المقالات

مغادرة دمشق تشلع القلب وتدمع العين

مغادرة دمشق تشلع القلب وتدمع العين

نضال حمد

من يحب دمشق ومن أحبها ومن ذاق ماء الفيجة وشرب عرق السوس في أسواقها وتجول في حاراتها واكل أكلاتها الشهية واللذيذة، وسكن في مساكنها و قرأ في مدارسها وعرف العروبة في تاريخها الحي الذي لا يموت، وعاشر شعبها وشعر دوما انه سوريا وانه واحدا من أهل الشام لا يستطيع مقاومة الغضب ولا مجابهة الحزن ولا مسك العين ومنعها من ذرف الدموع حين تحين ساعة الرحيل الى بلد آخر. فكيف بأم وهي تودع بوجع ما بين الضلوع فلذة كبدها الذي لا يريد العودة الى الخارج بغية مواصلة دراسته الجامعية، مع انه جاء إليها مجازا من جامعته الأجنبية لعدة أسابيع، خوفا من القول انه ترك دمشق وهي نازفة أو تخلى عنها وهي مجروحة. فحب أولى عواصم الدنيا اكبر من أن يقاوم واكبر من أن يجابه بالدموع والغضب والحزن والعجز وواقع الحال. حب دمشق كحب الله للمؤمنين،وكحب الأم لأبنائها وكعشق العاشق لمعشوقته وكتعلق نجمة ليلة بضوء الحياة.

نشر صديقي الفلسطيني الثوري الطيب ورفيقي العربي التقدمي الغاضب جمال الشهابي على بروفيله في موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك قطعة شعرية لأم فلسطينية أو سورية لا ادري اذ بالنسبة لي ليس هناك فرق بين الفلسطينية والسورية، لأنهن سوريات وسورية عربية وفلسطين جنوب بلاد الشام.

تقول الأم :

( “انشلع قلبي” هذا هو الشعور الذي عشته اليوم وانا اودع قصي (ابني) وهو يغادر دمشق رغماً عنه…مد اجازته اكثر مما تحتمل اي إجازة…اختلق كل الأعذار الغير مقنعة وكنت اقتنع لأني اقدر مشاعره تماما…بالأمس راقبته وهو يجلس بجانبي بالسيارة…كان يودع الناس والشوارع والأشجار ويعدها ويعد نفسه بالعودة قريبا….كأنه يعتقد انه اذا بقي في دمشق…يستطيع ان يمد ذراعيه ويحتضنها ويحميها من اي خطر…أو انه يستطيع بجسده الضئيل ان يتلقى عنها الضربات والقذائف…لأنها تسكن بداخل قلبه وروحه….بالسلامة قصي…وألف سلامة الى دمشق زينة المدن وسيدة العواصم. )

مع هذه الكلمات التي ودعت فيها الأم ابنها قصي والتي وصفت فيها مشاعرها ومشاعره أثناء وداعه لدمشق أعدت استرجاع وداعي لمدينة صيدا ولمخيمي عين الحلوة في لبنان في كل مرة كنت ازور المخيم (عين الحلوة) وأودع والدي ووالدتي على أمل لقاء جديد. واستعدت لحظات خروجي من بيروت بعد إصابتي ( 1982) وتوجهي من مخيم شاتيلا الى مطار بيروت الدولي في مثل هذه الأيام من شهر آذار – مارس 1983 متجها الى ايطاليا للعلاج هناك. كنت على عربة متحركة تجرها أمي التي جاءت لوداعي، وكم كانت حزينة على سفري وسعيدة بنفس الوقت لأنها فرصتي لمغادرة الجحيم البيروتي وللعلاج والعودة الى الحياة، بعد احتلال بيروت وسيطرة الانعزاليين الفاشيين على مقاليد الحكم هناك. يومها عرفت أنني أجبر على مغادرة بيروت رغما عني ولأول مرة في حياتي متجها الى بلد آخر حيث طالت الغربة واستمرت لعدة سنين. يومها لم اشعر سوى بالضياع، كنت من على عربتي المتحركة أراقب الأمكنة والشوارع والناس وأسجل في ذاكرتي كل شيء هناك، كل شيء كنت أشاهده في طريقي من شاتيلا الى المطار. لقد كان ذلك بمثابة الألم المجبول بمشاعر العودة وأحاسيس الانتماء للمكان ولذاكرته. بكت أمي بكاء شديدا حين دخلت سيارة الإسعاف التي قادتني الى الطائرة الطليانية الخاصة، التي نقلتني مع أكثر من 100 جريح لبناني وطفل فلسطيني وحيد من مخيم شاتيلا اسمه فادي كان أيضا مصابا وقد بترت ساقه قذيفة صهيونية. لم اذرف دمعا ولم ابك في بيروت لا أعرف لماذا كان كل شيء في داخلي يكاد ينفجر، وانفجرت باكيا في مدينة بولونيا الايطالية. كم أراحني بكائي على سرير المستشفى الطلياني وكم أزاح عني أثقالا كادت تقتلني.فيما بعد من بولونيا الايطالية كانت عودتي بعد قضاء اشهر طويلة في العلاج ليس الى بيروت بل الى دمشق العروبة، التي كانت تخوض معركة المصير لإسقاط اتفاقية 17 أيار بين شارون وكتائب آل الجميل. وكانت تواجه الصهاينة وأساطيل أمريكا في لبنان. انتصرت دمشق ومعها ثورتنا الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية واسقط اتفاق 17 أيار وتحررت مناطق كثيرة من لبنان بفعل هذا الثلاثي المقاوم. فعاشت دمشق ومات من أرادها مكسورة وسبيّة. وسوف تعيش وتنتصر ام العواصم العربية وسينكسر وسينهزم كل من خطط ويخطط لإسقاطها..

الذي يجري في سورية يعز على كل عاشق أحبها وعشقها.. وكما قال رفيقي جمال الشهابي في تعليقه الثاني ” كل عاشق للمقاومة والعروبة والكرامة وفلسطين، لابدَ وأن يعشق سوريا وشعبها العربي الحقيقي.وكل ثوري حقيقي لا يتخلَى عن سوريا ولا يتآمر عليها ويوجَه لها طعنات الغدر، و يقف في الخندق الواحد مع أعداء الحريَة والكرامة الإنسانية، مهما تلطَى خلف شعارات وأيدلوجيَات .”.

يا صاحبي ورفيقي جمال قل لقصيّ ولوالدته لا ولن يصح إلا الصحيح .. ولا بد أن يعود هذا الفتى الى دمشق المنتصرة على الروم الذي حطهم الروم خلف ظهرها. وسوف يساهم قصي العائد في تضميد جراحها وإعادة عمرانها واستعادتها للأمن والسلام والحياة، في جو ديمقراطي وبلا قمع وبدون محسوبيات وبمؤسسات تحترم ولا تمتهن المواطن

مقالات ذات صلة