
مروان عبد العال: أرسم أثر الأحداث وإحساسها
منى سكرية منى سكرية 12 أغسطس 2025
مروان عبد العال متنقل في حقول ألغام فلسطين، وقد أعطته منذ ما قبل ولادتها ثيمتها والألم وسؤال الوجود، فمنحها القلم والريشة والمعول وغرس الزيتون… معه هذا الحوار بين لوحات معرضه الفردي الأول في ملتقى السفير/ بيروت الذي تراوح بين 1 و4/8 الجاري والذي نظّمته أكاديمية دار الثقافة ضمن نشاطاتها في شهر تموز/ يوليو 2025 ضمن “أيام غسان الثقافية”.
(*) في داخلك مجموعة “مروانات”: السياسي، والمناضل، والروائي، والفنان التشكيلي، والمولود والمقيم في الوجع الفلسطيني. كيف يلعب المايسترو أدواره فيتيح لواحدة من هذه “المروانات” أن تطفو وتبدع، ويُسكت الأخرى؟
من أصعب الإجابات عن الأسئلة أن يحدّث الشخص عن “من أنا” بالمعنى الفلسفي، لأن هناك شخصية تتضمن تركيبًا متعدّدًا، مع أنني أراه نسقًا واحدًا في مجال واحد، ولا أرى فروقًا بينها. بمعنى أنني لم أشعر ولا مرة أنني مثقف بعيد عن السياسة، أو أنني سياسي أفتقد إلى الثقافة. وحتى بالمعنى الفني والأدبي، توجد علاقة بيني وبين السرديات. كلها سرديات تقع في النقطة نفسها، وهنا تلعب البيئة دورها، وكذلك الأوضاع والظروف، إذ تتحكّم كلها في بروز أي حالة على حساب أخرى. لا مواعيد عندي للرسم مثلًا؛ فقد يغيب لسنوات أحيانًا، ثم يأتي فجأة في لحظات لا أتوقعها، لكنه يخدم الفكرة نفسها: خدمة القضية.
(*) كيف تعكس لوحاتك القضية الفلسطينية، وبخاصة غزة، من خلال أسلوبك الفني؟
أنا أرسم مسائل متعلقة بالإحساس، بالأثر، أي لا أرسم شيئًا له علاقة بالحدث نفسه. قدرتي على تصوير الحدث صعبة، لكنني أستطيع أن ألمس الأثر النابع من الحدث. الأثر موجود هنا، في اللون، وفي الحركات. وإلى جانب المدارس الفنية الرمزية والانطباعية، أنا من القائلين بوجود مدرسة تأثيرية.
(*) يلاحظ زائر المعرض أن التغريبة الفلسطينية حاضرة في لوحاتك الـ 24، وكأنها تنتمي إلى المدرسة الفنية الفلسطينية منذ ما قبل النكبة، أو واكبت النكبة من عام 1948 إلى اليوم. نراها في ثيمات حاضرة: الخيمة، الفدائي، رقصة الألم، انتفاضة الجذور، وغيرها من عناوين لوحاتك هنا؟
صحيح. أولًا، أنا ابن اللحظة والتجربة وكل هذا الوجع، أنا ابن الألم. كل ذلك لم أستورده من خارج تجربتي. لذلك أرى “بعيني الثالثة”، إذا شئنا التسمية. فالألوان عندي قد لا تأخذ طابعها الحقيقي، ولذلك أسميتها “ألوان معلقة” (عنوان المعرض). فأنا ابن المخيم، والحياة – بالمعنى العملي في المخيم– معلّقة، وفلسطين قضية معلّقة، ودمُنا معلّق، وأحيانًا نجد شهداء معلّقين.
هذا معرضي الفردي الأول، بعد مشاركتي في معارض شبابية بالمخيمات. هذه المرة وضعت قلبي على الحائط أمام العالم ومن دون حماية، ليس من أجل العرض فحسب، بل من أجل المواجهة بكل معنى الكلمة. من أجل غزة، ومن أجل ذاك الطفل الجالس على ركام منزل والديه، وبيده ورقة وقلم يرسم عليها بدلًا من أن يصرخ. لطالما سألت نفسي عن أحلام هذا الطفل التي كان يحاول رسمها. لم تمر صورته عندي مرورًا عابرًا.
