المقالات

مستقبل “إسرائيل” بين الانهيار والانبهار

مستقبل “إسرائيل” بين الانهيار والانبهار

كمال خطيب

يوم الثلاثاء القريب 2013/1/22 سيكون يوم انتخابات البرلمان الإسرائيلي التاسع عشر منذ يوم النكبة وحتى يومنا هذا، ولا أظنني في حاجة إلى كثير عناء لاستقراء ما تسفر عنه الانتخابات ومن الحزب الذي سينال النسبة الأكبر من أصوات الناخبين، وفي التالي من سيكون المرشح القادم لرئاسة الحكومة الإسرائيلية القادمة. إنني لست في حاجة إلى ذلك العناء لسببين: أما السبب الأول فهو أن كتلة اليمين وعلى رأسها نتنياهو ستكون هي الأوفر حظًا والأكثر حظوة عند الناخب الإسرائيلي. وأما السبب الثاني فإنه لا يهمني إن كان الفائز نتنياهو أو أيًا كان ممن يدعون أنهم يمثلون المركز أو الوسط أو اليسار، لأنه لا فارق في نظري، ووفق التاريخ، بين نتنياهو وبين قادة حزب العمل أو كاديما أو غيرهم من الذين شربوا من دماء شعبنا حتى الثمالة ولم يبق منهم إلا وكان له دور ونصيب في الاعتداء على شعبنا وأمتنا.

وعليه فإنني لن أتحدث عن هذا المستقبل القريب لأنها أيام وستشرق شمس يوم الأربعاء على هذا المستقبل، وقد أصبح حقيقة وواقعًا، وإنما سأتحدث عن مستقبل كل المشروع الصهيوني، هذا المستقبل الذي لن أتحدث عنه عبر تقويم شعب “المايا” حيث كان آخر يوم في رزنامتهم هو يوم 21/12/2012. ولن أتحدث عن هذا المستقبل وفق نبوءات العرافة “ماغي فرح” ولا العراف “ميشيل الحايك” الذين يستهبلون عقول كثيرين من الناس مطلع كل عام جديد وهم يتحدثون بلغة التعميم عن المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه، وإن كان حدوث هزات أرضية أو موت زعيم أو أزمة اقتصادية أو حرب مدمرة مما لا يخلو منه عام من الأعوام.

إنني سأتحدث عن مستقبل المؤسسة الإسرائيلية والمشروع الصهيوني بيقين المسلم، الذي يعتقد اعتقادًا جازمًا أن لنشأة الأمم والحضارات ولانهيارها نواميس كونية يستطيع أن يعرفها كل من قرأ تاريخ الدول الكبرى والإمبراطوريات العظمى والشعوب الغابرة، وحيث أن المؤسسة الإسرائيلية ومشروعها الصهيوني ليست طرازًا فريدًا ولا نطًا مختلفًا، ولا هي أخذت عهدًا من الله سبحانه ألا يجري عليها ناموسه الكوني الرباني الذي أجراه على كل الأمم والحضارات وأنها ستعيش إلى الأبد وستظل قوية إلى الأبد، خاصة أن لبني إسرائيل تجربة في إدعاء أنهم شعب الله المختار وأنهم الأفضل والأسمى والأنقى بين الشعوب، وسبق وقالوا كما قال الله سبحانه: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة، قل أتّخذتم عند الله عهدًا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون) (البقرة: 79)، فإذا كان تجرأوا وزعموا بأنهم لن يعذبوا في النار إلا أيامًا معدودة، حيث سيخرجون منها إلى الجنة لأن النار لم تخلق إلا للأغيار والشعوب الأخرى غير شعب الله المختار، فلمَ لا يتجرأون بالزعم أنهم خُلقوا للأبد وأنهم إلى بقاء دائم بينما غيرهم إلى زوال؟

