المقالات

الربيع العربي إذ يعصف بالاقتصاد الإسرائيلي

الربيع العربي إذ يعصف بالاقتصاد الإسرائيلي

صالح النعامي

هناك الكثير من الدلائل على أن ثورات الربيع العربي التي تتفاعل في العالم العربي تؤثر بشكل سلبي جداً على الاقتصاد الإسرائيلي؛ على الرغم من أن الدول التي شهدت هذه الثورات تعيش آلام مخاض التحول الديمقراطي العسيرة، وتكابد تعقيدات المرحلة الانتقالية؛ بشكل يجعلها أبعد ما تكون عن الاهتمام بما هو خلف حدودها.

ومع أن كل المؤشرات تدلُّ على أن الدول العربية التي شهدت ثورات، لا سيما مصر، لن يكون بوسعها التفرغ للقيام بخطوات كبيرة في المدى المنظور يمكن أن تقود لتغيير البيئة الإقليمية بشكل يؤثر على “الأمن القومي” الإسرائيلي، إلا أن حكومة نتنياهو تفترض أن التحولات التي يشهدها العالم العربي تحمل في طياتها الكثير من المخاطر الإستراتيجية، مما يستدعي زيادة نفقات إسرائيل الأمنية لتقديم ردود على هذه المخاطر.

وقد ربط المتحدثون باسم الحكومة الإسرائيلية بين التحديات الأمنية التي يفترض أن تواجهها إسرائيل مستقبلاً كنتاج للثورات العربية، وبين الخطوات الاقتصادية بالغة الصعوبة التي أقدمت عليها حكومة بنيامين نتنياهو مؤخراً، والتي تمثلت في: زيادة الضرائب، ورفع الأسعار، وتقليص الخدمات المدنية للجمهور الإسرائيلي.

إن تبعات تعاظم النفقات الأمنية لا تعكسها فقط مؤشرات الأزمة الاقتصادية؛ بل إن هناك أساسا للافتراض أنها ستقود في النهاية إلى مخاطر إستراتيجية واجتماعية، بالإضافة إلى أزمة حكم عميقة سيعاني منها الكيان الصهيوني.

مسوغات تعاظم النفقات الأمنية

منذ أن تفجرت ثورات الربيع العربي طالبت النخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية صراحة بإدخال تغييرات جذرية على حجم وبنية ميزانية الأمن، علاوة على إعادة صياغة سلم الأولويات الإسرائيلي بشكل كامل. وقد كان وزير الخارجية المستقيل أفيغدور ليبرمان أكثر وضوحاً في ربطه بين ثورات الربيع العربي وبين الحاجة لسياسة تقشف اقتصادي صارمة تسمح بتوفير مصادر لتمويل النفقات الأمنية المتعاظمة، عندما وبخ نشطاء الحراك الاجتماعي المطالبين بتقليص الأسعار وتقديم حلول لمشكلة ارتفاع أسعار الشقق السكنية، حيث قال: ” التحولات المجنونة التي يشهدها العالم العربي تفرض علينا شد الأحزمة لفترة طويلة جداً، لا متسع لترف الاحتجاجات الاجتماعية، ما دام الأمن القومي مرشحا للخطر”.

وهناك العديد من المسوغات التي تقدمها النخب الحاكمة في إسرائيل لتبرير زيادة النفقات الأمنية، كردود وقائية على ثورات التحول الديمقراطي في العالم العربي، على رأسها، الحاجة إلى إعادة بناء الجيش بشكل يسمح بالرد على التحديات الجديدة، لا سيما على صعيد تعزيز قوة وإمكانيات قيادة المنطقة الجنوبية، بسبب التحولات في مصر؛ بالإضافة إلى الحاجة لتدشين المزيد من المطارات العسكرية وتشكيل المزيد من ألوية الجيش، لا سيما ألوية المشاة.

إن أوضح مظهر على تعاظم النفقات الأمنية هو القرار الذي اتخذته حكومة نتنياهو ببناء جدار إسمنتي على طول الحدود مع مصر، وعلى طول الحدود مع سوريا، وهناك مخطط لبناء جدار على مسافات طويلة على طول الحدود مع الأردن. أن إسرائيل باتت متيقنة أن عقوداً من الهدوء التام الذي شهدته الحدود مع دول الجوار الثلاث توشك على الانتهاء، وبالتالي يتوجب إعادة تصميم مبنى القوة العسكرية ليوفر ردوداً على تداعيات التحولات الإقليمية المحتملة.