منسقة المعرض تلقي كلمة الافتتاح
(*) هل، كي يتحقق هذا الفرز على صعيد عالمي بين ضمير ولا ضمير، بين إنسان ولا إنسانية، بين توحش ومحبة، كي يعيد التوازن للمجتمعات البشرية، يجب أن يسيل الكثير من الدم الفلسطيني؟
الشعب الفلسطيني يريد شيئًا بسيطًا ينشده من العالم: نريد العدل لأننا شعب يعيش في ظلم، وبالتالي كل ما يحدث، كل هذه التداعيات، كل هذا الفراغ، كل هذا الدمار، كل هؤلاء الشهداء، إنما هو نتيجة هروب العالم من تحقيق العدل لنا. نحن شعب موجود في أرضه، وأتى من اقتلعنا. نحن شعب يريد الحرية.
(*) امتدادًا لسؤالي: إن ما يحدث من أنواع التغيير والتعبير في بعض المجتمعات وعن بعض النخب على صعيد عالمي يمكننا أن نسمّيه “الوعي الفلسطيني” عند هؤلاء، فهل هذا الدم الفلسطيني المتدفق هو العنصر في تشكيل الوعي لدى شعوب العالم؟
فلسطين تشتري حضورها بدم أبنائها، وتتجدّد بهذا الوقود. هذه من حقائق التاريخ. لم يجدّدها أي شيء آخر، لا خطاب عربي في القمة العربية، ولا في الأمم المتحدة. جدّدها هذا الظلم أمام عدو مفرط دائمًا في امتصاص هذا الدم الفلسطيني، وفي الإيغال بالمزيد منه. ولكن بالمقابل، فإن هذا العدو يفرط في المزيد من سقوطه الأخلاقي، ومن سمعته أمام العالم. صرنا نلاحظ أن إسرائيل محاصرة، لا تسندها سوى الولايات المتحدة الأميركية. وهذا ما كان ليحدث لولا أن صارت فلسطين مرآة العالم.
(*) واحدة من لوحاتك هنا “الحصان ليس وحيدًا” تبدو وكأنها تختصر كل المشهد الفلسطيني؟
فيها حصان. كل فنان عنده أحصنته، وكل حصان مختلف عن الآخر، كأنه تعبير عن مرحلة. هناك حصان جميل، وحصان هجين، وحصان أشبه بالعروس جميل، وقد رسمناه نحن الفلسطينيين وزيّناه. حصاني هنا أشبه بتنين، حصان في أعلى درجات الغضب. هذا حصان المقاومة، والمقاومة ليست وحيدة، معها الأحرف العربية التي تعبّر عن هويتنا، ومعها الحناظلة في كل الأماكن على الأرض. رسمت أيضًا المجاهد من ثورة 1936 على ظهر حصانه، أي العودة إلى الجذور.
(*) وهذا واضح من عناوين بعض اللوحات الأخرى: انتفاضة الجذور، الماضي الآتي، ملامح لم تسقط…
المقاومة هي الطريق الأم، وهي جزء من الأمة ومن تاريخها. لم نبدأ الآن بالحديث عن مقاومة الاستعمار، نحن لدينا رموز كبيرة. بصراحة، شعرت بسرور وأنا أسمع أسماء مدارس غزة التي دُمّرت بالقصف الإسرائيلي: مدرسة عمر المختار، مدرسة صلاح الدين وغيرهما. هؤلاء قادة مقاومة ضد الاستعمار، وقد شكلوا وعينا وتاريخنا. هؤلاء مقاومة ورموزها، وأصبحوا بصمة قوية في التاريخ. هذه الفكرة التي أقولها حاولت أن تتضمنها لوحتي “الحصان ليس وحيدًا”، فكانت لوحة شاملة. البعض رأى فيها أشبه بـ “غيرنيكا” فلسطينية.
“الحصان ليس وحيدًا”
(*) لنتطرّق إلى لوحة “أشيرة مرّت من هنا”… أشيرة كأنه اسم أنثى، فمن هي؟
أشيرة ستكون عنوان عملي الروائي المقبل الذي سيصدر. وكرمزية، وصلت أشيرة إلى درجة الألوهة. هي إلهة كنعانية، ومثلها عناة، لكن لعب اليهود على تشويه التاريخ بجعلهم أشيرة إلهة يهودية من سبط يهوه. حاولوا احتلال الذاكرة والتراث والتاريخ الفلسطيني. عملي الروائي سيشرح الكثير عن أشيرة والتاريخ.
