المقالات

الكلام على تدويل سيناء إنذار بزجّ غزة في أتون صراع إقليمي

الكلام على تدويل سيناء إنذار بزجّ غزة في أتون صراع إقليمي

ماجد الشّيخ

إذا كان اتفاق القاهرة الخاص بحرب غزة، قد هدف إلى معالجة الحرب الإسرائيلية المدمرة، مع محاولة وقف تهريب السلاح، بضمانة مصرية – أميركية، إلا أنه لم يلحظ ولم يعالج ما يجري في سيناء من توليد وتفريخ تنظيمات متطرفة تكفيرية في غالبيتها، تقف على يمين حركة «حماس» وتفوقها تطرفاً، لهذا، وفي وضعها الراهن الذي تعيشه الدولة المصرية من اضطراب داخلي، علاوة على المخاطر الجدية التي باتت تكتنف الأمن القومي، لا يمكن دولة ضامنة بمواصفات الدولة المصرية، أن تتصدى لما أناطه بها الاتفاق، حتى في الحدود التي بقيت مقتصرة على معالجة مسألة وقف تهريب السلاح من سيناء، وهي المسألة الأهم التي كان ينبغي على الجانب المصري أن يعنى بها؛ بينما الوضع في سيناء وطبيعة القوى التي بات لها شأن كبير في المعادلة التي تتعلق بقطاع غزة، بقي بعيداً من أنظار الذين سعوا الى اتفاق يوقف الحرب ويعالج بعض جوانبها، وليس كلها، وسيناء احد تلك الجوانب التي يمكنها ويمكن تطورات الأوضاع فيها أن تعيد الاتفاق إلى نقطة صفرية جديدة، بل أن تعيد خلق بؤرة إقليمية متفجرة، طالما جرى تجاهلها، كونها مسألة داخلية تتعلق بمصر.

هذا على الصعيد الإقليمي، أما في ما يتعلق بالاتفاق، وما أحاط ويحيط به من لغط حتى الآن، فإنه وبغض النظر عما اعتبره معلقون إسرائيليون من أنه كان بمثابة «اعتراف دولي قوي بحركة حماس»، إلا ان واقع الحال يقدم شهادة على أن لا شيء تغير أو يمكن أن يتغير، سوى استناد الجميع إلى تصورات وأوهام؛ منها ما هو قديم، ومنها ما استجد بعد التوقيع، حيث اعتبر كل من الجانبين (الإسرائيلي والفلسطيني) أنه يصب في مصلحته، حتى ولو لم تكن هناك مكاسب مباشرة الآن؛ فالحكومة الإسرائيلية سعت وتسعى لأن تكون «حرب غزة» بنتائجها الراهنة، رصيداً انتخابياً لها، على رغم ما يثيره بعض اليمين المتطرف من تشويش وإبداء عدم الرضا من النتائج التي آلت إليها الحرب التي حققت أهدافها الجوهرية في الساعات الـ 12 الأولى من بدايتها؛ باغتيال الجعبري وتدمير منصات صواريخ فجر 5، وبعدها لم تكن سوى تقطيع وقت وقتل وتدمير ومجازر هدفها أن يصرخ الجانب الفلسطيني أولاً.

على الجانب الآخر (الفلسطيني)، وعلى رغم الإجحاف الذي حاق بالمقاومة، إلا أن الانجاز الذي حققته «قوة الردع البدائية» جرت التضحية به على مذبح القبول بمجرد اتفاق تهدئة، لا وجود لضمانات كافية فيه لمصلحة الطرف الفلسطيني، إلى الحد الذي لم يجر الالتزام به من الجانب الإسرائيلي، حيث مارس خروقاته منذ اليوم التالي، بل إن إسرائيل من خلاله تكون قد حققت تهدئة طويلة ترقى إلى مستوى الهدنة، من دون أي مقابل.

إن مساواة الاتفاق بين الطرفين مستقبلاً في تحمل مسؤولية ما يمكن أن تجره ما جرت تسميتها بـ «الأعمال العدائية» من هذا الطرف أو ذاك، من دون تمييز بين الأعمال العدائية الإسرائيلية، وبين أعمال المقاومة المشروعة دفاعاً عن الأرض والشعب في مواجهة أي عدوان محتمل؛ هذه المساواة تصب في مصلحة إسرائيل، وتحقق لها مكاسب سياسية، فيما لا يتحقق أي مكسب لحركة «حماس» من هذه «المساواة»، على رغم وهم «الاعتراف الدولي» المزعوم، الذي يبقى من دون رصيد سياسي لها؛ إلا إذا كانت الحركة توهم نفسها أنها المعادل أو البديل لتمثيل النظام السياسي الفلسطيني، في معزل عن شقه الآخر في الضفة الغربية، وتلك هي الثمرة المرة للانقسام السياسي والجغرافي المهيمن على الوضع الوطني الفلسطيني منذ اللحظات الأولى للانقلاب الانقسامي.