من الواضح أن بعض القرارات التي تنطوي على زيادة كبيرة في النفقات الأمنية، لا ترتبط أحياناً بمخاطر آنية، مثل التوجه لبناء جدار على طول الحدود مع الأردن؛ لكن من الواضح أن إسرائيل لا تريد أخذ أية مخاطر، وتفضل الاستثمار في مجال الدفاع الوقائي، حتى لا تؤخذ على غرة.

ومن مسوغات النفقات الأمنية حاجة إسرائيل لتعزيز قوة سلاح البحرية بشكل خاص؛ وذلك لدواع اقتصادية بالأساس. إن أكثر من 80% من التجارة الإسرائيلية تمر عبر البحار، وهناك افتراض في إسرائيل مفاده أن الثورات العربية تزيد من المخاطر على حرية حركة التجارة الإسرائيلية عبر الممرات المائية، وبالتالي هناك حاجة للاستثمار في مجال تطوير قدرات سلاح البحرية.

في الوقت ذاته، هناك مسوغات لزيادة النفقات الأمنية بسبب فقدان إسرائيل الشراكة الإستراتيجية مع مصر، بعد خلع مبارك. فالتعاون الأمني وتبادل المعلومات الاستخبارية وفر على المؤسسة الاستخبارية الإسرائيلية توظيف الكثير من الإمكانيات. في الوقت ذاته، فإن سرعة وتيرة التحولات في العالم العربي تفرض على الاستخبارات الإسرائيلية المزيد من الاستثمار في مجال جمع المعلومات الاستخبارية وبلورة التقديرات الإستراتيجية، مما يعني استهلاك مزيد من النفقات.

وقد ناقشت “لجنة الخارجية والأمن” التابعة للكنيست بالفعل مسألة زيادة نفقات الأجهزة الاستخبارية، كأحد الردود على الربيع العربي. وعلى الرغم من أنه سيناريو مستبعد حالياً، إلا أن النخب الإسرائيلية تتوقع أن تقدم مصر في يوم من الأيام على إلغاء اتفاقية “كامب ديفد”، التي تمثل بالنسبة لإسرائيل، أحد أعمدة الأمن القومي. وفي حال تحقق هذا السيناريو، فإن كارثة اقتصادية حقيقية ستحل بإسرائيل، لأن إسرائيل ستحرص عندئذ على توفير ردود عسكرية على كل المخاوف والمحاذير، في كل ما يتعلق بمصر، وهذا يعني مزيدا من الاستنزاف لموازنة الدولة.

وحتى تبدو الأمور أكثر جلاءً، فإن موازنة الأمن كانت تقتطع حوالي 47% من الموازنة العامة للدولة و37% من إجمالي الناتج المحلي قبل التوقيع على اتفاقية “كامب ديفد”، وذلك لتغطية حجم النفقات التي تطلبتها عملية إعادة بناء الجيش وفرقه وألويته، في أعقاب حرب 1973. ومن نافلة القول أن تكرر هذا السيناريو يعني تقليص معدلات النمو وبروز مظاهر الركود الاقتصادي.

الفزع من شلل مرافق الدولة

من المعروف أن 70% من العبء العسكري في إسرائيل يقع على كاهل قوات الاحتياط؛ وبالتالي لم يحدث أن شنت إسرائيل حرباً أو حتى حملة عسكرية بدون تجنيد فرق وألوية من الاحتياط. ولما كان جنود الاحتياط، في الأوضاع الطبيعية، هم المسؤولون عن تقديم الخدمات المدنية في قطاعات الدولة المختلفة من صحة وتعليم وصناعة وإنشاءات وغيرها، فإن العقيدة الأمنية الإسرائيلية، تنص على أنه يتوجب حسم المعارك والمواجهات الحربية مع العدو في أسرع وقت، لأن استمرارها لوقت طويل يعني شلل مرافق الدولة، بسبب الاعتماد على قوات الاحتياط، وهذا ما يطلق عليه مبدأ “الحرب الخاطفة”.

لكن في ظل التحولات التي يشهدها العالم العربي، فإن مخاطر نشوب توترات أمنية بين إسرائيل ومحيطها -يضطر فيها الكيان الصهيوني لشن حروب أو حملات عسكرية- قد تعاظمت؛ مما يعني أن زيادة الأعباء على قوات الاحتياط ستزداد.

ومما زاد الأمور تعقيداً، أن قدرة إسرائيل على حسم الحروب والحملات بسرعة كما كان يحدث في حروبها الكلاسيكية مع الدول العربية، قد تراجعت. وأوضح مثال على ذلك ما حدث في حرب لبنان الثانية 2006 وحربي غزة 2008 و2012. ومن الواضح أن شلل مرافق الدولة بسبب التوترات الأمنية يمثل ضربة قوية للاقتصاد الإسرائيلي.