(*) هل تعتبر أعمالك شكلًا من أشكال المقاومة الثقافية؟
صحيح. ذات مرة شاهدت فرقة كورال تقدّم عملًا في رام الله، استعادوا فيه أشيرة، وأنها كانت تزرع غصن الرمان في أي مكان، فكان ينبت محلّ المدن التي تدمّرت، ثم يعود أهلها ويزرعون فيها. وكأن أشيرة أم الأرض، فخطرت ببالي أنها أم فلسطين، أشيرة هي فلسطين ونحن أولادها. طبعًا أنا كتبت قصة واقعية بعنوان “مرّت من هنا”، لأنها قضت كل حياتها وهي تبحث عن أولادها الذين فُقِد أثرهم في هذه الحرب، ولكن، وعندما كانت تبحث عنهم، وجدت نفسها وتاريخها وحكايتها. إذًا، أولادها كلهم ماتوا، لكن الرواية لن تموت.
“الفلسطينيزم ليس تعبيرًا، بل هو القضية الإنسانية ذات البعد الأممي، التي هي اختبار للأخلاق، اختبار للقيمة، للعدالة، اختبار للنظام”
(*) عنوان المعرض هو “ألوان معلقة”، هل تحمل هذه التسمية دلالة على أن كل شيء في حياة الفلسطيني معلّق؟ أليست فلسطين روح ثابتة، وولّادة، وخصبة، وبالتالي غير معلقة…
أعتبر أن فلسطين بالمعنى الرمزي كوطن، هي أكبر من وطن. فكرة وطن تمثل اختصارًا ربما لحرية الشرق كله، وليس فقط مجرد بلد بالمعنى العقاري نتقاتل عليه. هي هوية أوسع من الهوية بالمعنى القُطري لفلسطين.
(*) هذا يعيدنا إلى سؤالي السابق حول نهوض الوعي الفلسطيني عند الآخر؟
قبل فترة صدر كتاب “الفلسطينيزم” عن جامعة بير زيت للكاتب والأكاديمي إياد البرغوثي. وهناك “التسيونيزم” أي الصهيونية. ولكن صار العالم، على إثرها، مفصولًا في الفلسطينيزم. الفلسطينيزم ليس تعبيرًا، بل هو القضية الإنسانية ذات البعد الأممي، التي هي اختبار للأخلاق، اختبار للقيمة، للعدالة، اختبار للنظام. عندما يكون العالم مفروزًا بهذه الطريقة، فلن يعود بإمكانك أن تكون محايدًا. وعندما تكون لديك قضية لم تجد حلولها بعد، فعليك ألّا تكتفي بالحلم، بل أن تعمل على إيجاد الحلول لها كي لا تبقى معلقة.
(*) هل تعتقد أن تنامي الوعي بالقضية الفلسطينية، الذي بدأت ملامحه تظهر في بعض المجتمعات الغربية، يمكن أن يسهم في جعل هذه الألوان تستقر بدل أن تبقى معلّقة؟
نعم، سؤال مهم. قبل فترة التقيت وفدًا أوروبيًا، قلت لهم إن آباءكم حملوا عقدة ذنب المحرقة اليهودية في أوروبا، وها أنتم الآن تشاهدون نقلًا مباشرًا للمحرقة التي تحصل في غزة وتجاه أبناء الشعب الفلسطيني، أفلا يجب عليكم أن تحملوا هذا الذنب في ضميركم؟ ما تقومون به تجاه فلسطين إنما هو دفاع عن أنفسكم وعن مستقبلكم وعن أخلاقكم أكثر مما هو دفاع عن فلسطين. أجابوني: نعم، هذا صحيح. فلسطين أغرقتهم في دمها. في أوروبا، إنكار المحرقة هو معاداة للسامية، والآن، الذي يقود حملة إنكار الإبادة في فلسطين هم أنفسهم معادون للسامية. قال لي جورج عبد الله إن من كان يقر بوجود إبادة في غزة يُعتبر معاديًا للسامية، واليوم يقرّون بوجود إبادة للفلسطينيين. هذا هو الانقلاب الذي حصل.
