحاولة للسؤال واقتراح الاجابة، ويبقى أولئك النسور الصامدون المعتصمون بقوة ارادتهم وايمانهم وصلابة أرواحهم هم أفضل الأجوبة على أي سؤال.

أحمد.م.جابر

مقالات ذات صلة