إن ناموس الله الكوني أن القوي لا يظل قويًا إلى الأبد، وأن الضعيف كذلك لا يظل ضعيفًا إلى الأبد، وأن الأيام دول يومٌ لك ويوم عليك (وتلك الأيام نداولها بين الناس) (آل عمران:13)، وعليه فإنني بلسان المسلم الذي يؤمن بسنة الله تعالى في نهضة الشعوب وتراجعها وإقبال الأمم وإدبارها، على يقين أن مآل هذا المشروع إلى تراجع وإلى ترهل وإلى انحسار. ولكنني ليس من خلال هذه القراءة الإيمانية الكونية سأقرأ مستقبل المؤسسة الإسرائيلية كذلك وإنما سأقرأ هذا المستقبل من خلال قراءتي للواقع الإسرائيلي، سأقرأه بلسان بعض العقلاء الإسرائيليين وما أقلهم ! وبلسان بعض من يجرؤون على كسر حاجز الصمت منهم وما أندرهم ! وبلسان من يغردون خارج سرب وجوقة المغرورين من القادة العسكريين والقادة السياسيين الإسرائيليين، هؤلاء الذين اختاروا السباحة بعكس التيار وقالوا كلمات تعبر عن هول الشعور بالخوف من المستقبل على هذا المشروع، هؤلاء ممن كانوا بالأمس القريب والقريب جدًا يجلسون في كابينة القيادة ويجلسون في أهم المواقع الأمنية والسياسية الإسرائيلية، هؤلاء الذين كانوا قادة كبارا في الجيش ومن كانوا الرقم الأول في أجهزة الاستخبارات، وإذا بهم اليوم يتحدثون عن عجزهم وخوفهم من المستقبل، إنهم يتنبأون بالمصير المشؤوم والمستقبل الغامض والتحديات الجسام والأعداء الجدد الذين ظهروا لهم من بطن الغيب، بل راحوا يضربون لهم على السياج والشريط الحدودي الذي كانوا يظنونه آمنًا.

إنه مستقبل المؤسسة الإسرائيلية والمشروع الصهيوني بين الانهيار وبين الانبهار. لقد عاشت المؤسسة الإسرائيلية سنين طوالا داخل حدود آمنة بعد أن هزمت الجيوش الاستعراضية للأنظمة العربية الفاسدة، سواءً في نكبة 1948 أو في نكسة 1967.ومع تقلب واختلاف أسماء من كانوا قادة هذه الدول إلا أن القاسم المشترك الذي كان يجمعهم جميعًا أنهم كانوا حراسًا مؤتمنين على حماية حدود المؤسسة الإسرائيلية وإن كانوا تظاهروا بالعداء لها وأنهم الذين يستعدون ليوم المواجهة لاسترداد الأراضي العربية التي احتلت في سيناء والجولان والضفة الغربية. ولقد مرت أكثر من أربعين سنة ولم يأت ذلك اليوم الذي لأجله أفقر الشعب وسلبت المقدرات وأثقل الشعب بالضرائب وسُنت القوانين الظالمة تحت زعم أعداد الجبهة الداخلية استعدادًا لليوم الذي لم يأت ولن يأتي معهم.

وما أن حل الربيع العربي الذي نعيش هذه الأيام ذكراه الثانية وراحت تتهادى تلك الأصنام وتنهار تلك الأنظمة الفاسدة، كان ذلك في مصر بانهيار نظام حسني مبارك (هذا الذي قال عنه بنيامين بن اليعيزر وزير الدفاع الإسرائيلي السابق أنه كان كنزًا تاريخيًا لإسرائيل)، وكان ذلك في تونس وليبيا، وهو ما يحصل الآن في سوريا عبر ثورة الشعب السوري البطل ضد نظام بشار الأسد حارس الحدود الإسرائيلية الشمالية بموازاة حارسها على الحدود الجنوبية حسني مبارك. لقد انهار نظام الحارس الجنوبي ويوشك الحارس الشمالي أن ينهار، وسبق للمؤسسة الإسرائيلية أن خسرت عملاءها ونقطة انطلاقها إلى أفريقيا (ليبيا وتونس)، وسبق للمؤسسة الإسرائيلية أن خسرت حليفًا استراتيجيًا هو تركيا لتجد المؤسسة الإسرائيلية نفسها مرة واحدة تعيش منكشفة بعد انهيار حلفائها بل وعملائها.

وفي المقابل وإذا بالمؤسسة الإسرائيلية تعيش على وقع الانبهار بانتفاضة الشعوب العربية وبركانها الهادر وغضبها الكامن، والتي عبرّت عنها في ثورات الربيع العربي. ولكن هذا الانبهار بلغ مداه عبر إعلان هذه الشعوب عن هويتها الحضارية والفكرية، سواءً كان ذلك خلال المظاهرات والثورات أو كان ذلك في صناديق الانتخابات، لما اختارت، وبإرادتها، قادتها الجدد الذين ينتمون للمشروع الإسلامي المبارك، كما حصل في مصر وفي تونس ويوشك أن يكون بإذن الله تعالى في سوريا.