من هنا، يتمثل الخلل الأساسي في الاتفاق، في تلك الورطة التي سعى الوسطاء إلى تلبيسها لحركة «حماس»، وكأنها أصبحت «دولة في مقابل دولة»، فما جرى توصيفه بـ «الأعمال العدائية» لا ينطبق أساساً على حركة مقاومة شعبية هي في النهاية حركة تحرر وطني، لم تصل إلى أي من أهدافها بعد. الأمر الذي قد يشجع إسرائيل مستقبلاً على التعامل بالمثل مع الضفة الغربية وتعاطيها مع القوى والفصائل الوطنية فيها، من منطلق وصف نضالاتها بالأعمال العدائية. وربما تصل الأمور إلى اعتبار السلطة الفلسطينية سلطة «دولة معادية» تستحق شن الحرب ضدها، فيما لو انفجرت انتفاضة جديدة؛ ليس في مقدور أحد وقفها، وكان يمكن انفجارها في حال استمرت حرب غزة وطالت، أو انتقلت إلى مستوى آخر من مستوياتها؛ بشن حرب برية كان القرار في شأنها يشهد مستويات عليا من التردد وعدم اليقين.

إن قراءة الاتفاق قراءة متمعنة، تتجاوز الفخاخ المنصوبة على السطح، تكاد تصل إلى حد اعتباره صياغة إسرائيلية تمت الموافقة عليها من الجانبين الوسيطين (الأميركي والمصري) في معزل عما أراده الجانب الفلسطيني (فصائل ومنظمات شعبية وأهلية)، من قبيل إلغاء المنطقة الأمنية العازلة، وإعلان إلغاء الحصار، والتزام الجانب الإسرائيلي ببنود الاتفاق وعدم الخروج عن تفاهمات جرى الاتفاق في شأنها صراحة أو مداورة، وذلك من قبيل مسألة «تهريب السلاح»، فهل وافق الفلسطينيون على هذه المسألة الأخيرة مثلاً؟ وهل جرى التخلي عن رفع الحصار، مقابل نص ملتبس لا يفي بالغرض والأهداف الفلسطينية، من قبيل تلك الصياغة التي تقول «فتح المعابر وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع وعدم تقييد حركة السكان»… هل يعني هذا إلغاء للحصار، أم استمرار الحال على ما كان عليه؟

عن مثل هذه الأسئلة أجابت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية (4/12)، وإن بطريقة غير مباشرة، حين رأت أن إرساء اتفاق التهدئة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل في قطاع غزة، مرهون بقدرة الحكومة المصرية على وقف تهريب الأسلحة التي تتدفق إلى القطاع المحاصر عبر شبه جزيرة سيناء. وذلك على رغم مما تعانيه من مشاكل داخلية واضطرابات لا حصر لها».

وكان الرئيس باراك أوباما قد أكد اخيراً أهمية سيناء في الصراع بين إسرائيل و «حماس»، عندما تعهد الشهر الماضي بالمساعدة في قمع تهريب الأسلحة، كجزء من التزام الولايات المتحدة بالهدنة، إلا أنه من غير الواضح إلى أي مدى تعتزم الولايات المتحدة الغوص في سيناء؟ لهذا تنقل الصحيفة عن «باراك بارفي» المتخصص في الشرق الأوسط مع مؤسسة أميركا الجديدة قوله: «نحن نشهد تدويل سيناء. إننا نشهد حدوث فراغ أمني ونرى الإحباط من السكان المحليين، الأمر الذي يجعل سيناء قنبلة موقوتة».

من هنا يمكن القول إنه بات يخشى عملياً أن تتلاشى أهمية وفعالية هذا الاتفاق جراء ما يجري هناك، حيث الوجود القوي لقوى متطرفة، بعضها أكثر تشدداً من «حماس» نفسها، ما يضعها في مواجهة تحديات صعبة في صفوف جبهتها غير المتماثلة أصلاً؛ لا في قطاع غزة نفسه، ولا في شبه جزيرة سيناء. وهذا في حد ذاته لا يقدم لحركة «حماس» أي آفاق محتملة لتطوير قطاع غزة باتجاه أن يصبح كياناً سياسياً مؤقتاً أو دائماً، في ظل انسداد التسوية والمفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية؛ وفي ظل وجود قوي لجماعات أكثر تطرفاً أصبح لها وجود ملموس في غزة، ولها امتداداتها في سيناء.

على العموم يمكن القول إن مكامن الخطر في الاتفاق، تلك الجوانب الأمنية التي لم تعلن، وبقيت طي كتمان الأطراف المعنية وتلك الضامنة. لكن الأخطر هو أن يتحول اتفاق التهدئة إلى اتفاق هدنة دائم؛ على ما هو الحال مع لبنان مثلاً. ما قد يتيح الالتفاف على مطلب الدولة الفلسطينية المستقلة في إطار «حل الدولتين»، لنصبح في وقت من الأوقات أمام حل عملي لإقامة «دولة موقتة» في غزة فقط، لا تلزم إسرائيل بشيء، بل على العكس تتيح لها تحسين شروط تقاسمها الوظيفي مع الأردن ومع السلطة الفلسطينية، كخطوة أو خطوات لا بد منها، لتحسين شروط دويلة الحكم الذاتي في بقايا دولة مفترضة، قضمتها وتستمر في قضمها المخططات الاستيطانية المتواصلة. لكن الأخطر أن تتحول غزة متراساً جديداً لقوى التطرف المتنامية في سيناء، ومادة لصراع إقليمي يمتد وينتشر عبر الحدود المصرية – الفلسطينية.

الحياة، لندن، 19/12/2012

مقالات ذات صلة