مخاطر الهجرة العكسية

لقد قام المشروع الصهيوني على ركيزتين أساسيتين، وهما: المهاجر اليهودي والأرض العربية المحتلة. وقد كان من اللافت أن الدافع وراء هجرة معظم اليهود لإسرائيل خلال العقود الثلاثة الماضية كان السعي لتحسين أوضاعهم الاقتصادية، لا سيما أن معظم الهجرات قد جاءت من دول تعاني أزمات اقتصادية.

من هنا، فإن أية انتكاسة يتعرض لها الاقتصاد الإسرائيلي ستدفع بكثير من هؤلاء المهاجرين لمغادرة إسرائيل. ومما لا شك فيه أن الذين سيغادرون إسرائيل هم أولئك المتيقنين من أن بإمكانهم الحصول على فرص في بلاد الغرب، من ذوي الكفاءات العلمية، وهذا يعني أن تعاظم معدلات الهجرة العكسية سيشكل مصدراً آخر للمس بالاقتصاد الإسرائيلي.

فعلى سبيل المثال أدت موجات الهجرة اليهودية من الدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى زيادة عوائد الدولة من التصدير من 50 مليار دولار سنوياً، إلى 80 مليارا بعد هذه الموجات، حيث كان معظم المهاجرين من الكفاءات العلمية التي تم توظيفها في صناعات التقنية المتقدمة؛ وبالتالي يمكن الافتراض أن فرار قطاعات واسعة من ذوي الكفاءات العلمية يعني توجيه ضربة قوية للاقتصاد الإسرائيلي.

تفاقم أزمة الحكم

إن أحد أهم الأسباب التي دفعت نتنياهو لحل البرلمان وتبكير موعد الانتخابات عجزه عن تمرير موازنة الدولة للعام 2013، وذلك لأن مشروع هذه الموازنة تضمن تقليصات كبيرة على مخصصات الضمان الاجتماعي وموازنات الوزارات المدنية، وهو ما جعل شركاء نتيناهو في الحكومة يرفضون التصويت لصالح هذا المشروع.

وقد كان من الواضح أن التقليصات التي تضمنها مشروع الموازنة قد جاءت لتمويل الزيادة المقترحة في النفقات الأمنية، الآنية والمستقبلية. ومن المفارقة أن نتنياهو، وعلى الرغم من أنه في ذروة حملته الانتخابية، وفي ظل تراجع شعبية حزبه الليكود، إلا أنه اضطر لرفع أسعار بعض المواد الغذائية.

ولا خلاف بين المعلقين الاقتصاديين الصهاينة على أن أية حكومة ستشكل في إسرائيل في أعقاب الانتخابات التي ستجرى نهاية شهر يناير/كانون الثاني الجاري، ستكون مضطرة لتمرير مشروع موازنة يتضمن تقليصات غير مسبوقة في مجال الخدمات المدنية؛ علاوة على فرض مزيد من الضرائب ورفع أسعار الكثير من السلع.

ونظراً لأن جميع الحكومات التي تشكلت في إسرائيل منذ تأسيسها هي حكومات ائتلافية؛ فإنه من شبه المؤكد أن الحكومات التي ستشكل مستقبلاً لن تكون مستقرة، بسبب الخلافات التي ستتفجر بين مركباتها الحزبية بسبب التقليصات في مجال الخدمات المدنية. فالحركات التي تمثل الطبقات الفقيرة، مثل حركة “شاس”، وتلك التي تمثل الطبقة الوسطى مثل “ييش عتيد”، ستعارض تقليصات تمس بمصالح هاتين الطبقتين، مما يعني سرعة انهيار الائتلافات الحاكمة في تل أبيب بشكل غير مسبوق.

قصارى القول، يتضح بشكل واضح أن شروع العرب بالتخلص من أنظمة الاستبداد قد مكنهم من إيذاء الكيان الصهيوني، على نحو كبير؛ على الرغم من أن الأنظمة الجديدة لم تطلق طلقة واحدة على إسرائيل ولم تأمر بحالة تعبئة عامة، ومع غرقها في بحر من الأزمات الداخلية.

وهذا يؤكد أن سيادة الاستبداد في العالم العربي كان وما يزال أحد أهم الظروف التي خدمت وتخدم الكيان الصهيوني.

الجزيرة نت، الدوحة، 7/1/2013

مقالات ذات صلة