(*) إحدى اللوحات اسمها “أم سعد”، وهي عنوان عمل روائي للشهيد غسان كنفاني. هل هو تكريم لذكرى غسان، وقد احتفلت أكاديمية دار الثقافة في مخيم مار الياس (بيروت)، بجهود منسقة المعرض، ابنتك والمحرّضة لك لإتمامه، تغريد عبد العال، فأحيت عددًا من الأنشطة في الشهر المنصرم؟
من دون شك، لقد خلق غسان رموزًا كبيرة، وترك أثرًا عميقًا في داخلي، خاصة في المجال الروائي والإنساني. وهذا شكّل بالنسبة لي حافزًا كبيرًا. أنا لا أرى انفصالًا بين العمل الروائي والعمل السياسي. وعندما أُكرّم “أم سعد” فهو تكريم لكل نساء المخيم، من أم شهيد أو رفيقة أو مناضلة. غسان أعطى “أم سعد” توصيفًا بأنها “جيش في امرأة”.
(*) في إحدى المقابلات مع أم سعد (آمنة ياسين)، وهي قريبة الشهيد كنفاني، وعلى لسانها قالت إنها وصلت للتوّ بعد وقوع التفجير بسيارته، وبدأت تلملم أشلاءه، وأنها حملت قلبه بيدها وبقي ينبض لدقائق؟
أنا عرفت عن ساعة يده التي وجدوها معلقة على شجرة قريبة من مكان الانفجار. وقد كتبت مقالة قلت فيها إن ساعة غسان ما تزال تدق، حتى وإن كان جسده قد تمزّق. ساعة غسان هي نحن.
(*) هل تماهيك مع كل هذه الثيمات هو تماهٍ وجودي مع الزمن؟ أم صراع مع الزمن؟
أكيد، هذا الصراع هو صراع مفتوح، ولطالما أفكر بالزمن القادم أكثر من الزمن الماضي. الزمن الماضي يترك ترسبات في داخلنا، لكن علينا التفكير في كيفية استثماره، فإذا هدرناه نخسر الزمن. دائمًا عندي هاجس ألّا نخسر الزمن، وعدونا يقاتل كي يكسب الزمن.
(*) لو نظرتَ إلى الثورة الفلسطينية والقضية الفلسطينية وكل الشعب الفلسطيني كرسم بياني، صعد وهبط وصعد، بشكل تراجيدي وحقيقي ووهمي، وبكل أشكال الحقائق والوقائع في الحياة، كيف ينظر مروان عبد العال، ومن منظار بصيرته و”عينه الثالثة” وتقييمه، إلى تلك المحطات؟ هل هي مرحلة على وشك أن تنتهي، أم مرحلة رماد سيتبركن (من بركان) جمرها بأكثر مما هو غير مرئي؟
نحن الآن وسط كل هذا الخراب، كما غيرنا. كل العرب حولنا يدفعون ثمن سقوط إسرائيل، لأن هذا السقوط، هذا الارتطام، الذي لن أقول إنه سيحصل غدًا، ولكن برأيي، هذه الخسائر التي نشاهدها، وبهذه الفظاعة وبهذه الوحشية الآن، تعني أنه كيان مرعوب من الغد. مرعوب من الزمن. هذا التوحش والهستيريا في إدارة الحرب تحمل معانيَ لما أقول. هو يعرف تمامًا أن هذه الحقيقة لم يُلغها. لقد عمل ما بوسعه على إلغاء السردية الفلسطينية، لكنها تجددت أكثر، وصارت أقوى. الآن أنا أحكي عن تغييرات جوهرية جرت في العالم حول مسألة فلسطين، وهذا كان عنصر بحث. الآن أُعيد تجديده بكل معنى الكلمة. لا يجب أن ننتظر الزمن كي يجلب النهاية التي نريدها، لأن علينا أن نبدأ. كيف نملأ الزمن؟ نملأه بكل أشكال القوة. وأنا أعتبر أن هذه الريشة قوة.
قلم وألم
(*) بين قلم الروائي وألم الريشة، كيف يتأجج الصراخ عند مروان عبد العال؟
هذا الصراخ الداخلي لم أقله في السياسة، فقررت أن أرسمه باللون، باللوحة. هذه اللوحات جزء من السردية، والسردية البصرية لكل زائر أن يرى ما يراه.
(*) قوة الألوان في اللوحات تشكّل عنصرًا ناطقًا بمعزل عن باقي عناصر تشكّل اللوحة؟
كثير من الألوان الفرحة ألوان استعراضية. ألوان تعكس غضبًا، حزنًا، وألمًا. ليست الألوان الباهتة بالضرورة هي ألوان الحزن.
إنه ليس الحب كما يُعطى هذا التفسير دائمًا، قد يكون الفقد، الدم، والخسارة!