ولم يتوقف الانبهار الإسرائيلي عند هذا الحد، وإنما الذي زادها ذهولًا ما وصلت إليه إمكانات الجيران في غزة وقبلها في جنوب لبنان. وكما يقول المثل الشعبي (هوايتين عالراس بوجعو). فإذا كانت صواريخ لبنان القادمة من الشمال قد تجاوزت حيفا، فإن صواريخ غزة القادمة من الجنوب قد تجاوزت تل أبيب في حالة من الذهول والانبهار أربكت كل الحسابات وأفشلت كل الخطط والبرامج.

إنه الانبهار أمام جهل أجهزة استخباراتهم وموسادهم وعدم تنبؤهم ومعرفتهم بإرهاصات الطوفان والزلزال الذي راح يتحرك حولهم. وإنه الانبهار بقوة وقدرة هذه الشعوب على التغيير إذا جاءت ساعة الحسم، وهم الذين كانوا مطمئنين إلى أن شعوبنا قد دُجّنت، وأنها قد حُقِنت بحقنة الذل والخوف. وأنه الانبهار على قدرة شباب الأمة على الإبداع والابتكار وأن يكونوا أقوى من الظروف القاهرة، كما حصل في غزة سواءً بأسطورة صمودها على الحصار والتجويع واستخدام الأنفاق ليصبح هو حبل السرة (الحبل السري) الذي منه تتغذى من الأم مصر، أو عبر أسطورة قدرتها على تصنيع الأسلحة التي بها تدافع عن نفسها وشعبها، لا بل الذي تعدى ذلك إلى درجة ضرب العمق الإسرائيلي في أهم وأخطر المواقع فيه، وهو ما لم يكن بحسبان المؤسسة الإسرائيلية يومًا من الأيام. وليس ذلك وحسب، بل إنها المتغيرات السريعة في سوريا جعلت المقاتلين الإسلاميين على حدود المؤسسة الإسرائيلية الشمالية قريبًا من الجولان، وهم الذين كانت المؤسسة الإسرائيلية تحرض الدنيا عليهم وهم هناك بعيدًا في البوسنة وأفغانستان والشيشان والعراق، وإذا بهم اليوم على بعد أمتار، الأمر الذي دفع المؤسسة الإسرائيلية لبناء سياج عظيم على طول حدودها مع الجولان بدل السياج الذي كان هناك منذ العام 1967، حيث كانت المؤسسة الإسرائيلية آمنة مطمئنة لحراسة نظام الأسد وجيشه لحدودها الشمالية.

مستقبل المؤسسة الإسرائيلية بين الانهيار وبين الانبهار إذن، إنه الانهيار للحلفاء والعملاء، وإنه الانبهار بالقوة للمقاومين والرافضين لهذا المشروع الإسرائيلي والصهيوني.وبين هذا الانهيار والانبهار، فإنه الواقع الإسرائيلي الداخلي الذي سيشهد، بل ويصرخ، خوفًا من المستقبل. وإلا فكيف وبماذا يمكن أن نفسر أن واحدا من بين كل أربعة شبان إسرائيليين يتهربون من الجندية؟ وكيف لنا أن نفسر أن 216 جنديًا إسرائيليًا قد انتحروا خلال عام واحد؟ وكيف لنا أن نفسر أن 47% من الإسرائيليين من سكان الجنوب يفكرون جديًا بالهجرة وترك البلاد إلى بلاد أخرى لأنهم باتوا يدركون أن هذه البلاد لم تعد آمنة وأن مستقبل أولادهم أصبح في خطر، لا بل إن نسبة من يهاجرون إلى الدول الغربية وأمريكا كل شهر أصبح أكثر من الذين يُجلبون عبر مشاريع الوكالة اليهودية للاستيطان هنا.

وإذا عبرنا ومررنا مرور الكرام وبدون مزيد تفصيل، حيث هذه القضايا تُحدّث عن نفسها، إنها حالة التردي الأخلاقي والقيمي التي تنخر في المجتمع الإسرائيلي. وأنا لا أتحدث هنا عن تجارة النساء، ولا أتحدث عن ظاهرة الدعارة، ولا أتحدث عن كون تل أبيب هي صاحبة المرتبة الأولى عالميًا بوجود المثيلين جنسيًا والشاذين جنسيا فيها، وإنما أتحدث عن الفضائح التي زكمت الأنوف كون أبطالها هم من أصحاب “المقامات الرفيعة” في الدولة، سواءً رئيسها أو وزرائها أو كبار ضباط الشرطة فيها.

وبالعودة إلى تلك الشخصيات القيادية الإسرائيلية الهامة التي راحت تصرخ وتولول من المستقبل الخطير والغامض الذي ينتظر الدولة العبرية والمشروع الإسرائيلي الصهيوني، فإنه لا شك أن هؤلاء حينما كانوا في مواقعهم الرسمية، كانوا يعرفون ما يعرفونه ويتحدثون عنه اليوم، إلا أن خصوصية مواقعهم والقيود الوظيفية التي كانوا فيها جعلت كلامهم أو مواقفهم لا تقال إلا بين يدي المسؤولين السياسيين، لكنهم اليوم وقد تحرروا من تلك القيود الوظيفية فإنهم راحوا يتحدثون بما تجيش به صدورهم، ليس إفشاءً لأسرار عسكرية وإنما بثًا لمخاوف وتعبيرًا عن قلق، بل واستشعارًا لما تحمله قادمات الأيام من مخاطر على هذا المشروع.

إنها قائمة طويلة من أولئك القادة العسكريين والأمنيين والسياسيين الإسرائيليين الذين راحوا يتحدثون عن ذلك المستقبل المرعب الذي ينتظر المؤسسة الإسرائيلية. فها هو يوفال ديسكن ؛رئيس جهاز “الشاباك” الأخير قبل رئيس الجهاز الحالي كوهين، وها هو الجنرال عوزي ديان؛ مستشار الأمن القومي الإسرائيلي لرئيس الوزراء نتنياهو، وها هو الجنرال مئير داغان ؛رئيس جهاز الموساد السابق، وها هو عاموس يدلين ؛رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، وها هو أبراهام بورغ؛ رئيس الكنيست السابق، وها هو إيهود أولمرت ؛رئيس الحكومة السابق وغيرهم وغيرهم كثير، ودون أن نخوض في تفاصيل ما قاله كل واحد من هؤلاء إلا أن القاسم المشترك لهم جميعًا وإن اختلفت عباراتهم، هو الخوف على مستقبل المؤسسة الإسرائيلية والقلق على مصيرها والمخاطر التي تتهددها، وإن كانت كلمة وتحذيرات رئيس جهاز الشاباك ديسكين تختصر كل الكلمات لما قال (إن تفكك وتشرذم المجتمع الإسرائيلي وانفراط عقده هو أخطر علينا من القنبلة النووية الإيرانية). وليس هذا وحسب بل إنه نزع الثقة الذي يصل حد الاتهام بالاستهتار بمصير الشعب الإسرائيلي من قبل القادة السياسيين في إشارة واضحة إلى نتنياهو وباراك وغيرهما.

نعم؛ إن مستقبل المؤسسة الإسرائيلية لن يكون عبر معرفة من سيكون رئيس الوزراء القادم، ولا من هو الحزب صاحب أكبر عدد من النواب والمقاعد في البرلمان الجديد، ولا عن تفاصيل الائتلاف الحكومي ونصيب كل حزب من شركاء الائتلاف من كعكة الميزانية والمخصصات، إن كل هذا لن يغير من حقيقة المستقبل الغامض والسوداوي الذي يتخوف منه أولئك المغردون خارج السرب.

وعليه فإن مستقبل المؤسسة الإسرائيلية، وإن لم يتحدث عنه العرافون الدجالون من نجوم الفضائيات نهاية كل عام، وإن لم يتحدث عنه العرافون من أتباع وتلاميذ الراف سالي وأبو حصيرة، إنه إن لم يتحدث عنه كل هؤلاء إلا أنني أعرف أكثر منهم حقيقة هذا المستقبل، وماذا ينتظر المشروع الصهيوني.

إن قادة المشروع الصهيوني ما يزالون كفارس يركب حصانا قويًا وسريعًا، حيث يصل إلى مشارف صحراء وبدل أن يتراجع إلى الوراء إلا أن غروره يجعله يندفع خلف السراب في عمق الصحراء لتبدأ عندها رحلة التيه والضياع.

وإذا كانت المؤسسة الإسرائيلية ومستقبلها يمتد بين الانهيار والانبهار – وهذه حقيقة ليست نبوءة- إلا أن الحقيقة الأعظم والآكد هي أن المستقبل المزهر وأن الغد المشرق وأن الربيع القادم إنما هو لنا. نعم؛ لنا نحن المسلمين، وهذا ليس ضربا في الرمل ولا ضربا من الخيال، ولا هي نبوءات العرافين، وإنما هي وعد رب العالمين بأن يظهر هذا الدين ولو كره الكافرون، ثم إنه الواقع والمتغيرات من حولنا تنبئنا بأننا على أبواب فجر قادم وصبح قريب بإذن الله سبحانه. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي بالمغفرة

والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

فلسطينيو 48، 18/1/2013

مقالات ذات صلة